وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
(13/490)
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} وَقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ وَ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَا تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ إِلاَّ بِالْحَقِّ بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنْ الرُّسُلِ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ عِنْدَنَا وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْقُرْآنُ وَصَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ
7520 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ
قوله: "باب قول الله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا، وقوله :{ وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} ثم ذكر آيات وآثارا إلى ذكر حديث ابن مسعود " سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك " الند بكسر النون وتشديد الدال يقال له النديد أيضا وهو نظير الشيء الذي يعارضه في أموره، وقيل ند الشيء من يشاركه في جوهره وهو ضرب من المثل لكن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل من غير عكس، قاله الراغب قال والضد أحد المتقابلين وهما الشيئان المختلفان اللذان لا يجتمعان في شيء واحد ففارق الند في المشاركة ووافقه في المعارضة، قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب إثبات نسبة الأفعال كلها لله تعالى سواء كانت من المخلوقين خيرا أو شرا فهي لله تعالى خلق وللعباد كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله تعالى فيكون شريكا وندا ومساويا له في نسبة الفعل إليه، وقد نبه الله تعالى عباده على ذلك بالآيات المذكورة وغيرها المصرحة بنفي الأنداد والآلهة المدعوة معه، فتضمنت الرد على من يزعم أنه يخلق أفعاله. وقال ما حذر به المؤمنين أو أثنى عليهم، ومنها ما وبخ به الكافرين، وحديث الباب ظاهر في ذلك. وقال الكرماني: الترجمة مشعرة بأن المقصود إثبات نفي الشريك عن الله سبحانه وتعالى، فكان المناسب ذكره في أوائل " كتاب التوحيد " لكن ليس المقصود هنا ذلك بل المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادا لله وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر عليه، وتضمن الرد على الجهمية في قولهم لا قدرة للعبد أصلا، وعلى المعتزلة حيث قالوا لا دخل لقدرة الله تعالى فيها، والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر بل أمر بين أمرين فإن قيل لا يخلو أن يكون فعل العبد بقدرة منه أولا إذ لا واسطة بين النفي والإثبات فعلى الأول يثبت القدر الذي تدعيه المعتزلة،
(13/491)
وإلا ثبت الجبر الذي هو قول الجهمية، فالجواب أن يقال: بل للعبد قدرة يفرق بها بين النازل من المنارة والساقط منها، ولكن لا تأثير لها بل فعله ذلك واقع بقدرة الله تعالى، فتأثير قدرته فيه بعد قدرة العبد عليه، وهذا هو المسمى بالكسب، وحاصل ما تعرف به قدرة العبد أنها صفة يترتب عليها الفعل والترك عادة، وتقع على وفق الإرادة انتهى، وقد أطنب البخاري في كتاب خلق أفعال العباد في تقرير هذه المسألة واستظهر بالآيات والأحاديث والآثار الواردة عن السلف في ذلك، وغرضه هنا الرد على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو، ولذلك أتبع هذا الباب بالتراجم المتعلقة بذلك، مثل باب: لا تحرك به لسانك لتعجل به، وباب: وأسروا قولكم أو اجهروا به وغيرهما، وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، ويقال لأصحابها اللفظية، واشتد إنكار الإمام أحمد ومن تبعه على من قال لفظي بالقرآن مخلوق، ويقال إن أول من قاله الحسين بن علي الكرابيسي أحد أصحاب الشافعي الناقلين لكتابه القديم، فلما بلغ ذلك أحمد بدعه وهجره، ثم قال بذل داود بن علي الأصبهاني رأس الظاهرية وهو يومئذ بنيسابور فأنكر عليه إسحاق وبلغ ذلك أحمد فلما قدم بغداد لم يأذن له في الدخول عليه، وجمع ابن أبي حاتم أسماء من أطلق على اللفظية أنهم جهمية فبلغوا عددا كثيرا من الأئمة وأفرد لذلك بابا في كتابه الرد على الجهمية، والذي يتحصل من كلام المحققين منهم أنهم أرادوا حسم المادة صونا للقرآن أن يوصف بكونه مخلوقا، وإذا حقق الأمر عليهم لم يفصح أحد منهم بأن حركة لسانه إذا قرأ قديمة. وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات: مذهب السلف والخلف من أهل الحديث والسنة أن القرآن كلام الله وهو صفة من صفات ذاته، وأما التلاوة فهم على طريقتين، منهم من فرق بين التلاوة والمتلو ومنهم من أحب ترك القول فيه، وأما ما نقل عن أحمد بن حنبل أنه سوى بينهما فإنما أراد حسم المادة لئلا يتدرع أحد إلى القول بخلق القرآن، ثم أسند من طريقين إلى أحمد أنه أنكر على من نقل عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على من قال لفظي بالقرآن مخلوق. وقال القرآن كيف تصرف غير مخلوق فأخذ بظاهر هذا، الثاني من لم يفهم مراده وهو مبين في الأول، وكذا نقل عن محمد بن أسلم الطوسي أنه قال: الصوت من المصوت كلام الله وهي عبارة رديئة لم يرد ظاهرها وإنما أراد نفي كون المتلو مخلوقا، ووقع نحو ذلك لإمام الأئمة محمد بن خزيمة، ثم رجع وله في ذلك مع تلامذته قصة مشهورة، وقد أملى أبو بكر الضبعي الفقيه أحد الأئمة من تلامذته ابن خزيمة اعتقاده وفيه لم يزل الله متكلما ولا مثل لكلامه لأنه نفي المثل عن صفاته كما نفي المثل عن ذاته، ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال: {َنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} فاستصوب ذلك ابن خزيمة ورضي به. وقال غيره ظن بعضهم أن البخاري خالف أحمد وليس كذلك بل من تدبر كلامه لم يجد فيه خلافا معنويا، لكن العالم من شأنه إذا ابتلى في رد بدعة يكون أكثر كلامه في ردها دون ما يقابلها، فلما ابتلى أحمد بمن يقول القرآن مخلوق كان أكثر كلامه في الرد عليهم حتى بالغ فأنكر على من يقف ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، وعلى من قال لفظي بالقرآن مخلوق لئلا يتدرع بذلك من يقول القرآن بلفظي مخلوق، مع أن الفرق بينهما لا يخفى عليه لكنه قد يخفى على البعض، وأما البخاري فابتلى بمن يقول أصوات العباد غير مخلوقة حتى بالغ بعضهم فقال والمداد والورق بعد الكتابة، فكان أكثر كلامه في الرد عليهم وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد مخلوقة بالآيات والأحاديث، وأطنب في ذلك حتى نسب إلى أنه من اللفظية مع أن قول من قال إن الذي يسمع من القارئ هو الصوت القديم لا يعرف عن السلف، ولا قاله أحمد
(13/492)
ولا أئمة أصحابه، وإنما سبب نسبة ذلك لأحمد قوله من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، فظنوا أنه سوى بين اللفظ والصوت، ولم ينقل عن أحمد في الصوت ما نقل عنه في اللفظ بل صرح في مواضع بأن الصوت المسموع من القارئ هو صوت القارئ، ويؤيده حديث زينوا القرآن بأصواتكم وسيأتي قريبا، والفرق بينهما أن اللفظ يضاف إلى المتكلم به ابتداء، فيقال عمن روى الحديث بلفظه، هذا لفظه ولمن رواه بغير لفظه هذا معناه ولفظه كذا، ولا يقال في شيء من ذلك هذا صوته فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه ليس هو كلام غيره، وأما قوله تعالى :{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} واختلف هل المراد جبريل أو الرسول عليهما الصلاة والسلام فالمراد به التبليغ لأن جبريل مبلغ عن الله تعالى إلى رسوله والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ للناس ولم ينقل عن أحمد قط أن فعل العبد قديم ولا صوته، وإنما أنكر إطلاق اللفظ، وصرح البخاري بأن أصوات العباد مخلوقة وأن أحمد لا يخالف ذلك، فقال في كتاب خلق أفعال العباد ما يدعونه عن أحمد ليس الكثير منه بالبين ولكنهم لم يفهموا مراده ومذهبه، والمعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وما سواه مخلوق لكنهم كرهوا التنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا الخوض فيها والتنازع إلا ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم نقل عن بعض أهل عصره أنه قال: القرآن بألفاظنا وألفاظنا بالقرآن شيء واحد، فالتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، قال: فقيل له إن التلاوة فعل التالي، فقال: ظننتها مصدرين، قال: فقيل له أرسل إلى من كتب عنك ما قلت؟ فاسترده فقال: كيف وقد مضى؟ انتهى، ومحصل ما نقل عن أهل الكلام في هذه المسألة خمسة أقوال، الأول: قول المعتزلة أنه مخلوق، والثاني: قول الكلابية أنه قديم قائم بذات الرب ليس بحروف ولا أصوات، والموجود بين الناس عبارة عنه لا عينه، والثالث: قول السالمية أنه حروف وأصوات قديمة الأعين، وهو عين هذه الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة، والرابع: قول الكرامية أنه محدث لا مخلوق، وسيأتي بسط القول فيه في الباب الذي بعده، والخامس: أنه كلام الله غير مخلوق، أنه لم يزل يتكلم إذا شاء، نص على ذلك أحمد في كتاب الرد على الجهمية، وافترق أصحابه فرقتين: منهم من قال هو لازم لذاته والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة ويسمع كلامه من شاء، أكثرهم قالوا إنه متكلم بما شاء متى شاء، وأنه نادى موسى عليه السلام حين كلمه ولم يكن ناداه من قبل، والذي استقر عليه قول الأشعرية أن القرآن كلام الله غير مخلوق، مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة، قال الله تعالى :{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} . وقال تعالى :{بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر كما تقدم في الجهاد " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، كراهية أن يناله العدو " وليس المراد ما في الصدور بل ما في الصحف، وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله. وقال بعضهم: القرآن يطلق ويراد به المقروء وهو الصفة القديمة، ويطلق ويراد به القراءة وهي الألفاظ الدالة على ذلك، وبسبب ذلك وقع الاختلاف، وأما قولهم " إنه منزه عن الحروف والأصوات " فمرادهم الكلام النفسي القائم بالذات المقدسة فهو من الصفات الموجودة القديمة، وأما الحروف فإن كانت حركات أدوات كاللسان والشفتين فهي أعراض، وإن كانت كتابة فهي أجسام، وقيام الأجسام والأعراض بذات الله تعالى محال، ويلزم من أثبت ذلك أن يقول بخلق القرآن وهو يأبى ذلك ويفر منه، فألجأ ذلك بعضهم إلى ادعاء قدم الحروف كما التزمته السالمية، ومنهم من التزم قيام ذلك بذاته، ومن شدة اللبس في هذه المسألة كثر نهي السلف عن الخوض فيها واكتفوا باعتقاد أن
(13/493)
القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يزيدوا على ذلك شيئا وهو أسلم الأقوال والله المستعان. قوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ووقع في بعض النسخ {فلا تجعلوا له أندادا ذلك رب العالمين } وهو غلط. قوله: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك - إلى قوله - بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} ساق في رواية كريمة الآيتين بكمالهما، قال الطبري هذا من الكلام الموجز الذي يراد به التقديم، والمعنى: ولقد أوحي إليك لئن أشركت - إلى قوله - من الخاسرين، وأوحي إلى الذين من قبلك مثل ما أوحي إليك من ذلك، ومعنى ليحبطن: ليبطلن ثواب عملك انتهى، والغرض هنا تشديد الوعيد على من أشرك بالله، وأن الشرك محذر منه في الشرائع كلها وأن للإنسان عملا يثاب عليه إذا سلم من الشرك ويبطل ثوابه إذا أشرك. قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أشار بإيرادها إلى ما وقع في بعض طرق الحديث المرفوع في الباب كما تقدم في تفسير سورة الفرقان، ففيه بعد قوله: "أن تزاني بحليلة جارك " ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية وكأن المصنف أشار بها إلى تفسير الجعل المذكور في الآيتين قبلها، وأن المراد الدعاء إما بمعنى النداء وإما بمعنى العبادة وإما بمعنى الاعتقاد، وقد رد أحمد على من تمسك من القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى :{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وقال هي حجة في أن القرآن مخلوق لأن المجعول مخلوق فناقضه بنحو قوله تعالى :{لا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ} وذكر ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية أن أحمد رد عليه بقوله تعالى :{فجعلهم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ليس المعنى فخلقهم، ومثله احتجاج محمد ابن أسلم الطوسي بقوله تعالى :{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ } آيَةًقال أفخلقهم بعد أن أغرقهم؟ وعن إسحاق بن راهويه أنه احتج عليه بقوله تعالى :{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} وعن نعيم بن حماد أنه احتج عليه بقوله تعالى :{جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} وعن عبد العزيز بن يحيى المكي في مناظرته لبشر المريسي حين قال له إن قوله تعالى :{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} نص في أنه مخلوق فناقضه بقوله تعالى :{قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} وبقوله تعالى :{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وحاصل ذلك أن الجعل جاء في القرآن وفي لغة العرب لمعان متعددة، قال الراغب جعل لفظ عام في الأفعال كلها ويتصرف على خمسة أوجه، الأول: صار، نحو: جعل زيد يقول، والثاني: أوجد، كقوله تعالى :{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} والثالث: إخراج شيء من شيء كقوله تعالى :{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ} والرابع: تصيير شيء على حالة مخصوصة كقوله تعالى :{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} والخامس: الحكم بالشيء على الشيء فمثال ما كان منه حقا قوله تعالى :{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ومثال ما كان باطلا قوله تعالى :{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} انتهى، وأثبت بعضهم سادسا: وهو الوصف ومثل بقوله تعالى :{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} وتقدم أنها تأتي بمعنى الدعاء والنداء والاعتقاد والعلم عند الله تعالى.
قوله: "وقال عكرمة إلخ" وصله الطبري عن هناد بن السري عن أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن عكرمة في قوله تعالى :{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال يسألهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره، ومن طريق يزيد بن الفضل الثماني عن عكرمة في هذه الآية "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قال هو قول الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فإذا سئلوا عن الله وعن صفته وصفوه بغير صفته وجعلوا له ولدا وأشركوا به وبأسانيد صحيحة عن عطاء وعن مجاهد نحوه
(13/494)
وبسند حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السموات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال قالوا الله وهم به مشركون. قوله: "وما ذكر في خلق أفعال العباد" في رواية الكشميهني: "أعمال " والأول أكثر. قوله: "وأكسابهم" بالجر عطفا على أفعال. وفي رواية: "واكتسابهم " بزيادة مثناة، وقد تقدم القول في الكسب ويأتي الإلمام به في شرح قوله تعالى :{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. قوله: "لقوله: وخلق كل شيء فقدره تقديرا" وجه الدلالة عموم قوله خلق كل شيء، والكسب شيء فيكون مخلوقا لله تعالى. قوله: "وقال مجاهد ما تنزل الملائكة إلا بالحق يعني بالرسالة والعذاب" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله: "ليسأل الصادقين عن صدقهم: المبلغين المؤدين من الرسل" هو في تفسير الفريابي أيضا بالسند المذكور، قال الطبري: معناه أخذت الميثاق من الأنبياء المذكورين كيما أسأل من أرسلتهم عما أجابتهم به أممهم. قوله: "وإنا له لحافظون عندنا" هو أيضا من قول مجاهد أخرجه الفريابي بالسند المذكور. قوله: "والذي جاء بالصدق: القرآن، وصدق به: المؤمن يقول يوم القيامة هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه" وصله الطبري من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: الذي جاء بالصدق وصدق به هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة، يقولون هذا الذي أعطيتمونا عملنا بما فيه، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الذي جاء بالصدق وصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله، ومن طريق لين إلى علي بن أبي طالب: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر، ومن طريق قتادة بسند صحيح الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن والذي صدق به المؤمنون، ومن طريق السدي الذي جاء بالصدق وصدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال الطبري الأولى أن المراد بالذي جاء بالصدق كل من دعا إلى توحيد الله والإيمان برسوله وما جاء به والمصدق به المؤمنون ويؤيده أن ذلك ورد عقب قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} الآية حديث ابن مسعود تقدم شرحه في باب إثم الزناة من " كتاب الحدود " وذكرت ما في سنده من الاختلاف على أبي وائل، والمراد هنا الإشارة إلى أن زعم أنه يخلق فعل نفسه يكون كمن جعل لله ندا، وقد ورد فيه الوعيد الشديد فيكون اعتقاده حراما.
(13/495)
(13/490)
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ} وَقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ وَ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}
وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَا تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ إِلاَّ بِالْحَقِّ بِالرِّسَالَةِ وَالْعَذَابِ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ مِنْ الرُّسُلِ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ عِنْدَنَا وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْقُرْآنُ وَصَدَّقَ بِهِ الْمُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ
7520 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ
قوله: "باب قول الله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا، وقوله :{ وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} ثم ذكر آيات وآثارا إلى ذكر حديث ابن مسعود " سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك " الند بكسر النون وتشديد الدال يقال له النديد أيضا وهو نظير الشيء الذي يعارضه في أموره، وقيل ند الشيء من يشاركه في جوهره وهو ضرب من المثل لكن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل من غير عكس، قاله الراغب قال والضد أحد المتقابلين وهما الشيئان المختلفان اللذان لا يجتمعان في شيء واحد ففارق الند في المشاركة ووافقه في المعارضة، قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب إثبات نسبة الأفعال كلها لله تعالى سواء كانت من المخلوقين خيرا أو شرا فهي لله تعالى خلق وللعباد كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله تعالى فيكون شريكا وندا ومساويا له في نسبة الفعل إليه، وقد نبه الله تعالى عباده على ذلك بالآيات المذكورة وغيرها المصرحة بنفي الأنداد والآلهة المدعوة معه، فتضمنت الرد على من يزعم أنه يخلق أفعاله. وقال ما حذر به المؤمنين أو أثنى عليهم، ومنها ما وبخ به الكافرين، وحديث الباب ظاهر في ذلك. وقال الكرماني: الترجمة مشعرة بأن المقصود إثبات نفي الشريك عن الله سبحانه وتعالى، فكان المناسب ذكره في أوائل " كتاب التوحيد " لكن ليس المقصود هنا ذلك بل المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادا لله وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر عليه، وتضمن الرد على الجهمية في قولهم لا قدرة للعبد أصلا، وعلى المعتزلة حيث قالوا لا دخل لقدرة الله تعالى فيها، والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر بل أمر بين أمرين فإن قيل لا يخلو أن يكون فعل العبد بقدرة منه أولا إذ لا واسطة بين النفي والإثبات فعلى الأول يثبت القدر الذي تدعيه المعتزلة،
(13/491)
وإلا ثبت الجبر الذي هو قول الجهمية، فالجواب أن يقال: بل للعبد قدرة يفرق بها بين النازل من المنارة والساقط منها، ولكن لا تأثير لها بل فعله ذلك واقع بقدرة الله تعالى، فتأثير قدرته فيه بعد قدرة العبد عليه، وهذا هو المسمى بالكسب، وحاصل ما تعرف به قدرة العبد أنها صفة يترتب عليها الفعل والترك عادة، وتقع على وفق الإرادة انتهى، وقد أطنب البخاري في كتاب خلق أفعال العباد في تقرير هذه المسألة واستظهر بالآيات والأحاديث والآثار الواردة عن السلف في ذلك، وغرضه هنا الرد على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو، ولذلك أتبع هذا الباب بالتراجم المتعلقة بذلك، مثل باب: لا تحرك به لسانك لتعجل به، وباب: وأسروا قولكم أو اجهروا به وغيرهما، وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، ويقال لأصحابها اللفظية، واشتد إنكار الإمام أحمد ومن تبعه على من قال لفظي بالقرآن مخلوق، ويقال إن أول من قاله الحسين بن علي الكرابيسي أحد أصحاب الشافعي الناقلين لكتابه القديم، فلما بلغ ذلك أحمد بدعه وهجره، ثم قال بذل داود بن علي الأصبهاني رأس الظاهرية وهو يومئذ بنيسابور فأنكر عليه إسحاق وبلغ ذلك أحمد فلما قدم بغداد لم يأذن له في الدخول عليه، وجمع ابن أبي حاتم أسماء من أطلق على اللفظية أنهم جهمية فبلغوا عددا كثيرا من الأئمة وأفرد لذلك بابا في كتابه الرد على الجهمية، والذي يتحصل من كلام المحققين منهم أنهم أرادوا حسم المادة صونا للقرآن أن يوصف بكونه مخلوقا، وإذا حقق الأمر عليهم لم يفصح أحد منهم بأن حركة لسانه إذا قرأ قديمة. وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات: مذهب السلف والخلف من أهل الحديث والسنة أن القرآن كلام الله وهو صفة من صفات ذاته، وأما التلاوة فهم على طريقتين، منهم من فرق بين التلاوة والمتلو ومنهم من أحب ترك القول فيه، وأما ما نقل عن أحمد بن حنبل أنه سوى بينهما فإنما أراد حسم المادة لئلا يتدرع أحد إلى القول بخلق القرآن، ثم أسند من طريقين إلى أحمد أنه أنكر على من نقل عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنكر على من قال لفظي بالقرآن مخلوق. وقال القرآن كيف تصرف غير مخلوق فأخذ بظاهر هذا، الثاني من لم يفهم مراده وهو مبين في الأول، وكذا نقل عن محمد بن أسلم الطوسي أنه قال: الصوت من المصوت كلام الله وهي عبارة رديئة لم يرد ظاهرها وإنما أراد نفي كون المتلو مخلوقا، ووقع نحو ذلك لإمام الأئمة محمد بن خزيمة، ثم رجع وله في ذلك مع تلامذته قصة مشهورة، وقد أملى أبو بكر الضبعي الفقيه أحد الأئمة من تلامذته ابن خزيمة اعتقاده وفيه لم يزل الله متكلما ولا مثل لكلامه لأنه نفي المثل عن صفاته كما نفي المثل عن ذاته، ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال: {َنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} فاستصوب ذلك ابن خزيمة ورضي به. وقال غيره ظن بعضهم أن البخاري خالف أحمد وليس كذلك بل من تدبر كلامه لم يجد فيه خلافا معنويا، لكن العالم من شأنه إذا ابتلى في رد بدعة يكون أكثر كلامه في ردها دون ما يقابلها، فلما ابتلى أحمد بمن يقول القرآن مخلوق كان أكثر كلامه في الرد عليهم حتى بالغ فأنكر على من يقف ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، وعلى من قال لفظي بالقرآن مخلوق لئلا يتدرع بذلك من يقول القرآن بلفظي مخلوق، مع أن الفرق بينهما لا يخفى عليه لكنه قد يخفى على البعض، وأما البخاري فابتلى بمن يقول أصوات العباد غير مخلوقة حتى بالغ بعضهم فقال والمداد والورق بعد الكتابة، فكان أكثر كلامه في الرد عليهم وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد مخلوقة بالآيات والأحاديث، وأطنب في ذلك حتى نسب إلى أنه من اللفظية مع أن قول من قال إن الذي يسمع من القارئ هو الصوت القديم لا يعرف عن السلف، ولا قاله أحمد
(13/492)
ولا أئمة أصحابه، وإنما سبب نسبة ذلك لأحمد قوله من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، فظنوا أنه سوى بين اللفظ والصوت، ولم ينقل عن أحمد في الصوت ما نقل عنه في اللفظ بل صرح في مواضع بأن الصوت المسموع من القارئ هو صوت القارئ، ويؤيده حديث زينوا القرآن بأصواتكم وسيأتي قريبا، والفرق بينهما أن اللفظ يضاف إلى المتكلم به ابتداء، فيقال عمن روى الحديث بلفظه، هذا لفظه ولمن رواه بغير لفظه هذا معناه ولفظه كذا، ولا يقال في شيء من ذلك هذا صوته فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه ليس هو كلام غيره، وأما قوله تعالى :{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} واختلف هل المراد جبريل أو الرسول عليهما الصلاة والسلام فالمراد به التبليغ لأن جبريل مبلغ عن الله تعالى إلى رسوله والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ للناس ولم ينقل عن أحمد قط أن فعل العبد قديم ولا صوته، وإنما أنكر إطلاق اللفظ، وصرح البخاري بأن أصوات العباد مخلوقة وأن أحمد لا يخالف ذلك، فقال في كتاب خلق أفعال العباد ما يدعونه عن أحمد ليس الكثير منه بالبين ولكنهم لم يفهموا مراده ومذهبه، والمعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وما سواه مخلوق لكنهم كرهوا التنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا الخوض فيها والتنازع إلا ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم نقل عن بعض أهل عصره أنه قال: القرآن بألفاظنا وألفاظنا بالقرآن شيء واحد، فالتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، قال: فقيل له إن التلاوة فعل التالي، فقال: ظننتها مصدرين، قال: فقيل له أرسل إلى من كتب عنك ما قلت؟ فاسترده فقال: كيف وقد مضى؟ انتهى، ومحصل ما نقل عن أهل الكلام في هذه المسألة خمسة أقوال، الأول: قول المعتزلة أنه مخلوق، والثاني: قول الكلابية أنه قديم قائم بذات الرب ليس بحروف ولا أصوات، والموجود بين الناس عبارة عنه لا عينه، والثالث: قول السالمية أنه حروف وأصوات قديمة الأعين، وهو عين هذه الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة، والرابع: قول الكرامية أنه محدث لا مخلوق، وسيأتي بسط القول فيه في الباب الذي بعده، والخامس: أنه كلام الله غير مخلوق، أنه لم يزل يتكلم إذا شاء، نص على ذلك أحمد في كتاب الرد على الجهمية، وافترق أصحابه فرقتين: منهم من قال هو لازم لذاته والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة ويسمع كلامه من شاء، أكثرهم قالوا إنه متكلم بما شاء متى شاء، وأنه نادى موسى عليه السلام حين كلمه ولم يكن ناداه من قبل، والذي استقر عليه قول الأشعرية أن القرآن كلام الله غير مخلوق، مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة، قال الله تعالى :{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} . وقال تعالى :{بلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر كما تقدم في الجهاد " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، كراهية أن يناله العدو " وليس المراد ما في الصدور بل ما في الصحف، وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله. وقال بعضهم: القرآن يطلق ويراد به المقروء وهو الصفة القديمة، ويطلق ويراد به القراءة وهي الألفاظ الدالة على ذلك، وبسبب ذلك وقع الاختلاف، وأما قولهم " إنه منزه عن الحروف والأصوات " فمرادهم الكلام النفسي القائم بالذات المقدسة فهو من الصفات الموجودة القديمة، وأما الحروف فإن كانت حركات أدوات كاللسان والشفتين فهي أعراض، وإن كانت كتابة فهي أجسام، وقيام الأجسام والأعراض بذات الله تعالى محال، ويلزم من أثبت ذلك أن يقول بخلق القرآن وهو يأبى ذلك ويفر منه، فألجأ ذلك بعضهم إلى ادعاء قدم الحروف كما التزمته السالمية، ومنهم من التزم قيام ذلك بذاته، ومن شدة اللبس في هذه المسألة كثر نهي السلف عن الخوض فيها واكتفوا باعتقاد أن
(13/493)
القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يزيدوا على ذلك شيئا وهو أسلم الأقوال والله المستعان. قوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ووقع في بعض النسخ {فلا تجعلوا له أندادا ذلك رب العالمين } وهو غلط. قوله: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك - إلى قوله - بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} ساق في رواية كريمة الآيتين بكمالهما، قال الطبري هذا من الكلام الموجز الذي يراد به التقديم، والمعنى: ولقد أوحي إليك لئن أشركت - إلى قوله - من الخاسرين، وأوحي إلى الذين من قبلك مثل ما أوحي إليك من ذلك، ومعنى ليحبطن: ليبطلن ثواب عملك انتهى، والغرض هنا تشديد الوعيد على من أشرك بالله، وأن الشرك محذر منه في الشرائع كلها وأن للإنسان عملا يثاب عليه إذا سلم من الشرك ويبطل ثوابه إذا أشرك. قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أشار بإيرادها إلى ما وقع في بعض طرق الحديث المرفوع في الباب كما تقدم في تفسير سورة الفرقان، ففيه بعد قوله: "أن تزاني بحليلة جارك " ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية وكأن المصنف أشار بها إلى تفسير الجعل المذكور في الآيتين قبلها، وأن المراد الدعاء إما بمعنى النداء وإما بمعنى العبادة وإما بمعنى الاعتقاد، وقد رد أحمد على من تمسك من القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى :{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وقال هي حجة في أن القرآن مخلوق لأن المجعول مخلوق فناقضه بنحو قوله تعالى :{لا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ} وذكر ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية أن أحمد رد عليه بقوله تعالى :{فجعلهم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ليس المعنى فخلقهم، ومثله احتجاج محمد ابن أسلم الطوسي بقوله تعالى :{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ } آيَةًقال أفخلقهم بعد أن أغرقهم؟ وعن إسحاق بن راهويه أنه احتج عليه بقوله تعالى :{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} وعن نعيم بن حماد أنه احتج عليه بقوله تعالى :{جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} وعن عبد العزيز بن يحيى المكي في مناظرته لبشر المريسي حين قال له إن قوله تعالى :{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} نص في أنه مخلوق فناقضه بقوله تعالى :{قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} وبقوله تعالى :{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وحاصل ذلك أن الجعل جاء في القرآن وفي لغة العرب لمعان متعددة، قال الراغب جعل لفظ عام في الأفعال كلها ويتصرف على خمسة أوجه، الأول: صار، نحو: جعل زيد يقول، والثاني: أوجد، كقوله تعالى :{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} والثالث: إخراج شيء من شيء كقوله تعالى :{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ} والرابع: تصيير شيء على حالة مخصوصة كقوله تعالى :{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} والخامس: الحكم بالشيء على الشيء فمثال ما كان منه حقا قوله تعالى :{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ومثال ما كان باطلا قوله تعالى :{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} انتهى، وأثبت بعضهم سادسا: وهو الوصف ومثل بقوله تعالى :{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} وتقدم أنها تأتي بمعنى الدعاء والنداء والاعتقاد والعلم عند الله تعالى.
قوله: "وقال عكرمة إلخ" وصله الطبري عن هناد بن السري عن أبي الأحوص عن سماك بن حرب عن عكرمة في قوله تعالى :{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال يسألهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره، ومن طريق يزيد بن الفضل الثماني عن عكرمة في هذه الآية "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" قال هو قول الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فإذا سئلوا عن الله وعن صفته وصفوه بغير صفته وجعلوا له ولدا وأشركوا به وبأسانيد صحيحة عن عطاء وعن مجاهد نحوه
(13/494)
وبسند حسن من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السموات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال قالوا الله وهم به مشركون. قوله: "وما ذكر في خلق أفعال العباد" في رواية الكشميهني: "أعمال " والأول أكثر. قوله: "وأكسابهم" بالجر عطفا على أفعال. وفي رواية: "واكتسابهم " بزيادة مثناة، وقد تقدم القول في الكسب ويأتي الإلمام به في شرح قوله تعالى :{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. قوله: "لقوله: وخلق كل شيء فقدره تقديرا" وجه الدلالة عموم قوله خلق كل شيء، والكسب شيء فيكون مخلوقا لله تعالى. قوله: "وقال مجاهد ما تنزل الملائكة إلا بالحق يعني بالرسالة والعذاب" وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. قوله: "ليسأل الصادقين عن صدقهم: المبلغين المؤدين من الرسل" هو في تفسير الفريابي أيضا بالسند المذكور، قال الطبري: معناه أخذت الميثاق من الأنبياء المذكورين كيما أسأل من أرسلتهم عما أجابتهم به أممهم. قوله: "وإنا له لحافظون عندنا" هو أيضا من قول مجاهد أخرجه الفريابي بالسند المذكور. قوله: "والذي جاء بالصدق: القرآن، وصدق به: المؤمن يقول يوم القيامة هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه" وصله الطبري من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: الذي جاء بالصدق وصدق به هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة، يقولون هذا الذي أعطيتمونا عملنا بما فيه، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الذي جاء بالصدق وصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله، ومن طريق لين إلى علي بن أبي طالب: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم والذي صدق به أبو بكر، ومن طريق قتادة بسند صحيح الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن والذي صدق به المؤمنون، ومن طريق السدي الذي جاء بالصدق وصدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال الطبري الأولى أن المراد بالذي جاء بالصدق كل من دعا إلى توحيد الله والإيمان برسوله وما جاء به والمصدق به المؤمنون ويؤيده أن ذلك ورد عقب قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} الآية حديث ابن مسعود تقدم شرحه في باب إثم الزناة من " كتاب الحدود " وذكرت ما في سنده من الاختلاف على أبي وائل، والمراد هنا الإشارة إلى أن زعم أنه يخلق فعل نفسه يكون كمن جعل لله ندا، وقد ورد فيه الوعيد الشديد فيكون اعتقاده حراما.
(13/495)
عدد المشاهدات *:
506960
506960
عدد مرات التنزيل *:
154923
154923
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 09/11/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 09/11/2013