يَصِيرَانِ إِلَيْهِ، وَيَقُوْلاَنِ لَهُ: يَقُوْلُ لَكَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ: مَا تَقُوْلُ فِي ابْنِ أَبِي دُوَادَ وَفِي مَالِهِ؟
فَلاَ يُجِيْبُ بِشَيْءٍ.
وَجَعَلَ يَعْقُوْبُ وَيَحْيَى يُخبِرَانِهِ بِمَا يَحدُثُ فِي أَمرِ ابْنِ دُوَادَ.
(21/325)
ثُمَّ بَعثَ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا أَشهَدَ عَلَيْهِ بِبَيعِ ضِيَاعِهِ، وَكَانَ رُبَّمَا جَاءَ يَحْيَى بنُ خَاقَانَ - وَأَبُو عَبْدِ اللهِ يُصَلِّي - فَيَجْلسُ فِي الدِّهْلِيْزِ حَتَّى يَفرغَ مِنَ الصَّلاَةِ.
وَأَمرَ المُتَوَكِّلُ أَنْ تُشْتَرَى لَنَا دَارٌ، فَقَالَ: يَا صَالِحُ.
قُلْتُ: لَبَّيكَ.
قَالَ: لَئِنْ أَقررتَ لَهُم بِشِرَاءِ دَارٍ، لَتَكُونَّنَ القَطيعَةُ بَيْنِي وَبَيْنَكُم، إِنَّمَا يُرِيْدُوْنَ أَنْ يُصَيِّرُوا هَذَا البَلَدَ لِي مَأوَىً.
فَلَمْ يَزَلْ يُدَافعُ بِشرَاءِ الدَّارِ حَتَّى انْدَفَعَ.
وَجَعَلتْ رُسلُ المُتَوَكِّلِ تَأْتِيهِ يَسْأَلُوْنَه عَنْ خَبَرِهِ، وَيَرجِعُوْنَ، فَيَقُوْلُوْنَ: هُوَ ضَعِيْفٌ.
وَفِي خِلاَلِ ذَلِكَ يَقُوْلُوْنَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَرَاكَ.
وَجَاءهُ يَعْقُوْبُ، فَقَالَ: أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مُشتَاقٌ إِلَيْكَ، وَيَقُوْلُ: انْظُرْ يَوْماً تَصِيْرُ فِيْهِ - أَيَّ يَوْمٍ - حَتَّى أُعَرِّفَهَ.
فَقَالَ: ذَاكَ إِلَيْكُم.
فَقَالَ: يَوْمُ الأَربِعَاءِ، وَخَرَجَ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ، جَاءَ، فَقَالَ: البُشْرَى يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ يَقرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُوْلُ: قَدْ أَعفَيتُكَ مِنْ لُبسِ السُّودِ وَالرُّكوبِ إِلَى وُلاَةِ العُهُوْدِ وَإِلَى الدَّارِ، فَالبَسْ مَا شِئْتَ.
فَجَعَلَ يَحمَدُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ يَعْقُوْبُ: إِنَّ لِي ابْناً بِهِ مُعْجَبٌ، وَإِنَّ لَهُ فِي قَلْبِي مَوقِعاً، فَأُحِبُّ أَنْ تُحَدِّثَه بأَحَادِيْثَ.
فَسَكَتَ، فلمَا خَرَجَ، قَالَ: أَتُرَاهُ لاَ يَرَى مَا أَنَا فِيْهِ؟!!
(21/326)
وَكَانَ يَختِمُ القُرْآنَ مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ، وَإِذَا خَتمَ، دَعَا، وَنَحْنُ نُؤَمِّنُ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ الجُمُعَةِ، وَجَّهَ إِلَيَّ وَإِلَى أَخِي. (11/277)
فَلَمَّا خَتمَ، جَعَلَ يَدعُو وَنَحْنُ نُؤَمِّنُ، فَلَمَّا فَرَغَ، جَعَلَ يَقُوْلُ: أَستَخِيرُ اللهَ مَرَّاتٍ.
فَجعلتُ أَقُوْلُ: مَا يُرِيْدُ؟
ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُعْطِي اللهَ عَهداً، إِنَّ عَهدَه كَانَ مَسْؤُوْلاً، وَقَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُوْدِ} [المَائِدَةُ: 1] إِنِّي لاَ أُحدِّثُ بِحَدِيْثٍ تَمَامٍ أَبَداً حَتَّى أَلقَى اللهَ، وَلاَ أَسْتَثنِي مِنْكُم أَحَداً.
فَخَرَجْنَا، وَجَاءَ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: إِنَا للهِ وَإِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَأُخبِرَ المُتَوَكِّلُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ: إِنَّمَا يُرِيْدُوْنَ أُحدِّثُ، وَيَكُوْنُ هَذَا البَلَدُ حَبْسِي، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبَ الَّذِيْنَ أَقَامُوا بِهَذَا البَلَدِ لَمَّا أُعطُوا فَقَبِلُوا، وَأُمِرُوا فَحَدَّثُوا، وَاللهِ لَقَدْ تَمنَّيتُ المَوْتَ فِي الأَمْرِ الَّذِي كَانَ، وَإِنِّي لأَتَمنَّى المَوْتَ فِي هَذَا وَذَاكَ، إِنَّ هَذَا فِتْنَةَ الدُّنْيا، وَذَاكَ كَانَ فِتنَةَ الدِّينِ.
ثُمَّ جَعَل يَضُمُّ أَصَابعَه، وَيَقُوْلُ: لَوْ كَانَ نَفْسِي فِي يَدِي، لأَرسَلْتُهَا.
ثُمَّ يَفتَحُ أَصَابِعَه.
وَكَانَ المُتَوَكِّلُ يُكثرُ السُّؤَالَ عَنْهُ، وَفِي خِلاَلِ ذَلِكَ يَأْمرُ لَنَا بِالمَالِ، وَيَقُوْلُ: لاَ يَعلَمْ شَيْخُهُم فَيَغْتَمَّ، مَا يُرِيْدُ مِنْهُم؟ إِنْ كَانَ هُوَ لاَ يُرِيْدُ الدُّنْيَا، فَلِمَ يَمْنَعُهُم؟!
وَقَالُوا لِلْمُتَوَكِّلِ: إِنَّه لاَ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ، وَلاَ يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشِكَ، وَيُحرِّمُ الَّذِي تَشربُ.
(21/327)
فَقَالَ: لَوْ نُشِرَ لِيَ المُعْتَصِمُ، وَقَالَ فِيْهِ شَيْئاً، لَمْ أَقبَلْ مِنْهُ.
قَالَ صَالِحٌ: ثُمَّ انحدرتُ إِلَى بَغْدَادَ، وَخَلَّفتُ عَبْدَ اللهِ عِنْدَهُ، فَإذَا عَبْدُ اللهِ قَدْ قَدِمَ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟
قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَنْحَدِرَ.
وَقَالَ: قُلْ لِصَالِحٍ: لاَ تَخرُجْ، فَأَنْتُم كُنْتُم آفَتِي، وَاللهِ لَوْ اسْتَقبلتُ مِنْ أَمرِي مَا اسْتدبرتُ، مَا أَخْرَجتُ وَاحِداً مِنْكُم مَعِي، لَولاَكُم لِمَنْ كانتْ تُوضَعُ هَذِهِ المَائِدَةُ، وَتُفرَشُ الفُرُشُ، وَتُجرَى الأَجْرَاءُ؟ (11/278)
فَكتبتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُه بِمَا قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ:
أَحسنَ اللهُ عَاقبَتكَ، وَدَفَعَ عَنْكَ كُلَّ مَكرُوهٍ وَمَحذُورٍ، الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الكِتَابِ إِلَيْكَ الَّذِي قُلْتُ لِعَبْدِ اللهِ، لاَ يَأْتِينِي مِنْكُم أَحَدٌ رَجَاءَ أَنْ يَنقطِعَ ذِكْرِي وَيَخمُلَ، وَإِذَا كُنْتُم هَا هُنَا، فَشَا ذِكرِي، وَكَانَ يَجتمعُ إِلَيْكُم قَوْمٌ يَنقُلُوْنَ أَخبَارَنَا، وَلَمْ يَكُنْ إِلاَّ خَيْرٌ، فَإِنْ أَقَمْتَ فَلَمْ يَأْتِنِي أَنْتَ وَلاَ أَخُوكَ، فَهُوَ رِضَائِي، وَلاَ تَجعلْ فِي نَفْسِكَ إِلاَّ خَيْراً، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ.
قَالَ: وَلَمَّا سَافَرْنَا، رُفِعَتِ المَائِدَةُ وَالفُرُشُ، وَكُلُّ مَا أُقِيمَ لَنَا.
قَالَ صَالِحٌ: وَبَعَثَ المُتَوَكِّلُ إِلَى أَبِي بِأَلفِ دِيْنَارٍ لِيَقْسِمَهَا، فَجَاءهُ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يُهَيِّئُ لَهُ حَرَّاقَةً، ثُمَّ جَاءَ عُبَيْدُ اللهِ بِأَلفِ دِيْنَارٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ أَذِنَ لَكَ، وَأَمرَ لَكَ بِهَذَا.
فَقَالَ: قَدْ أَعفَانِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مِمَّا أَكرَهُ.
(21/328)
فَرَدَّهَا، وَقَالَ: أَنَا رَقِيْقٌ عَلَى البَردِ، وَالظّهرُ أَرْفَقُ بِي.
فَكُتِبَ لَهُ جَوَازٌ، وَكُتِبَ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ فِي بِرِّهِ وَتَعَاهُدِهِ.
فَقَدِمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ قَالَ: يَا صَالِحُ.
قُلْتُ: لَبَّيكَ.
قَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَدعَ هَذَا الرِّزْقَ، فَإِنَّمَا تَأْخذُونَه بِسَبَبِي.
فَسَكَتَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟
قُلْتُ: أَكرَهُ أَنْ أُعطِيَكَ بِلِسَانِي، وَأُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي القَوْمِ أَكْثَرُ عِيَالاً مِنِّي، وَلاَ أُعذَرُ، وَقَدْ كُنْتُ أَشكُو إِلَيْكَ، وَتَقُوْلُ: أَمرُكَ مُنعقِدٌ بِأَمرِي، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَحُلَّ عَنِّي هَذِهِ العُقْدَةَ، وَقَدْ كُنْتَ تَدعُو لِي، فَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ اللهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ.
فَقَالَ: وَاللهِ لاَ تَفعَلُ.
فَقُلْتُ: لاَ.
فَقَالَ: لِمَ؟ فَعَلَ اللهُ بِكَ وَفَعَلَ!! (11/279)
وَذَكَرَ قِصَّةً فِي دُخُوْلِ عَبْدِ اللهِ أَخِيْهِ عَلَيْهِ، وَقَولِه وَجَوَابِه لَهُ، ثُمَّ دُخُوْلِ عَمِّه عَلَيْهِ، وَإِنْكَارِه لِلأَخذِ.
قَالَ: فَهَجَرَنَا أَبِي، وَسَدَّ الأَبْوَابَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَتَحَامَى مَنَازِلَنَا، ثُمَّ أُخْبِرَ بِأَخذِ عَمِّه، فَقَالَ: نَافَقْتَنِي وَكَذَبْتَنِي!!
ثُمَّ هَجَرَهُ، وَتَركَ الصَّلاَةَ فِي المَسْجَدِ، وَخَرَجَ إِلَى مَسْجِدٍ آخرَ يُصَلِّي فِيْهِ.
ثُمَّ ذَكرَ قِصَّةً فِي دُعَائِهِ صَالِحاً، وَمُعَاتَبَتِه لَهُ، ثُمَّ فِي كِتَابَتِهِ إِلَى يَحْيَى بنِ خَاقَانَ لِيترُكَ مَعُونَةَ أَوْلاَدِهِ، وَأَنَّ الخَبَرَ بَلَغَ المُتَوَكِّلَ، فَأَمرَ بِحَمْلِ مَا اجْتَمَعَ لَهُم مِنْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ إِلَيْهِم، فَكَانَ أَرْبَعِيْنَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
(21/329)
وَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَسَكَتَ قَلِيْلاً، وَأَطرقَ، ثُمَّ قَالَ: مَا حِيلتِي إِنْ أَرَدْتُ أَمراً، وَأَرَادَ اللهُ أَمراً؟!
قَالَ صَالِحٌ: وَكَانَ رَسُوْلُ المُتَوَكِّلِ يَأْتِي أَبِي يُبلغُه السَّلاَمَ، وَيَسْأَلُه عَنْ حَالِه.
قَالَ: فَتَأخُذُه قُشَعْرِيرَةٌ حَتَّى نُدَثِّرَهُ، ثُمَّ يَقُوْلُ: وَاللهِ لَوْ أَنَّ نَفْسِي فِي يَدِي، لأَرسَلْتُهَا.
وَجَاءَ رَسُوْلُ المُتَوَكِّلِ إِلَيْهِ يَقُوْلُ: لَوْ سَلِمَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، سَلِمتَ أَنْتَ، رَفعَ رَجُلٌ إِلَيْنَا: أَنَّ عَلَوِيّاً قَدِمَ مِنْ خُرَاسَانَ، وَأَنَّكَ وَجَّهتَ إِلَيْهِ مَنْ يَلقَاهُ، وَقَدْ حَبستَ الرَّجُلَ، وَأَردتَ ضَربَه، فَكرهتُ أَنْ تَغتَمَّ، فَمُرْ فِيْهِ.
قَالَ: هَذَا بَاطِلٌ يُخَلَّى سَبِيلُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ صَالِحٌ قِصَّةً فِي قُدُومِ المُتَوَكِّلِ بَغْدَادَ، وَإِشَارَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ عَلَى صَالِحٍ بِأَنْ لاَ يَذْهَبَ إِلَيْهِم، وَمَجِيْءِ يَحْيَى بنِ خَاقَانَ مِنْ عِنْدِ المُتَوَكِّلِ، وَقَولِهِ: قَدْ أَعفَانِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مِنْ كُلِّ مَا أَكرَهُ، وَفِي تَوْجِيْهِ أَمِيْرِ بَغْدَادَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ طَاهِرٍ إِلَى أَحْمَدَ لِيحضُرَ إِلَيْهِ، وَامتنَاعِ أَحْمَدَ، وَقَولِهِ: أَنَا رَجُلٌ لَمْ أُخَالطِ السُّلْطَانَ، وَقَدْ أَعفَانِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مِمَّا أَكرَهُ، وَهَذَا مِمَّا أَكْرَهُ. (11/280)
قَالَ: وَكَانَ قَدْ أَدمنَ الصَّوْمَ لَمَّا قَدِمَ مِنْ سَامَرَّاءَ، وَجَعَلَ لاَ يَأْكُلُ الدَّسمَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُشترَى لَهُ الشّحمُ بِدِرْهَمٍ، فَيَأكلُ مِنْهُ شَهْراً!!
الخَلاَّلُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ، أَنَّ المَرُّوْذِيَّ حَدَّثهُم، قَالَ:
(21/330)
كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بِالعَسْكَرِ يَقُوْلُ: انْظُرْ، هَلْ تَجدُ مَاءَ بَاقِلَّى؟ فَكُنْتُ رُبَّمَا بَللتُ خُبزَه بِالمَاءِ، فَيَأْكلُهُ بِالملحِ.
وَمُنْذ دَخلْنَا العَسْكَرَ إِلَى أَنْ خَرَجْنَا، مَا ذَاقَ طَبيخاً وَلاَ دَسماً.
وَعَنِ المَرُّوْذِيِّ، قَالَ: أَنبَهنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ لَيْلَةً، وَكَانَ قَدْ وَاصَلَ، فَقَالَ: هُوَ ذَا يُدَارُ بِي مِنَ الجُوْعِ، فَأَطعِمْنِي شَيْئاً.
فَجِئتُه بِأَقَلَّ مِنْ رَغِيْفٍ، فَأَكلَهُ، وَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ العَوْنَ عَلَى نَفْسِي، مَا أَكلتُ.
وَكَانَ يَقومُ إِلَى المخرجِ، فَيقعدُ يَسْتَريحُ مِنَ الجُوعِ، حَتَّى إِنْ كُنْتُ لأبُلُّ الخِرقَةَ، فَيُلقِيهَا عَلَى وَجْهِهِ، لِترجعَ نَفْسُه إِلَيْهِ، حَتَّى إِنَّه أَوْصَى مِنَ الضَّعْفِ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ - وَنَحْنُ بِالعَسْكَرِ هَذَا -:
مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُوْلُه. (11/281)
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: أَوْصَى أَبِي هَذِهِ:
هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللهَ...، إِلَى أَنْ قَالَ:
وَأَوْصَى أَنْ عَلَيَّ لِفُوْرَانَ نَحْواً مِنْ خَمْسِيْنَ دِيْنَاراً، وَهُوَ مُصدَّقٌ فِيْمَا قَالَ، فَيُقضَى مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ، فَإذَا اسْتَوفَى، أُعْطِيَ وَلَدُ عَبْدِ اللهِ وَصَالِحٍ، كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنثَى عَشْرَةَ دَرَاهِمَ.
شَهِدَ: أَبُو يُوْسُفَ، وَعَبْدُ اللهِ وَصَالِحٌ؛ ابْنَا أَحْمَدَ.
أَنْبَؤُوْنَا عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا عَلِيٍّ المُقْرِئَ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
(21/331)
كَتبَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بنِ خَاقَانَ إِلَى أَبِي يُخبرُه أَنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ أَمَرنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ أَسْأَلَكَ عَنِ القُرْآنِ، لاَ مَسْأَلَةَ امْتِحَانٍ، لَكِنْ مَسْأَلَةَ مَعْرِفَةٍ وَتَبصِرَةٍ.
فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبِي: إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بنِ يَحْيَى، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، أَحسنَ اللهُ عَاقبتَكَ أَبَا الحَسَنِ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَدَفَعَ عَنْكَ المَكَارِهَ بِرَحْمَتِه، قَدْ كَتبتُ إِلَيْكَ - رَضِيَ اللهُ عَنْكَ - بِالَّذِي سَألَ عَنْهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ بِأَمرِ القُرْآنِ بِمَا حَضَرَنِي، وَإِنِّي أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُدِيْمَ تَوفيقَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي خَوضٍ مِنَ البَاطِلِ، وَاخْتِلاَفٍ شَدِيدٍ يَنغمسُوْنَ فِيْهِ، حَتَّى أَفضَتِ الخِلاَفَةُ إِلَى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، فَنَفَى اللهُ بِهِ كُلَّ بِدعَةٍ، وَانْجلَى عَنِ النَّاسِ مَا كَانُوا فِيْهِ مِنَ الذُّلِّ وَضِيقِ
فَلاَ يُجِيْبُ بِشَيْءٍ.
وَجَعَلَ يَعْقُوْبُ وَيَحْيَى يُخبِرَانِهِ بِمَا يَحدُثُ فِي أَمرِ ابْنِ دُوَادَ.
(21/325)
ثُمَّ بَعثَ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا أَشهَدَ عَلَيْهِ بِبَيعِ ضِيَاعِهِ، وَكَانَ رُبَّمَا جَاءَ يَحْيَى بنُ خَاقَانَ - وَأَبُو عَبْدِ اللهِ يُصَلِّي - فَيَجْلسُ فِي الدِّهْلِيْزِ حَتَّى يَفرغَ مِنَ الصَّلاَةِ.
وَأَمرَ المُتَوَكِّلُ أَنْ تُشْتَرَى لَنَا دَارٌ، فَقَالَ: يَا صَالِحُ.
قُلْتُ: لَبَّيكَ.
قَالَ: لَئِنْ أَقررتَ لَهُم بِشِرَاءِ دَارٍ، لَتَكُونَّنَ القَطيعَةُ بَيْنِي وَبَيْنَكُم، إِنَّمَا يُرِيْدُوْنَ أَنْ يُصَيِّرُوا هَذَا البَلَدَ لِي مَأوَىً.
فَلَمْ يَزَلْ يُدَافعُ بِشرَاءِ الدَّارِ حَتَّى انْدَفَعَ.
وَجَعَلتْ رُسلُ المُتَوَكِّلِ تَأْتِيهِ يَسْأَلُوْنَه عَنْ خَبَرِهِ، وَيَرجِعُوْنَ، فَيَقُوْلُوْنَ: هُوَ ضَعِيْفٌ.
وَفِي خِلاَلِ ذَلِكَ يَقُوْلُوْنَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَرَاكَ.
وَجَاءهُ يَعْقُوْبُ، فَقَالَ: أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مُشتَاقٌ إِلَيْكَ، وَيَقُوْلُ: انْظُرْ يَوْماً تَصِيْرُ فِيْهِ - أَيَّ يَوْمٍ - حَتَّى أُعَرِّفَهَ.
فَقَالَ: ذَاكَ إِلَيْكُم.
فَقَالَ: يَوْمُ الأَربِعَاءِ، وَخَرَجَ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ، جَاءَ، فَقَالَ: البُشْرَى يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ يَقرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُوْلُ: قَدْ أَعفَيتُكَ مِنْ لُبسِ السُّودِ وَالرُّكوبِ إِلَى وُلاَةِ العُهُوْدِ وَإِلَى الدَّارِ، فَالبَسْ مَا شِئْتَ.
فَجَعَلَ يَحمَدُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ يَعْقُوْبُ: إِنَّ لِي ابْناً بِهِ مُعْجَبٌ، وَإِنَّ لَهُ فِي قَلْبِي مَوقِعاً، فَأُحِبُّ أَنْ تُحَدِّثَه بأَحَادِيْثَ.
فَسَكَتَ، فلمَا خَرَجَ، قَالَ: أَتُرَاهُ لاَ يَرَى مَا أَنَا فِيْهِ؟!!
(21/326)
وَكَانَ يَختِمُ القُرْآنَ مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ، وَإِذَا خَتمَ، دَعَا، وَنَحْنُ نُؤَمِّنُ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ الجُمُعَةِ، وَجَّهَ إِلَيَّ وَإِلَى أَخِي. (11/277)
فَلَمَّا خَتمَ، جَعَلَ يَدعُو وَنَحْنُ نُؤَمِّنُ، فَلَمَّا فَرَغَ، جَعَلَ يَقُوْلُ: أَستَخِيرُ اللهَ مَرَّاتٍ.
فَجعلتُ أَقُوْلُ: مَا يُرِيْدُ؟
ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُعْطِي اللهَ عَهداً، إِنَّ عَهدَه كَانَ مَسْؤُوْلاً، وَقَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُوْدِ} [المَائِدَةُ: 1] إِنِّي لاَ أُحدِّثُ بِحَدِيْثٍ تَمَامٍ أَبَداً حَتَّى أَلقَى اللهَ، وَلاَ أَسْتَثنِي مِنْكُم أَحَداً.
فَخَرَجْنَا، وَجَاءَ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: إِنَا للهِ وَإِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَأُخبِرَ المُتَوَكِّلُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ: إِنَّمَا يُرِيْدُوْنَ أُحدِّثُ، وَيَكُوْنُ هَذَا البَلَدُ حَبْسِي، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبَ الَّذِيْنَ أَقَامُوا بِهَذَا البَلَدِ لَمَّا أُعطُوا فَقَبِلُوا، وَأُمِرُوا فَحَدَّثُوا، وَاللهِ لَقَدْ تَمنَّيتُ المَوْتَ فِي الأَمْرِ الَّذِي كَانَ، وَإِنِّي لأَتَمنَّى المَوْتَ فِي هَذَا وَذَاكَ، إِنَّ هَذَا فِتْنَةَ الدُّنْيا، وَذَاكَ كَانَ فِتنَةَ الدِّينِ.
ثُمَّ جَعَل يَضُمُّ أَصَابعَه، وَيَقُوْلُ: لَوْ كَانَ نَفْسِي فِي يَدِي، لأَرسَلْتُهَا.
ثُمَّ يَفتَحُ أَصَابِعَه.
وَكَانَ المُتَوَكِّلُ يُكثرُ السُّؤَالَ عَنْهُ، وَفِي خِلاَلِ ذَلِكَ يَأْمرُ لَنَا بِالمَالِ، وَيَقُوْلُ: لاَ يَعلَمْ شَيْخُهُم فَيَغْتَمَّ، مَا يُرِيْدُ مِنْهُم؟ إِنْ كَانَ هُوَ لاَ يُرِيْدُ الدُّنْيَا، فَلِمَ يَمْنَعُهُم؟!
وَقَالُوا لِلْمُتَوَكِّلِ: إِنَّه لاَ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ، وَلاَ يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشِكَ، وَيُحرِّمُ الَّذِي تَشربُ.
(21/327)
فَقَالَ: لَوْ نُشِرَ لِيَ المُعْتَصِمُ، وَقَالَ فِيْهِ شَيْئاً، لَمْ أَقبَلْ مِنْهُ.
قَالَ صَالِحٌ: ثُمَّ انحدرتُ إِلَى بَغْدَادَ، وَخَلَّفتُ عَبْدَ اللهِ عِنْدَهُ، فَإذَا عَبْدُ اللهِ قَدْ قَدِمَ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ؟
قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَنْحَدِرَ.
وَقَالَ: قُلْ لِصَالِحٍ: لاَ تَخرُجْ، فَأَنْتُم كُنْتُم آفَتِي، وَاللهِ لَوْ اسْتَقبلتُ مِنْ أَمرِي مَا اسْتدبرتُ، مَا أَخْرَجتُ وَاحِداً مِنْكُم مَعِي، لَولاَكُم لِمَنْ كانتْ تُوضَعُ هَذِهِ المَائِدَةُ، وَتُفرَشُ الفُرُشُ، وَتُجرَى الأَجْرَاءُ؟ (11/278)
فَكتبتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُه بِمَا قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ:
أَحسنَ اللهُ عَاقبَتكَ، وَدَفَعَ عَنْكَ كُلَّ مَكرُوهٍ وَمَحذُورٍ، الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الكِتَابِ إِلَيْكَ الَّذِي قُلْتُ لِعَبْدِ اللهِ، لاَ يَأْتِينِي مِنْكُم أَحَدٌ رَجَاءَ أَنْ يَنقطِعَ ذِكْرِي وَيَخمُلَ، وَإِذَا كُنْتُم هَا هُنَا، فَشَا ذِكرِي، وَكَانَ يَجتمعُ إِلَيْكُم قَوْمٌ يَنقُلُوْنَ أَخبَارَنَا، وَلَمْ يَكُنْ إِلاَّ خَيْرٌ، فَإِنْ أَقَمْتَ فَلَمْ يَأْتِنِي أَنْتَ وَلاَ أَخُوكَ، فَهُوَ رِضَائِي، وَلاَ تَجعلْ فِي نَفْسِكَ إِلاَّ خَيْراً، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ.
قَالَ: وَلَمَّا سَافَرْنَا، رُفِعَتِ المَائِدَةُ وَالفُرُشُ، وَكُلُّ مَا أُقِيمَ لَنَا.
قَالَ صَالِحٌ: وَبَعَثَ المُتَوَكِّلُ إِلَى أَبِي بِأَلفِ دِيْنَارٍ لِيَقْسِمَهَا، فَجَاءهُ عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يُهَيِّئُ لَهُ حَرَّاقَةً، ثُمَّ جَاءَ عُبَيْدُ اللهِ بِأَلفِ دِيْنَارٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ قَدْ أَذِنَ لَكَ، وَأَمرَ لَكَ بِهَذَا.
فَقَالَ: قَدْ أَعفَانِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مِمَّا أَكرَهُ.
(21/328)
فَرَدَّهَا، وَقَالَ: أَنَا رَقِيْقٌ عَلَى البَردِ، وَالظّهرُ أَرْفَقُ بِي.
فَكُتِبَ لَهُ جَوَازٌ، وَكُتِبَ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ فِي بِرِّهِ وَتَعَاهُدِهِ.
فَقَدِمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ قَالَ: يَا صَالِحُ.
قُلْتُ: لَبَّيكَ.
قَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَدعَ هَذَا الرِّزْقَ، فَإِنَّمَا تَأْخذُونَه بِسَبَبِي.
فَسَكَتَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟
قُلْتُ: أَكرَهُ أَنْ أُعطِيَكَ بِلِسَانِي، وَأُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي القَوْمِ أَكْثَرُ عِيَالاً مِنِّي، وَلاَ أُعذَرُ، وَقَدْ كُنْتُ أَشكُو إِلَيْكَ، وَتَقُوْلُ: أَمرُكَ مُنعقِدٌ بِأَمرِي، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَحُلَّ عَنِّي هَذِهِ العُقْدَةَ، وَقَدْ كُنْتَ تَدعُو لِي، فَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ اللهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ.
فَقَالَ: وَاللهِ لاَ تَفعَلُ.
فَقُلْتُ: لاَ.
فَقَالَ: لِمَ؟ فَعَلَ اللهُ بِكَ وَفَعَلَ!! (11/279)
وَذَكَرَ قِصَّةً فِي دُخُوْلِ عَبْدِ اللهِ أَخِيْهِ عَلَيْهِ، وَقَولِه وَجَوَابِه لَهُ، ثُمَّ دُخُوْلِ عَمِّه عَلَيْهِ، وَإِنْكَارِه لِلأَخذِ.
قَالَ: فَهَجَرَنَا أَبِي، وَسَدَّ الأَبْوَابَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَتَحَامَى مَنَازِلَنَا، ثُمَّ أُخْبِرَ بِأَخذِ عَمِّه، فَقَالَ: نَافَقْتَنِي وَكَذَبْتَنِي!!
ثُمَّ هَجَرَهُ، وَتَركَ الصَّلاَةَ فِي المَسْجَدِ، وَخَرَجَ إِلَى مَسْجِدٍ آخرَ يُصَلِّي فِيْهِ.
ثُمَّ ذَكرَ قِصَّةً فِي دُعَائِهِ صَالِحاً، وَمُعَاتَبَتِه لَهُ، ثُمَّ فِي كِتَابَتِهِ إِلَى يَحْيَى بنِ خَاقَانَ لِيترُكَ مَعُونَةَ أَوْلاَدِهِ، وَأَنَّ الخَبَرَ بَلَغَ المُتَوَكِّلَ، فَأَمرَ بِحَمْلِ مَا اجْتَمَعَ لَهُم مِنْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ إِلَيْهِم، فَكَانَ أَرْبَعِيْنَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
(21/329)
وَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَسَكَتَ قَلِيْلاً، وَأَطرقَ، ثُمَّ قَالَ: مَا حِيلتِي إِنْ أَرَدْتُ أَمراً، وَأَرَادَ اللهُ أَمراً؟!
قَالَ صَالِحٌ: وَكَانَ رَسُوْلُ المُتَوَكِّلِ يَأْتِي أَبِي يُبلغُه السَّلاَمَ، وَيَسْأَلُه عَنْ حَالِه.
قَالَ: فَتَأخُذُه قُشَعْرِيرَةٌ حَتَّى نُدَثِّرَهُ، ثُمَّ يَقُوْلُ: وَاللهِ لَوْ أَنَّ نَفْسِي فِي يَدِي، لأَرسَلْتُهَا.
وَجَاءَ رَسُوْلُ المُتَوَكِّلِ إِلَيْهِ يَقُوْلُ: لَوْ سَلِمَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، سَلِمتَ أَنْتَ، رَفعَ رَجُلٌ إِلَيْنَا: أَنَّ عَلَوِيّاً قَدِمَ مِنْ خُرَاسَانَ، وَأَنَّكَ وَجَّهتَ إِلَيْهِ مَنْ يَلقَاهُ، وَقَدْ حَبستَ الرَّجُلَ، وَأَردتَ ضَربَه، فَكرهتُ أَنْ تَغتَمَّ، فَمُرْ فِيْهِ.
قَالَ: هَذَا بَاطِلٌ يُخَلَّى سَبِيلُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ صَالِحٌ قِصَّةً فِي قُدُومِ المُتَوَكِّلِ بَغْدَادَ، وَإِشَارَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ عَلَى صَالِحٍ بِأَنْ لاَ يَذْهَبَ إِلَيْهِم، وَمَجِيْءِ يَحْيَى بنِ خَاقَانَ مِنْ عِنْدِ المُتَوَكِّلِ، وَقَولِهِ: قَدْ أَعفَانِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مِنْ كُلِّ مَا أَكرَهُ، وَفِي تَوْجِيْهِ أَمِيْرِ بَغْدَادَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ طَاهِرٍ إِلَى أَحْمَدَ لِيحضُرَ إِلَيْهِ، وَامتنَاعِ أَحْمَدَ، وَقَولِهِ: أَنَا رَجُلٌ لَمْ أُخَالطِ السُّلْطَانَ، وَقَدْ أَعفَانِي أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ مِمَّا أَكرَهُ، وَهَذَا مِمَّا أَكْرَهُ. (11/280)
قَالَ: وَكَانَ قَدْ أَدمنَ الصَّوْمَ لَمَّا قَدِمَ مِنْ سَامَرَّاءَ، وَجَعَلَ لاَ يَأْكُلُ الدَّسمَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُشترَى لَهُ الشّحمُ بِدِرْهَمٍ، فَيَأكلُ مِنْهُ شَهْراً!!
الخَلاَّلُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ، أَنَّ المَرُّوْذِيَّ حَدَّثهُم، قَالَ:
(21/330)
كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بِالعَسْكَرِ يَقُوْلُ: انْظُرْ، هَلْ تَجدُ مَاءَ بَاقِلَّى؟ فَكُنْتُ رُبَّمَا بَللتُ خُبزَه بِالمَاءِ، فَيَأْكلُهُ بِالملحِ.
وَمُنْذ دَخلْنَا العَسْكَرَ إِلَى أَنْ خَرَجْنَا، مَا ذَاقَ طَبيخاً وَلاَ دَسماً.
وَعَنِ المَرُّوْذِيِّ، قَالَ: أَنبَهنِي أَبُو عَبْدِ اللهِ لَيْلَةً، وَكَانَ قَدْ وَاصَلَ، فَقَالَ: هُوَ ذَا يُدَارُ بِي مِنَ الجُوْعِ، فَأَطعِمْنِي شَيْئاً.
فَجِئتُه بِأَقَلَّ مِنْ رَغِيْفٍ، فَأَكلَهُ، وَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ العَوْنَ عَلَى نَفْسِي، مَا أَكلتُ.
وَكَانَ يَقومُ إِلَى المخرجِ، فَيقعدُ يَسْتَريحُ مِنَ الجُوعِ، حَتَّى إِنْ كُنْتُ لأبُلُّ الخِرقَةَ، فَيُلقِيهَا عَلَى وَجْهِهِ، لِترجعَ نَفْسُه إِلَيْهِ، حَتَّى إِنَّه أَوْصَى مِنَ الضَّعْفِ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ - وَنَحْنُ بِالعَسْكَرِ هَذَا -:
مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُوْلُه. (11/281)
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: أَوْصَى أَبِي هَذِهِ:
هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللهَ...، إِلَى أَنْ قَالَ:
وَأَوْصَى أَنْ عَلَيَّ لِفُوْرَانَ نَحْواً مِنْ خَمْسِيْنَ دِيْنَاراً، وَهُوَ مُصدَّقٌ فِيْمَا قَالَ، فَيُقضَى مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ، فَإذَا اسْتَوفَى، أُعْطِيَ وَلَدُ عَبْدِ اللهِ وَصَالِحٍ، كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنثَى عَشْرَةَ دَرَاهِمَ.
شَهِدَ: أَبُو يُوْسُفَ، وَعَبْدُ اللهِ وَصَالِحٌ؛ ابْنَا أَحْمَدَ.
أَنْبَؤُوْنَا عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا عَلِيٍّ المُقْرِئَ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، قَالَ:
(21/331)
كَتبَ عُبَيْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بنِ خَاقَانَ إِلَى أَبِي يُخبرُه أَنَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ أَمَرنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ أَسْأَلَكَ عَنِ القُرْآنِ، لاَ مَسْأَلَةَ امْتِحَانٍ، لَكِنْ مَسْأَلَةَ مَعْرِفَةٍ وَتَبصِرَةٍ.
فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبِي: إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بنِ يَحْيَى، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، أَحسنَ اللهُ عَاقبتَكَ أَبَا الحَسَنِ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَدَفَعَ عَنْكَ المَكَارِهَ بِرَحْمَتِه، قَدْ كَتبتُ إِلَيْكَ - رَضِيَ اللهُ عَنْكَ - بِالَّذِي سَألَ عَنْهُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ بِأَمرِ القُرْآنِ بِمَا حَضَرَنِي، وَإِنِّي أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُدِيْمَ تَوفيقَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي خَوضٍ مِنَ البَاطِلِ، وَاخْتِلاَفٍ شَدِيدٍ يَنغمسُوْنَ فِيْهِ، حَتَّى أَفضَتِ الخِلاَفَةُ إِلَى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، فَنَفَى اللهُ بِهِ كُلَّ بِدعَةٍ، وَانْجلَى عَنِ النَّاسِ مَا كَانُوا فِيْهِ مِنَ الذُّلِّ وَضِيقِ
عدد المشاهدات *:
277810
277810
عدد مرات التنزيل *:
0
0
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 13/12/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 13/12/2013