مالك أنه سمع بن شِهَابٍ يَقُولُ سَمِعْتُ بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ مَا حُجِرَ الْحِجْرُ
فَطَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ إِلَّا إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُسْنَدُ في أول هذا الباب ففيه وُجُوبُ مَعْرِفَةِ بِنَاءِ
قُرَيْشٍ لِلْكَعْبَةِ وَأَنَّ بُنْيَانَهُمْ لَهَا لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ
وَالْقَوَاعِدُ أُسُسُ الْبَيْتِ وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ
قَالُوا وَالْوَاحِدَةُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي قَعَدَتْ عَنِ الْوِلَادَةِ قَاعِدٌ بِغَيْرِ هَاءٍ وَالْجَمْعُ فِيهِمَا
جَمِيعًا قَوَاعِدُ
قَالَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) الْبَقَرَةِ 127
قَالَ (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) النُّورِ 60
وَقَدْ ذَكَرْنَا بُنْيَانَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ وَمَنْ بناه أيضا قبلهما على حسب مَا رُوِيَ
قَبْلَ ذَلِكَ
فَقَدْ قِيلَ آدَمُ أَوَّلُ مَنْ أُمِرَ بِبُنْيَانِهِ
وَقيِلَ بَلْ شِيثُ بْنُ آدَمَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا هُنَاكَ
وَنَذْكُرُ ها هنا بُنْيَانَ قُرَيْشٍ لَهُ خَاصَّةً وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ لِعَائِشَةَ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا حَدِيثُ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَيَّامٍ النَّاسِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْفِقْهِ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185
وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَلِمِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ
وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُمَا كَسَائِرِ حِيطَانِ الْبَيْتِ الَّتِي لَا تُسْتَلَمُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ عَلَى
حَقِيقَةِ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)
وَأَمَّا بُنْيَانُ قُرَيْشٍ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ فَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَارِيخِ بِنَائِهِمْ لَهُ
فَذَكَرَ موسى بن عقبة عن بن شِهَابٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ الْفُجَّارِ وَبِنَاءِ الْكَعْبَةِ خمس عشرة
سنة
وذكر بن وهب عن بن لهيعة عن بن الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ
(عَزَّ وَجَلَّ) بَعَثَ مُحَمَّدًا عَلَى رَأْسِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بُنِيَ الْبَيْتُ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بَعْدَ الْفِيلِ وَقَالَ
بن إِسْحَاقَ عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآثَارَ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِي التَّمْهِيدِ
وذكر عبد الرزاق عن بن جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَ الْبَيْتُ عَرِيشًا تَقْتَحِمُهُ الْعَنْزُ
حَتَّى إِذَا كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بَنَتْهُ
قُرَيْشٌ
وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ مَبْنِيَّةً بِالرَّضْمِ لَيْسَ فِيهَا مَدَدٌ وَكَانَتْ قَدْرَ مَا تَقْتَحِمُهَا الْعَنَاقُ وَكَانَتْ ثِيَابُهَا
تُوضَعُ عَلَيْهَا تُسْدَلُ سَدْلًا وَكَانَ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ مَوْضُوعًا عَلَى سُورِهَا بَادِيًا وَكَانَتْ
ذَاتَ رُكْنَيْنِ هَيْئَةَ هَذِهِ الْحَلْقَةِ فَأَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مِنَ الرُّومِ تُرِيدُ الْحَبَشَةُ حَتَّى إِذَا كَانُوا
قَرِيبًا مِنْ جِدَّةَ انْكَسَرَتِ السَّفِينَةُ فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ لِيَأْخُذُوا خَشَبَهَا فَوَجَدُوا رُومِيًّا عِنْدَهَا
فَأَخَذُوا الْخَشَبَ وَقَدِمُوا بِالرُّومِيِّ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ نَبْنِي بِهَذَا الْخَشَبِ بَيْتَ رَبِّنَا فَلَمَّا أَرَادُوا
هَدْمَهُ إِذَا هُمْ بِحَيَّةٍ عَلَى سُورِ الْبَيْتِ مِثْلَ قِطْعَةِ الْجَائِزِ سَوْدَاءُ الظَّهْرِ بَيْضَاءُ الْبَطْنِ
فَجَعَلَتْ كُلَّمَا أَتَى أَحَدٌ إِلَى الْبَيْتِ لِيَهْدِمَهُ أَوْ يَأْخُذَ مِنْ حِجَارَتِهِ سَعَتْ إِلَيْهِ فَاتِحَةً فَاهَا
فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ الْمَقَامِ فَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا رَبَّنَا لَمْ تَرْعَ أردنا تشريف
بيتك وتزيينه فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى بِذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا بَدَا لَكَ فَافْعَلْ فَسَمِعُوا خَوَاتًا فِي السَّمَاءِ
يَعْنِي صَوْتًا وَرَجَّةً فَإِذَا هُمْ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186
بِطَائِرٍ أَعْظَمُ مِنَ النَّسْرِ أَسْوَدُ الظَّهْرِ أَبْيَضُ البطن والرحلين فَغَرَزَ مَخَالِبَهُ فِي قَفَا
الْحَيَّةِ فَانْطَلَقَ بِهَا تَجُرُّ ذَنَبَهَا أَعْظَمُ مِنْ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْطَلَقَ بِهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ فَهَدَمَتْهَا
قُرَيْشٌ وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِالْحِجَارَةِ حِجَارَةِ الْوَادِي تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا فَرَفَعُوهَا فِي
السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ
وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ ضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ فَذَهَبَ يَضَعُ النَّمِرَةَ عَلَى عَاتِقِهِ فَتُرَى عَوْرَتُهُ مِنْ
صِغَرِ النَّمِرَةِ فَنُودِيَ يَا مُحَمَّدُ! خَمِّرْ عَوْرَتَكَ فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ
وَكَانَ بَيْنَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ وَبَيْنَ مُخْرَجِهِ مِنْ مَكَّةَ
وَبُنْيَانِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً
فَلَمَّا جَيَّشَ الْحُصَيْنُ بْنُ نمير فذكر حريقها في زمن بن الزبير فقال بن الزُّبَيْرِ إِنَّ
عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ
لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مِنْهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ فِي الْحِجْرِ ضَاقَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ والخشب
قال بن خثيم فأخبرني بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ وَقَالَ النَّبِيُّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا
يَزْحَفُونَ مِنْ هَذَا ويَخْرُجُونَ من هذا ففعل ذلك بن الزُّبَيْرِ
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ جَعَلَتْ لَهَا دَرَجًا يرقى عليها من يأتيها فجعلها بن الزبير لاصقة
بالأرض
قال بن خثيم وأخبرني بن سَابِطٍ أَنَّ زَيْدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا بَنَاهَا بن الزبير كشفوا عن
القواعد فإذا الْحِجْرُ مِثْلُ الْخَلِقَةِ وَالْحِجَارَةُ مُشْتَبِكَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إِذَا حُرِّكَتْ بِالْعَتَلَةِ
تَحَرَّكَ الَّذِي بِالنَّاحِيَةِ الْأُخْرَى
قال بن سَابِطٍ فَأَرَانِي ذَلِكَ لَيْلًا بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَرَأَيْتُهَا أَمْثَالَ الْخِلَفِ
مُتَشَبِّكَةً أَطْرَافُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
قَالَ مَعْمَرٌ وَأَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلُمَ
أَجْمَرَتِ امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ مِجْمَرِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ فَاحْتَرَقَتْ فَتَشَاوَرَتْ
قُرَيْشٌ فِي هَدْمِهَا وَهَابُوا هَدْمَهَا فَقَالَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَا تُرِيدُونَ بِهَذَا الْإِصْلَاحَ
أَمِ الْفَسَادَ فَقَالُوا الْإِصْلَاحَ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ الْمُصْلِحَ قَالُوا فَمَنِ الَّذِي
يَعْلُوهَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنَا أَعْلُوهَا فَأَهْدِمُهَا فَارْتَقَى الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187
ظَهْرِ الْبَيْتِ وَمَعَهُ الْفَأْسُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ ثُمَّ هَدَمَ فَلَمَّا رأته قريش
قد هدم منها ولم يأتهم مَا خَافُوا مِنَ الْعَذَابِ هَدَمُوا مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا فَبَلَغُوا مَوْضِعَ
الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ أَيُّ الْقَبَائِلِ تَلِي رَفْعَهُ حَتَّى كَادَ يَشْجُرُ بَيْنَهُمْ فَقَالُوا
تَعَالَوْا نُحَكِّمْ أَوَّلَ مَنْ يَطَّلِعُ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحٌ نَمِرَةٌ فَحَكَّمُوهُ فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ
فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَأَعْطَاهَا نَاحِيَةً من الثوب ثم ارتقى فرفع إِلَيْهِ
الرُّكْنُ فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
وذكر بن جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَمَعْنَى حَدِيثِ
الزُّهْرِيِّ هَذَا وَحَدِيثُهُمَا أَكْمَلُ وَأَتَمُّ
وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عنَ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَهْدِمَ الْكَعْبَةَ
وَأَبْنِيَهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَأَجْعَلُ لَهَا بَابَيْنِ وَأُسَوِّيهَا بِالْأَرْضِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا رَفَعُوهَا أَنْ
لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَحَبُّوا
وَرَوَيْنَا أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ ذَكَرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ مَا بَنَى الْحَجَّاجُ مِنَ
الْكَعْبَةِ وَأَنْ يَرُدَّهُ إِلَى بُنْيَانِ بن الزُّبَيْرِ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وامتثله بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا
الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمُ إِلَّا نَقَضَ الْبَيْتَ وَبَنَاهُ فَتَذْهَبُ هَيْبَتُهُ مِنْ صُدُورِ
النَّاسِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي حَديِثِ مَالِكٍ عَنِ بن شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَوَاجِبٌ إِدْخَالُهُ فِي الطَّوَافِ
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَزِمَهُ أَنْ يُدْخِلَ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يُدْخِلِ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ لَا
يُجْزِئُ وَأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَطُفِ الطَّوَافَ كَامِلًا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَطُفِ
الطَّوَافَ الْوَاجِبَ كَامِلًا يَرْجِعُ مِنْ طَوَافِهِ حَتَّى يَطُوفَهُ وهو طواف الإفاضة وممن
قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ
وهو قول بن عباس وعطاء
وكان بن عَبَّاسٍ يَقُولُ الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الْحَجِّ 29
وَيَقُولُ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188
قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مَنْ لَمْ يُدْخِلِ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ وَلَمْ يَطُفْ مِنْ
وَرَائِهِ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَلْغَى ذَلِكَ وَبَنَى عَلَى مَا كَانَ طَافَ طَوَافًا كَامِلًا
قَبْلَ أَنْ يَسْلُكَ فِي الْحِجْرِ وَلَا يعتد بما سلك فِي الْحِجْرِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَنْ سَلَكَ فِي الْحِجْرِ وَلَمْ يَطُفْ مِنْ وَرَائِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَعَادَ
الطَّوَافَ فَإِنْ كَانَ شَوْطًا قَضَاهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ خَرَجَ
مِنْ مَكَّةَ وَانْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجَّةٌ تَامٌّ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ قَالَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فَإِنْ حَلَّ
أَهْرَاقَ دَمًا
وَأَمَّا حَدِيثُهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا أُبَالِي أَصَلَّيْتُ فِي
الْحِجْرِ أَمْ في البيت فليس فيه أكثر مِنْ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَأَنَّ مَنْ صَلَّى فِيهِ
كَمَنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ
هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فِي الْحِجْرِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ
جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ
وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ
وَرُوِيَ ذلك عن بن عمر وبن الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ
وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَرَى الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ جَائِزَةً نَافِلَةً وَفَرِيضَةً وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ
أَنْ تُصَلَّى الْفَرِيضَةُ خَارِجَ الْبَيْتِ وَالنَّافِلَةُ أَيْضًا
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ صَلَاةً وَاجِبَةً فِي الْبَيْتِ وَلَا فِي الْحِجْرِ
قَالَ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ فِي الْحِجْرِ أَعَادَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ بين الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْكَعْهُمَا حَتَّى بَلَغَ بَلَدَهُ أَهْرَاقَ دَمًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ
وَأَمَّا قول بن شِهَابٍ عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ فَإِنَّمَا فِيهِ الشَّهَادَةُ بِأَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ
مَنْ لَمْ يَطُفْ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا خِلَافَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُدْخِلِ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ لَا يَجْزِيهِ ذَلِكَ الطَّوَافُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ
يَسْتَوْعِبِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ لِمَنْ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ أَمْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ عَلَى
مَا ذَكَرْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189
فَطَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ إِلَّا إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّاسُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ كُلِّهِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُسْنَدُ في أول هذا الباب ففيه وُجُوبُ مَعْرِفَةِ بِنَاءِ
قُرَيْشٍ لِلْكَعْبَةِ وَأَنَّ بُنْيَانَهُمْ لَهَا لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ
وَالْقَوَاعِدُ أُسُسُ الْبَيْتِ وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ
قَالُوا وَالْوَاحِدَةُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي قَعَدَتْ عَنِ الْوِلَادَةِ قَاعِدٌ بِغَيْرِ هَاءٍ وَالْجَمْعُ فِيهِمَا
جَمِيعًا قَوَاعِدُ
قَالَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) الْبَقَرَةِ 127
قَالَ (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) النُّورِ 60
وَقَدْ ذَكَرْنَا بُنْيَانَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ وَمَنْ بناه أيضا قبلهما على حسب مَا رُوِيَ
قَبْلَ ذَلِكَ
فَقَدْ قِيلَ آدَمُ أَوَّلُ مَنْ أُمِرَ بِبُنْيَانِهِ
وَقيِلَ بَلْ شِيثُ بْنُ آدَمَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا هُنَاكَ
وَنَذْكُرُ ها هنا بُنْيَانَ قُرَيْشٍ لَهُ خَاصَّةً وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ لِعَائِشَةَ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حِينَ بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا حَدِيثُ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَيَّامٍ النَّاسِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الْفِقْهِ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185
وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَلِمِ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ
وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُمَا كَسَائِرِ حِيطَانِ الْبَيْتِ الَّتِي لَا تُسْتَلَمُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ عَلَى
حَقِيقَةِ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)
وَأَمَّا بُنْيَانُ قُرَيْشٍ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ فَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَارِيخِ بِنَائِهِمْ لَهُ
فَذَكَرَ موسى بن عقبة عن بن شِهَابٍ قَالَ كَانَ بَيْنَ الْفُجَّارِ وَبِنَاءِ الْكَعْبَةِ خمس عشرة
سنة
وذكر بن وهب عن بن لهيعة عن بن الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ
(عَزَّ وَجَلَّ) بَعَثَ مُحَمَّدًا عَلَى رَأْسِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بُنِيَ الْبَيْتُ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بَعْدَ الْفِيلِ وَقَالَ
بن إِسْحَاقَ عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآثَارَ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِي التَّمْهِيدِ
وذكر عبد الرزاق عن بن جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَ الْبَيْتُ عَرِيشًا تَقْتَحِمُهُ الْعَنْزُ
حَتَّى إِذَا كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بَنَتْهُ
قُرَيْشٌ
وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ مَبْنِيَّةً بِالرَّضْمِ لَيْسَ فِيهَا مَدَدٌ وَكَانَتْ قَدْرَ مَا تَقْتَحِمُهَا الْعَنَاقُ وَكَانَتْ ثِيَابُهَا
تُوضَعُ عَلَيْهَا تُسْدَلُ سَدْلًا وَكَانَ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ مَوْضُوعًا عَلَى سُورِهَا بَادِيًا وَكَانَتْ
ذَاتَ رُكْنَيْنِ هَيْئَةَ هَذِهِ الْحَلْقَةِ فَأَقْبَلَتْ سَفِينَةٌ مِنَ الرُّومِ تُرِيدُ الْحَبَشَةُ حَتَّى إِذَا كَانُوا
قَرِيبًا مِنْ جِدَّةَ انْكَسَرَتِ السَّفِينَةُ فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ لِيَأْخُذُوا خَشَبَهَا فَوَجَدُوا رُومِيًّا عِنْدَهَا
فَأَخَذُوا الْخَشَبَ وَقَدِمُوا بِالرُّومِيِّ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ نَبْنِي بِهَذَا الْخَشَبِ بَيْتَ رَبِّنَا فَلَمَّا أَرَادُوا
هَدْمَهُ إِذَا هُمْ بِحَيَّةٍ عَلَى سُورِ الْبَيْتِ مِثْلَ قِطْعَةِ الْجَائِزِ سَوْدَاءُ الظَّهْرِ بَيْضَاءُ الْبَطْنِ
فَجَعَلَتْ كُلَّمَا أَتَى أَحَدٌ إِلَى الْبَيْتِ لِيَهْدِمَهُ أَوْ يَأْخُذَ مِنْ حِجَارَتِهِ سَعَتْ إِلَيْهِ فَاتِحَةً فَاهَا
فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ الْمَقَامِ فَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا رَبَّنَا لَمْ تَرْعَ أردنا تشريف
بيتك وتزيينه فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى بِذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا بَدَا لَكَ فَافْعَلْ فَسَمِعُوا خَوَاتًا فِي السَّمَاءِ
يَعْنِي صَوْتًا وَرَجَّةً فَإِذَا هُمْ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186
بِطَائِرٍ أَعْظَمُ مِنَ النَّسْرِ أَسْوَدُ الظَّهْرِ أَبْيَضُ البطن والرحلين فَغَرَزَ مَخَالِبَهُ فِي قَفَا
الْحَيَّةِ فَانْطَلَقَ بِهَا تَجُرُّ ذَنَبَهَا أَعْظَمُ مِنْ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْطَلَقَ بِهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ فَهَدَمَتْهَا
قُرَيْشٌ وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِالْحِجَارَةِ حِجَارَةِ الْوَادِي تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا فَرَفَعُوهَا فِي
السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ
وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ ضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ فَذَهَبَ يَضَعُ النَّمِرَةَ عَلَى عَاتِقِهِ فَتُرَى عَوْرَتُهُ مِنْ
صِغَرِ النَّمِرَةِ فَنُودِيَ يَا مُحَمَّدُ! خَمِّرْ عَوْرَتَكَ فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدَ ذَلِكَ
وَكَانَ بَيْنَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ وَبَيْنَ مُخْرَجِهِ مِنْ مَكَّةَ
وَبُنْيَانِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً
فَلَمَّا جَيَّشَ الْحُصَيْنُ بْنُ نمير فذكر حريقها في زمن بن الزبير فقال بن الزُّبَيْرِ إِنَّ
عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ
لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مِنْهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ فِي الْحِجْرِ ضَاقَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ والخشب
قال بن خثيم فأخبرني بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ وَقَالَ النَّبِيُّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا
يَزْحَفُونَ مِنْ هَذَا ويَخْرُجُونَ من هذا ففعل ذلك بن الزُّبَيْرِ
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ جَعَلَتْ لَهَا دَرَجًا يرقى عليها من يأتيها فجعلها بن الزبير لاصقة
بالأرض
قال بن خثيم وأخبرني بن سَابِطٍ أَنَّ زَيْدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا بَنَاهَا بن الزبير كشفوا عن
القواعد فإذا الْحِجْرُ مِثْلُ الْخَلِقَةِ وَالْحِجَارَةُ مُشْتَبِكَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إِذَا حُرِّكَتْ بِالْعَتَلَةِ
تَحَرَّكَ الَّذِي بِالنَّاحِيَةِ الْأُخْرَى
قال بن سَابِطٍ فَأَرَانِي ذَلِكَ لَيْلًا بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَرَأَيْتُهَا أَمْثَالَ الْخِلَفِ
مُتَشَبِّكَةً أَطْرَافُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
قَالَ مَعْمَرٌ وَأَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلُمَ
أَجْمَرَتِ امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ مِجْمَرِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ فَاحْتَرَقَتْ فَتَشَاوَرَتْ
قُرَيْشٌ فِي هَدْمِهَا وَهَابُوا هَدْمَهَا فَقَالَ لَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَا تُرِيدُونَ بِهَذَا الْإِصْلَاحَ
أَمِ الْفَسَادَ فَقَالُوا الْإِصْلَاحَ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ الْمُصْلِحَ قَالُوا فَمَنِ الَّذِي
يَعْلُوهَا قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنَا أَعْلُوهَا فَأَهْدِمُهَا فَارْتَقَى الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187
ظَهْرِ الْبَيْتِ وَمَعَهُ الْفَأْسُ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ ثُمَّ هَدَمَ فَلَمَّا رأته قريش
قد هدم منها ولم يأتهم مَا خَافُوا مِنَ الْعَذَابِ هَدَمُوا مَعَهُ حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا فَبَلَغُوا مَوْضِعَ
الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ أَيُّ الْقَبَائِلِ تَلِي رَفْعَهُ حَتَّى كَادَ يَشْجُرُ بَيْنَهُمْ فَقَالُوا
تَعَالَوْا نُحَكِّمْ أَوَّلَ مَنْ يَطَّلِعُ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحٌ نَمِرَةٌ فَحَكَّمُوهُ فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ
فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَأَعْطَاهَا نَاحِيَةً من الثوب ثم ارتقى فرفع إِلَيْهِ
الرُّكْنُ فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
وذكر بن جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَمَعْنَى حَدِيثِ
الزُّهْرِيِّ هَذَا وَحَدِيثُهُمَا أَكْمَلُ وَأَتَمُّ
وَفِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عنَ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَهْدِمَ الْكَعْبَةَ
وَأَبْنِيَهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَأَجْعَلُ لَهَا بَابَيْنِ وَأُسَوِّيهَا بِالْأَرْضِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا رَفَعُوهَا أَنْ
لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ أَحَبُّوا
وَرَوَيْنَا أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ ذَكَرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ مَا بَنَى الْحَجَّاجُ مِنَ
الْكَعْبَةِ وَأَنْ يَرُدَّهُ إِلَى بُنْيَانِ بن الزُّبَيْرِ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وامتثله بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا
الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمُ إِلَّا نَقَضَ الْبَيْتَ وَبَنَاهُ فَتَذْهَبُ هَيْبَتُهُ مِنْ صُدُورِ
النَّاسِ
قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي حَديِثِ مَالِكٍ عَنِ بن شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَوَاجِبٌ إِدْخَالُهُ فِي الطَّوَافِ
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَزِمَهُ أَنْ يُدْخِلَ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يُدْخِلِ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ لَا
يُجْزِئُ وَأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَطُفِ الطَّوَافَ كَامِلًا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَطُفِ
الطَّوَافَ الْوَاجِبَ كَامِلًا يَرْجِعُ مِنْ طَوَافِهِ حَتَّى يَطُوفَهُ وهو طواف الإفاضة وممن
قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ
وهو قول بن عباس وعطاء
وكان بن عَبَّاسٍ يَقُولُ الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الْحَجِّ 29
وَيَقُولُ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188
قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مَنْ لَمْ يُدْخِلِ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ وَلَمْ يَطُفْ مِنْ
وَرَائِهِ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَلْغَى ذَلِكَ وَبَنَى عَلَى مَا كَانَ طَافَ طَوَافًا كَامِلًا
قَبْلَ أَنْ يَسْلُكَ فِي الْحِجْرِ وَلَا يعتد بما سلك فِي الْحِجْرِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَنْ سَلَكَ فِي الْحِجْرِ وَلَمْ يَطُفْ مِنْ وَرَائِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَعَادَ
الطَّوَافَ فَإِنْ كَانَ شَوْطًا قَضَاهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ خَرَجَ
مِنْ مَكَّةَ وَانْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجَّةٌ تَامٌّ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ قَالَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فَإِنْ حَلَّ
أَهْرَاقَ دَمًا
وَأَمَّا حَدِيثُهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ مَا أُبَالِي أَصَلَّيْتُ فِي
الْحِجْرِ أَمْ في البيت فليس فيه أكثر مِنْ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَأَنَّ مَنْ صَلَّى فِيهِ
كَمَنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ
هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فِي الْحِجْرِ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ
جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ
وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ
وَرُوِيَ ذلك عن بن عمر وبن الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ
وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَرَى الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ جَائِزَةً نَافِلَةً وَفَرِيضَةً وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ
أَنْ تُصَلَّى الْفَرِيضَةُ خَارِجَ الْبَيْتِ وَالنَّافِلَةُ أَيْضًا
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ صَلَاةً وَاجِبَةً فِي الْبَيْتِ وَلَا فِي الْحِجْرِ
قَالَ وَمَنْ رَكَعَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ فِي الْحِجْرِ أَعَادَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ بين الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْكَعْهُمَا حَتَّى بَلَغَ بَلَدَهُ أَهْرَاقَ دَمًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ
وَأَمَّا قول بن شِهَابٍ عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ فَإِنَّمَا فِيهِ الشَّهَادَةُ بِأَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ
مَنْ لَمْ يَطُفْ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَا خِلَافَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُدْخِلِ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ لَا يَجْزِيهِ ذَلِكَ الطَّوَافُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ
يَسْتَوْعِبِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ لِمَنْ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ أَمْ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ عَلَى
مَا ذَكَرْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189
عدد المشاهدات *:
589138
589138
عدد مرات التنزيل *:
106902
106902
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 21 ماي 2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 20/01/2018