العنوان: حكم الإخصاب الصناعي والحقن المجهري: دراسة فقهية مقارنة
كتبه :فضيلة الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني
المقدمة:
الموضوع: مع التقدم الهائل في العلوم الطبية والتقنيات الحديثة، ظهرت العديد من التقنيات التي تهدف إلى معالجة قضايا العقم وتأخر الإنجاب. من أبرز هذه التقنيات هي الإخصاب الصناعي (IVF) والحقن المجهري (ICSI). وقد أثارت هذه التقنيات العديد من التساؤلات الفقهية حول حكم استخدامها في الشريعة الإسلامية، وذلك بسبب تأثيرها على مفهوم الأبوة والأمومة وأثرها على الجنين، بالإضافة إلى العلاقات التي قد تنشأ أثناء العملية.
أهمية البحث: هذه التقنية قد أثرت بشكل كبير على المجتمع الإسلامي، حيث يزداد استخدامها في العديد من الدول. ومن المهم دراسة الآراء الفقهية المختلفة حول حكم الإخصاب الصناعي والحقن المجهري؛ لتوجيه المسلمين في حال رغبتهم في استخدام هذه التقنيات بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية.
هدف البحث: يتناول هذا البحث دراسة حكم الإخصاب الصناعي والحقن المجهري من خلال استعراض الأدلة الشرعية والآراء الفقهية المتنوعة. يتم تحليل الرأي القائل بجواز هذه التقنيات وآراء الفقهاء المخالفين، مع تقديم ترجيح للرأي الأقرب للصواب وفقًا للأدلة الشرعية.
الفصل الأول: تعريف الإخصاب الصناعي والحقن المجهري
الإخصاب الصناعي (IVF):
الإخصاب الصناعي هو عملية يتم فيها جمع بويضة من المرأة وحيوان منوي من الرجل خارج الرحم، ثم يتم تخصيب البويضة في المختبر قبل إعادة زرعها في الرحم. وتستخدم هذه التقنية عندما يعاني الزوجان من مشاكل في الخصوبة.
الحقن المجهري (ICSI):
هو نوع متقدم من الإخصاب الصناعي يتم فيه حقن الحيوان المنوي مباشرة في البويضة باستخدام إبرة دقيقة. يستخدم هذا النوع من الإخصاب في حالات العقم التي يكون فيها عدد الحيوانات المنوية منخفضًا أو في حالة ضعف حركة الحيوانات المنوية.
الفصل الثاني: آراء الفقهاء في حكم الإخصاب الصناعي والحقن المجهري
القول الأول: جواز الإخصاب الصناعي والحقن المجهري:
الرأي: يرى بعض العلماء أن الإخصاب الصناعي والحقن المجهري جائزان إذا كان ذلك بين الزوجين الشرعيين. ويستند هذا الرأي إلى أن الشريعة الإسلامية لا تمنع الوسائل الطبية التي لا تتعارض مع حفظ النسل، بشرط أن يتم الالتزام بالضوابط الشرعية.
الدليل:
قال تعالى: "وَجَعَلْنَا لَكُمْ مِّنَ الْجَنَّاتِ أَفَانِيَ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مِّنَ الثَّمَرَاتِ" (الأنعام: 99). يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق الذرية ويمنح الحياة من خلال الوسائل التي يمكن للبشر استخدامها.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله، فإن الله لم يُنزل داءً إلا أنزل له شفاءً" (رواه البخاري). يدل هذا الحديث على أن استخدام الوسائل الطبية المباحة التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة جائز.
التفسير:
بناءً على هذه الأدلة، يرى بعض الفقهاء أن الإخصاب الصناعي والحقن المجهري لا يتعارضان مع الشريعة إذا تم استخدامهما ضمن الضوابط الشرعية مثل أن يكون ذلك بين الزوجين فقط.
القول الثاني: تحريم الإخصاب الصناعي والحقن المجهري:
الرأي: يرى بعض العلماء أن الإخصاب الصناعي والحقن المجهري محرم في بعض الحالات، وخاصة إذا تم اللجوء إلى وسائل غير شرعية مثل التلقيح الاصطناعي باستخدام الحيوانات المنوية من غير الزوج أو باستخدام بويضة من امرأة أخرى (التلقيح الصناعي الخارجي).
الدليل:
قال تعالى: "وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا فَٱلْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍۢ قَدَرٍۢ" (القمر: 12). وهذا يشير إلى أن النسل يتم من خلال الزواج بين الرجل والمرأة، وفي حال تجاوز هذه الحدود تتعارض مع المقاصد الشرعية.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد قسم لكل منكم رزقه، فاعملوا بالشرع" (رواه مسلم). لا يجوز استخدام تقنيات تؤدي إلى اختلاط الأنساب أو تتعارض مع أحكام الزواج الشرعي.
التفسير:
يعتقد هذا الرأي أن أي تدخل خارجي في عملية التناسل يجب أن يكون في إطار الزواج الشرعي فقط. واستخدام تقنيات الإخصاب التي تشمل خلايا من غير الزوجين قد يؤدي إلى فساد الأنساب واختلاطها، وهو ما لا يتوافق مع الشريعة.
القول الثالث: جواز الإخصاب الصناعي والحقن المجهري في حالات الضرورة:
الرأي: يرى بعض الفقهاء أن الإخصاب الصناعي والحقن المجهري جائزان في حالات الضرورة فقط، مثل العقم المستعصي الذي لا يمكن علاجه بطرق أخرى. يعتقد هؤلاء الفقهاء أن الشريعة تأذن بالضرورات التي تبيح المحظورات.
الدليل:
قال تعالى: "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" (البقرة: 173). وهذه الآية تدل على أن الضرورة تبيح المحظورات.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". يبين الحديث أنه لا يجوز أن يضر الإنسان نفسه أو غيره إلا في حالة ضرورة.
التفسير:
في حالة العقم الذي لا يمكن علاجه بطرق طبيعية، قد تكون الوسائل الطبية مثل الإخصاب الصناعي والحقن المجهري وسيلة علاجية مشروعة لتجنب الوقوع في الحرج وطلب الإنجاب، بشرط أن يكون بين الزوجين.
الفصل الثالث: ترجيح الأقوال
أدلة الترجيح:
القول الأول (جواز الإخصاب الصناعي والحقن المجهري) هو الأقرب للصواب إذا تم ضمن الضوابط الشرعية؛ أي أن العملية تتم بين الزوجين فقط دون تدخل أطراف ثالثة أو استخدام تقنيات تضر بالأنساب.
القول الثاني (التحريم) قد يكون مبالغًا في تحريمه إذا كان يتم في إطار العلاقة الزوجية.
القول الثالث (جواز الإخصاب في حالات الضرورة) أيضًا له وزنه في الحالات التي يتعذر فيها الإنجاب بالطرق الطبيعية.
الترجيح:
الرأي الأقرب للصواب هو القول الأول الذي يجيز استخدام الإخصاب الصناعي والحقن المجهري بين الزوجين طالما أنه لا يؤدي إلى اختلاط الأنساب أو يؤدي إلى ضرر بالغ بالإنسان. إذ أن الشريعة الإسلامية لا تمنع الوسائل الطبية المباحة التي تخدم الحفاظ على الحياة والنسل، بشرط أن تكون هذه العمليات ضمن ضوابط الشرع ولا تؤدي إلى مساس بالأخلاقيات الإسلامية.
الفصل الرابع: الخاتمة والتوصيات
الاستنتاج: بناء على الأدلة والآراء الفقهية المختلفة، يتبين أن الإخصاب الصناعي والحقن المجهري يمكن أن يكونا جائزين بشرط الالتزام بالضوابط الشرعية، وأهمها أن يكون بين الزوجين، وأن يتم من خلال وسائل لا تؤدي إلى اختلاط الأنساب أو ضرر بالنفس.
التوصيات:
يجب على المسلمين استشارة العلماء المختصين في الفقه والطب قبل اتخاذ أي قرار باستخدام تقنيات الإخصاب الصناعي.
ينبغي أن تتم هذه التقنيات وفقًا للمعايير الشرعية والإنسانية، مع مراعاة الحفاظ على الأسرة وصحة الأفراد.
المصادر والمراجع:
القرآن الكريم.
صحيح مسلم.
الفتاوى الكبرى – ابن تيمية.
الفقه الإسلامي وأدلته – د. وهبة الزحيلي.
التحرير والتنوير – الطاهر بن عاشور.
الفقه المعاصر – الشيخ يوسف القرضاوي.