الحكم الخامس: أنه لا يجوزُ وطؤها قبلَ وضع حملها، أى حمل كان، سواء كان يلحق بالواطىء، كحمل الزوجة والمملوكة، والموطوءة بشبهة، أو لا يلحق به كحمل الزانية، فلا يحل وطءُ حامل مِن غير الواطىء البتة، كما صرَّح به النص، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلا يَسْقى مَاءَه زَرْعَ غَيْرِهِ)) وهذا يَعُمُّ الزرعَ الطيب والخبيث، ولأن صِيانة ماء الواطىء عن الماء الخبيث حتى لا يختلِطَ به أولى مِن صيانته عن الماء الطيب، ولأن حمل الزانى وإن كان لا حُرمة له ولا لمائه، فحملُ هذا الواطىء وماؤه محترم، فلا يجوزُ له خلطه بغيره ولأن هذا مخالف لسنة اللَّه فى تمييز الخبيثِ من الطيب، وتخليصه منه، وإلحاق كل قسم بمجانسه ومشاكله.
والذى يقضى منه العجب، تجويزُ من جوز من الفقهاء الأربعة العقد على الزانية قبل استبرائها ووطئها عقيبَ العقد، فتكون الليلة عند الزانى وقد علقت منه، والليلة التى تليها فراشاً للزوج.
ومن تأمل كمال هذه الشريعة، علم أنها تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتَمنع منه كُلَّ المنع.
ومِن محاسن مذهب الإمام أحمد، أن حرَّم نكاحها بالكُلية حتى تتوب، ويرتفعَ عنها اسمُ الزانية والبغىِّ والفاجرة، فهو رحمه اللَّه لا يجوز أن يكون الرجل زوجَ بغى، ومنازعوه يجوزون ذلك، وهو أسعدُ منهم فى هذه المسألة بالأدلة كُلِّها من النصوصِ والآثار، والمعانى والقِياس، والمصلحة والحكمة، وتحريم ما رآه المسلمون قبيحاً. والناس إذا بلغوا فى سبِّ الرجل صرَّحوا له بالزاى والقاف، فكيف تجوز الشريعةُ مثل هذا، مع ما فيه من تعرُّضه لإفساد فراشه، وتعليق أولاد عليه من غيره، وتعرضه للاسم المذموم عند جميع الأمم؟ وقياسُ قولِ من جوَّزَ العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملاً، أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانت حاملاً من الزنى، بل يطؤها عقيب ملكها، وهو مخالِفٌ لصريح السنة. فإن أوجب استبراءها، نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها، وإن لم يوجب استبراءها، خالف النصوصَ، ولا ينفعُه الفرق بينهما، بأن الزوجَ لا استبراء عليه، بخلافِ السيد فإن الزوجَ إنما لم يجب عليه الاستبراءُ، لأنه لم يعقد على معتدة، ولا حامل من غيره بخلاف السيد، ثم إن الشارع إنما حرم الوطء، بل العقد فى العدة خشيةَ إمكان الحمل، فيكون واطئاً حاملاً من غيره، وساقياً ماءَه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك، فكيف إذا تحقق حملها.
وغاية ما يقال: إن ولد الزانية ليسَ لاحقاً بالواطىء الأول، فإن الولَد لِلفراش، وهذا لا يجوزُ إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره، وإن لم يلحق بالواطىء الأول، فصيانةُ مائه ونسبه عن نسب لا يُلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به. والمقصود: أن الشرعَ حرَّم وطء الأمة الحامل حتى تضع، سواء كان حملُها محرماً أو غير محرم وقد فرَّق النبىُّ صلى الله عليه وسلم بين الرجل والمرأة التى تزوج بها، فوجدها حُبلى، وجلدها الحدَّ، وقضى لها بالصَّداق، وهذا صريحٌ فى بطلان العقد على الحامل من الزنى. وصح عنه أنه مر بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال: ((لَعَلَّ سَيّدَها يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِها))؟ قالوا: نعم.قال: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلعْنه لعناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ)).فجعل سبب همِّه بلعنته وطأه للأمة الحامل، ولم يستفصِلْ عن حملها، هل هو لاحق بالواطِىء أم غيرُ لاحق به؟ وقوله:
((كيف يستخدِمُه وهو لا يحل له)) أى: كيف يجعلُه عبداً له يستخدِمُه، وذلك لا يحِل، فإن ماء هذا الواطىء يزيدُ فى خلق الحمل، فيكون بعضُه منه، قال الإمام أحمد يزيدُ وطؤه فى سمعه وبصره.
وقوله: ((كيف يورثه وهو لا يَحِلُّ له))، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه: أى: كيف يجعله تركة موروثة عنه، فإنه يعتقده عبده، فيجعله تركةً تُورث عنه، ولا يَحِلُّ له ذلك، لأن ماءه زاد فى خلقه، ففيه جزء منه.
وقال غيره: المعنى: كيف يورثه على أنه ابنُه، ولا يحِلُّ له ذلك، لأن الحملَ مِن غيره، وهو بوطئه يريد أن يجعله منه، فيورثه ماله، وهذا يردُّه أولُ الحديث، وهو قوله: ((كيف يستعبده))؟ أى: كيف يجعله عبده؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول. وعلى القولين، فهو صريح فى تحريم وطء الحامل من غيره، سواء كان الحملُ مِن زنى أو من غيره، وأن فاعل ذلك جدير باللعن، بل قد صرَّح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: بأن الرجل إذا ملك زوجتَه الأمة، لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملاً منه فى صلب النكاح، فيكون على ولده الولاء لموالى أمه بخلاف ما علقت به فى ملكه، فإنه لا ولاء عليه، وهذا كله احتياط لولده: هل هو صريحُ الحرية لا ولاء عليه، أو عليه ولاء؟ فكيف إذا كانت حاملاً من غيره؟
فصل
الحكم السادس: استنبط من قوله: ((ولا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ))، أن الحامل لا تحيض، وأن ما تراه من الدم يكون دمَ فساد بمنزلة الاستحاضة، تصومُ وتُصلى، وتطوف بالبيت، وتقرأ القرآن، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، فذهب عطاءٌ والحسن، وعكرمة ومكحول، وجابرُ بن زيد، ومحمد بن المنكدر، والشعبى، والنخعى، والحكم، وحماد، والزهرى، وأبو حنيفة وأصحابُه، والأوزاعى، وأبو عُبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، والإمام أحمد فى المشهور من مذهبه، والشافعى فى أحد قوليه: إلى أنه ليس دمَ حيض. وقال قتادة، وربيعةُ، ومالك، والليث بن سعد، وعبد الرحمن ابن مهدى، وإسحاق بن راهوية: إنه دم حيض، وقد ذكره البيهقى فى ((سننه)) وقال إسحاق ابن راهويه: قال لى أحمد بن حنبل: ما تقول فى الحامل ترى الدم؟ فقلت: تصلى، واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضى اللَّه عنها. قال: فقال أحمد بن حنبل، أين أنت عن خبر المدنيين، خبر أمِّ علقمة مولاة عائشة رضى اللَّه عنها؟ فإنه أصح. قال إسحاق: فرجعت إلى قول أحمد، وهو كالتصريح من أحمد، بأن دمَ الحامل دم حيض، وهو الذى فهمه إسحاق عنه، والخبرُ الذى أشار إليه أحمد، وهو ما رويناه من طريق البيهقى، أخبرنا الحاكم، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا أحمدُ بن إبراهيم، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن بكير بن عبد اللَّه، عن أمِّ علقمة مولاةِ عائشة، أن عائشة رضى اللَّه عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت: لا تُصَلِّى، قال البيهقى: ورويناه عن أنس بن مالك، وروينا عن عمر بن الخطاب، ما يدل على ذلك. وروينا عن عائشة رضى اللَّه عنها، أنها أنشدت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيت أبى كبير الهذلى:
ومُبَرَّأً مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حيْضَةٍ وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ
قال: وفى هذا دليل على ابتداء الحمل فى حال الحيض حيث لم ينكر الشِّعْرَ.
قال: وروينا عن مطر، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: الحبلى لا تحيضُ، إذا رأت الدم، صلَّت. قال: وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية، ويُضعف رواية ابن أبى ليلى، ومطر عن عطاء.
قال: وروى محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه عنها نحو رواية مطر، فإن كانت محفوظة، فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض، ثم كانت تراها تحيض، فرجعت إلى ما رواه المدنيون، واللَّه أعلم.
قال المانعون مِن كون دم الحامل دمَ حيض: قد قسم النبىُّ صلى الله عليه وسلم الإماء قسمين: حاملاً وجعل عدتها وضع الحمل، وحائلاً فجعل عدتها حَيضة، فكانت الحيضة علماً على براءة رحمها، فلو كان الحيضُ يُجامع الحمل، لما كانت الحيضةُ علماً على عدمه، قالوا: ولذلك جعل عدة المطلقة ثلاثة أقراء، لِيكون دليلاً على عدم حملها، فلو جامع الحملُ الحيضَ، لم يكن دليلاً على عدمه: قالوا: وقد ثبت فى ((الصحيح))، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه حين طلق ابنُه امرأتَه وهى حائض: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَها بَعْدُ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلكَ العِدَّةُ التى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاءُ)).
ووجه الاستدلال به، أن طلاقَ الحامل ليس ببدعةٍ فى زمن الدم وغيره إجماعاً، فلو كانت تحيضُ، لكان طلاقُها فيه، وفى طهرها بعد المسيس بدعة عملاً بعموم الخبر، قالوا: وروى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث ابن عمر أيضاً ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ ليُطَلِّقْهَا طَاهِراً أَوْ حَامِلاً))، وهذا يدل على أن ما تراه من الدم لا يكون حيضاً، فإنه جعل الطلاق فى وقته نظير الطلاق فى وَقت الطهر سواء. فلو كان ما تراه من الدم حيضاً، لكان لها حالان، حال طهر، وحال حيض، ولم يجز طلاقها فى حال حيضها، فإنه يكون بدعة قالوا: وقد روى أحمد فى ((مسنده)) من حديث رويفع، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يَحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَسْقى مَاءه زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلاَ يقع عَلى أمَةٍ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ يَتَبَّينَ حَمْلُها)). فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم من الحمل. قالوا: وقد رُوِىَ عن على أنه قال: إن اللَّه رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم مما تغيض الأرحام.
وقال ابنُ عباس رضى اللَّه عنه: إن اللَّه رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد، رواهما أبو حفص بن شاهين.
قالُوا: وروى الأثرم، والدارقطنى بإسنادهما، عن عائشة رضى اللَّه عنها فى الحامل ترى الدم، فقالت: الحامل لا تحيض، وتغتسل، وتصلى.
وقولها: وتغتسل، بطريق الندب لكونها مستحاضة، قالوا: ولا يُعرف عن غيرهم خلافهم، لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت: الحامل لا تُصلى. وهذا محمول على ما تراه قريباً من الولادة باليومين ونحوهما، وأنه نفاس جمعاً بين قوليها، قالوا: ولأنه دم لا تنقضى به العدة، فلم يكن حيضاً كالاستحاضة.
وحديث عائشة رضى اللَّه عنها يدل على أن الحائض قد تحبل، ونحن نقول بذلك، لكنه يقطع حيضَها ويرفعُه. قالوا: ولأن اللَّه سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دم الطمث لبناً غذاءً للولد، فالخارجُ وقت الحمل يكون غيره، فهو دم فساد.
قال المحيضون: لا نزاع أن الحاملَ قد ترى الدَم على عادتها، لا سيما فى أول حملها، وإنما النزاعُ فى حكم هذا الدم، لا فى وجوده. وقد كان حيضاً قبل الحمل بالاتفاق، فنحن نستصحِبُ حكمَه حتى يأتىَ ما يرفعه بيقين. قالوا: والحكمُ إذا ثبت فى محل، فالأصلُ بقاؤه حتى يأتى ما يرفعه، فالأول استصحابٌ لحكم الإجماع فى محل النزاع، والثانى استصحابٌ للحكم الثابت فى المحل حتى يتحقق ما يرفعه، والفرقُ بينهما ظاهر. قالوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((إذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ فَإنَّهُ أسْوَدُ يُعْرَفُ)). وهذا أسود يُعرف، فكان حيضاً.
قالُوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَليْسَتْ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ ولم تُصَلِّ؟)) وحيضُ المرأة خروج دمها فى أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعاً، وهذا كذلك لغة والأصل فى الأسماء تقريرُها لا تغييرُها.
قالوا: ولأن الدم الخارج من الفرج الذى رتَّب الشارع عليه الأحكام قسمان: حيض واستحاضة، ولم يجعل لهما ثالثاً، وهذا ليس بإستحاضة، فإن الاستحاضة الدمُ المطبق، والزائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحداً منها، فبطل أن يكون استحاضة، فهو حيض، قالوا: ولا يمكنكم إثباتُ قسم ثالث فى هذا المحل، وجعله دَم فساد، فإن هذا لا يثبتُ إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه، وهو منتف قالوا: وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة إلى عادتها، وقال: ((اجْلِسى قَدْرَ الأيَّامِ التى كُنْتِ تَحِيضِينَ)). فدل على أن عادة النساء معتبرة فى وصف الدمِ وحُكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة، ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال، دلَّت عادتُها على أنه حيض، ووجب تحكيمُ عادتها، وتقديمُها على الفساد الخارج عن العبادة. قالوا: وأعلمُ الأمة بهذه المسألة نساءُ النبى صلى الله عليه وسلم، وأعلمُهن عائشة، وقد صح عنها من رواية أهل المدينة، أنها لا تُصلى، وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها، ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قولُ أحمد بن حنبل، قالوا: ولا تُعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة، ولو صحت فهى مسألة نزاع بين الصحابة، ولا دليل يفصل.
قالوا: ولأن عدمَ مجامعة الحيضِ للحمل، إما أن يُعلم بالحسِّ أو بالشرع، وكلاهما منتف، أما الأوَّل: فظاهر، وأما الثانى: فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان.
وأما قولُكم: إنه جعله دليلاً على براءة الرحم من الحمل فى العدة والاستبراء. قلنا: جعل دليلاً ظاهراً أو قطعياً، الأول: صحيح. والثانى: باطل، فإنه لو كان دليلاً قطعياً لما تخلف عنه مدلُوله، ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض، وهذا لم يقله أحد، بل أولُ المدةِ مِن حين الوطء، ولو حاضت بعده عدة حيض، فلو وطئها، ثم جاءت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من حين الوطء، ولأقل منها من حين انقطاع الحيض، لحقه النسبُ اتفاقاً، فعُلِمَ أنه أمارة ظاهرة، قد يتخلف عنها مدلولُها تخلُّفَ المطر عن الغيم الرطب، وبهذا يخرج الجوابُ عما استدللُتم به من السنة، فإنا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهى الحَكَمُ بينَ المتنازعين. والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قسم النساء إلى قسمين: حامل فعِدتُها وضعُ حملها، وحائل فعِدتها بالحيض، ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصومُ معه وتُصلى؟ هذا أمر آخر لا تَعرُّضَ للحديث به، وهذا يقول القائلون: بأن دمَها دمُ حيض، هذه العبارة بعينها، ولا يُعد هذا تناقضاً ولا خللاً فى العبارة.
قالوا: وهكذا قولُه فى شأن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنه: ((مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَمَسَّها))، إنما فيه إباحةُ الطلاق إذا كانت حائلاً بشرطين: الطهر وعدم المسيس، فأين فى هذا التعرف لحكم الدم الذى تراه على حملها؟
وقولُكم: إن الحامل لو كانت تحيض، لكان طلاقُها فى زمن الدم بدعة، وقد اتفق الناسُ على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم؟
قلنا: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قسم أحوال المرأة التى يُريد طلاقَها إلى حال حمل، وحالِ خلو عنه، وجوَّز طلاق الحامل مطلقاً من غير استثناء، وأما غيرُ ذات الحمل، فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين، وليس فى هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد، بل على أن الحامل تخالف غيرها فى الطلاق، وأن غيرها إنما تطلق طاهراً غير مصابة، ولا يُشترط فى الحامل شىء من هذا، بل تطلُق عقيبَ الإصابة، وتطلُق وإن رأت الدم، فكما لا يحرُمُ طلاقُها عقيبَ إصابتها، لا يحرُم حالَ حيضها وهذا الذى تقتضيه حِكمةُ الشارع فى وقت الطلاق إذناً ومنعاً، فإن المرأة متى استبان حملُها كان المطلق على بصيرة من أمره، ولم يعرض له مِن الندم ما يعرِضُ لهن كلهن بعد الجماع، ولا يشعر بحملها، فليس ما مُنِعَ منه نظير ما أُذِنَ فيه، لا شرعاً، ولا واقعاً، ولا اعتباراً، ولا سيما مَنْ علل المنع من الطلاق فى الحيض بتطويل العِدة، فهذا لا أثر له فى الحامل.
قالوا: وأما قولُكم: إنه لو كان حيضاً، لانقضت به العِدة، فهذا لا يلزمُ، لأن اللَّهَ سبحانه جعل عِدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الحائل بالأقراء، ولا يُمكن انقضاءُ عِدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثانى ويتزوجها وهى حامل من غيره، فيسقى مَاءَ زَرْعَ غيره.
قالوا: وإذا كنتُم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل، وحملتُم على ذلك حديثَ عائشة رضى اللَّه عنها ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به، فقد أعطيتُم أن الحيض والحبل يجتمعان، فبطل استدلالُكم من رأسه، لأن مداره على أن الحيض لا يُجامع الحبل.
فإن قلتم: نحن إنما جوزنا ورودَ الحمل على الحيض، وكلامُنا فى عكسه، وهو ورودُ الحيض على الحمل، وبينهما فرق.
قيل: إذا كانا متنافيين لا يجتمعان، فأىُّ فرق بين ورودها هذا على هذا وعكسه؟
وأما قولكم: إن اللَّه سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دمِ الطمث لبناً يتغذَّى به الولد ولهذا لا تحيض المراضع. قلنا: وهذا من أكبر حجتنا عليكم، فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع، وهو زمن سلطان اللبن، وارتضاع المولود وقد أجرى اللَّه العادة بأن المرضع لا تحيض. ومع هذا، فلو رأت دماً فى وقت عادتها، لحكم له بحكم الحيض بالإتفاق، فلأن يحكم له بحكم الحيض فى الحال التى لم يستحكم فيها انقلابه، ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى. قالوا: وهب أن هذا كما تقولون، فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن، وهذا بعدَ أن يُنفخ فيه الروح. فأما قبل ذلك، فإنه لا ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه.
وأيضاً، فإنه لا يستحيل كله لبناً، بل يستحيل بعضه، ويخرج الباقى، وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلاً ودليلاً، واللَّه المستعان.
فإن قيل: فهل تمنعون من الاستمتاع بالمُسْتَبرأة بغير الوطء فى الموضع الذى يجب فيه الاستبراء؟ قيل: أما إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فهذه لا تحرم قبلتها ولا مباشرتها، وهذا منصوص أحمد فى إحدى الروايتين عنه، اختارها أبو محمد المقدسى، وشيخنا وغيرُهما، فإنه قال: إن كانت صغيرة بأى شىء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال فى رواية أخرى: تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض، وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل. قال أبو محمد: فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها، ولا تحرم مباشرتها، وهذا اختيار ابن أبى موسى، وقولُ مالك وهو الصحيح، لأن سبب الإباحة متحقق، وليس على تحريمها دليل، فإنه لا نص فيها ولا معنى نص، فإن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعياً إلى الوطء المحرم، أو خشية أن تكون أمَّ ولد لغيره، ولا يتوهم هذا فى هذه، فوجب العمل بمقتضى الإباحة، انتهى كلامه.
فصل
وإن كانت ممن يُوطأ مثلُها، فإن كانت بكراً، وقلنا: لا يجبُ استبراؤها، فظاهر، وإن قلنا: يجب استبراؤُها فقال أصحابنا: تحرم قبلُتها ومباشرتها، وعندى أنه لا يحرم، ولو قلنا بوجوب استبرائها، لأنه لا يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه، كما فى حق الصائم، لا سيما وهم إنما حرَّموا تحريم مباشرتها لأنها قد تكون حاملاً، فيكون مستمتعاً بأمة الغير، هكذا عللوا تحريم المباشرة، ثم قالوا: ولهذا لا يحرم الإستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الاستبراء فى إحدى الروايتين، لأنها لا يُتوهم فيها انفساخ الملك، لأنه قد استقرَّ بالسبى، فلم يبق لمنع الاستمتاع بالقبلة وغيرها مِن البِكر معنى. وإن كانت ثيباً، فقال أصحاب أحمد، والشافعى وغيرهم: يحرم الاستمتاعُ بها قبل الاستبراء، قالوا: لأنه استبراءٌ يحرم الوطء، فحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء كالعِدة، ولأنه لا يأمن كونها حاملاً، فتكون أم ولد، والبيع باطل، فيكون مستمتعاً بأمِّ ولد غيره. قالوا: ولهذا فارق وطء تحريم الحائض والصائم.
وقال الحسن البصرى: لا يحرم من المستبرأة إلا فرجُها، وله أن يستمتِعَ منها بما شاء ما لم يطأ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما منع من الوطء قبل الاستبراء، ولم يمنع مما دونه ولا يلزمُ مِن تحريم الوطء تحريمُ ما دونه، كالحائض والصائمة وقد قيل: إن ابن عمر قبَّل جاريتَه من السبى حين وقعت فى سهمه قبل استبرائها. ولمن نصر هذا القول أن يقولَ: الفرقُ بين المشتراة والمعتدة: أن المعتدة قد صارت أجنبية منه، فلاً يَحِلُّ وطؤها ولا دواعيه، بخلاف المملوكة، فإن وطأها إنما يحرم قبل الاستبراء خشيةَ اختلاط مائه بماء غيره، وهذا لا يُوجب تحريمَ الدواعى، فهى أشبهُ بالحائض والصائمة، ونظيرُ هذا أنه لو زنت امرأتُه أو جاريتُه، حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء، ولا يحرمُ دواعيه، وكذلك المسبية كما سيأتى. وأكثرُ ما يتوهم كونها حاملاً من سيدها، فينفسخ البيع، فهذا بناء على تحريم بيع أمهاتِ الأولاد على عِلاَّته، ولا يلزم القائل به، لأنه لما استمتع بها، كانت ملكه ظاهراً وذلك يكفى فى جواز الاستمتاع، كما يخلو بها ويُحدِّثُها، وينظر منها ما لا يُباح من الأجنبية، وما كان جوابُكم عن هذه الأمور، فهو الجوابُ عن القُبلة والاستمتاع، ولا يُعلم فى جواز هذا نزاع، فإن المشترىَ لا يُمنع مِن قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحدَه قبلَ الاستبراء، ولا يجبُ عليها أن تستُرَ وجهها منه، ولا يحرم عليه النظرُ إليها والخلوةُ بها، والأكلُ معها، واستخدامها، والانتفاعُ بمنافعها، وإن لم يَجُزْ له ذلك فى ملك الغير.
فصل
وإن كانت مَسْبِيَّةً، ففى جواز الاستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد رحمه اللَّه.
إحداهما: أنها كغير المسبية، فيحرم الاستمتاع منها بما دون الفَرْج، وهو ظاهر كلام الخِرَقى، لأنه قال: ومن مَلَك أمةً، لم يصبْها ولم يُقَبِّلْها حتى يستبرئهَا بعد تمام ملكه لها.
والثانية: لا يحرم، وهو قول ابن عمر رضى اللَّه عنه. والفرق بينها وبين المملوكة بغير السبى، أن المسبيَّةَ لا يتوهم فيها كونها أُمَّ ولد، بل هى مملوكة له على كل حال، بخلاف غيرها كما تقدَّم واللَّه أعلم.
فإن قيل: فهل يكونُ أولُ مدة الاستبراء من حين البيع، أو من حين القبض؟
قيل: فيه قولان، وهما وجهان فى مذهب أحمد رحمه اللَّه. أحدهما: من حين البيع، لأن الملك ينتقل به. والثانى: من حين القبض لأن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره، ولا يحصل ذلك مع كونها فى يده، وهذا على أصل الشافعى وأحمد. أما على أصل مالك، فيكفى عنده الاستبراءُ قبل البيع فى المواضع التى تقدَّمت. فإن قيل: فإن كان فى البيع خيار، فمتى يكون ابتداء مدة الاستبراء؟
قيل: هذا ينبنى على الخلاف فى انتقال الملك فى مدة الخيار، فمن قال: ينتقل فابتداء المدة عنده من حين البيع، ومن قال: لا ينتقل، فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار.
فإن قيل: فما تقولون لو كان الخيارُ خيارَ عَيْبٍ؟ قيل: ابتداء المدة من حين البيع قولاً واحداً، لأن خِيَارَ العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف، واللَّه أعلم.
والذى يقضى منه العجب، تجويزُ من جوز من الفقهاء الأربعة العقد على الزانية قبل استبرائها ووطئها عقيبَ العقد، فتكون الليلة عند الزانى وقد علقت منه، والليلة التى تليها فراشاً للزوج.
ومن تأمل كمال هذه الشريعة، علم أنها تأبى ذلك كُلَّ الإِباء، وتَمنع منه كُلَّ المنع.
ومِن محاسن مذهب الإمام أحمد، أن حرَّم نكاحها بالكُلية حتى تتوب، ويرتفعَ عنها اسمُ الزانية والبغىِّ والفاجرة، فهو رحمه اللَّه لا يجوز أن يكون الرجل زوجَ بغى، ومنازعوه يجوزون ذلك، وهو أسعدُ منهم فى هذه المسألة بالأدلة كُلِّها من النصوصِ والآثار، والمعانى والقِياس، والمصلحة والحكمة، وتحريم ما رآه المسلمون قبيحاً. والناس إذا بلغوا فى سبِّ الرجل صرَّحوا له بالزاى والقاف، فكيف تجوز الشريعةُ مثل هذا، مع ما فيه من تعرُّضه لإفساد فراشه، وتعليق أولاد عليه من غيره، وتعرضه للاسم المذموم عند جميع الأمم؟ وقياسُ قولِ من جوَّزَ العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملاً، أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانت حاملاً من الزنى، بل يطؤها عقيب ملكها، وهو مخالِفٌ لصريح السنة. فإن أوجب استبراءها، نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها، وإن لم يوجب استبراءها، خالف النصوصَ، ولا ينفعُه الفرق بينهما، بأن الزوجَ لا استبراء عليه، بخلافِ السيد فإن الزوجَ إنما لم يجب عليه الاستبراءُ، لأنه لم يعقد على معتدة، ولا حامل من غيره بخلاف السيد، ثم إن الشارع إنما حرم الوطء، بل العقد فى العدة خشيةَ إمكان الحمل، فيكون واطئاً حاملاً من غيره، وساقياً ماءَه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك، فكيف إذا تحقق حملها.
وغاية ما يقال: إن ولد الزانية ليسَ لاحقاً بالواطىء الأول، فإن الولَد لِلفراش، وهذا لا يجوزُ إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره، وإن لم يلحق بالواطىء الأول، فصيانةُ مائه ونسبه عن نسب لا يُلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به. والمقصود: أن الشرعَ حرَّم وطء الأمة الحامل حتى تضع، سواء كان حملُها محرماً أو غير محرم وقد فرَّق النبىُّ صلى الله عليه وسلم بين الرجل والمرأة التى تزوج بها، فوجدها حُبلى، وجلدها الحدَّ، وقضى لها بالصَّداق، وهذا صريحٌ فى بطلان العقد على الحامل من الزنى. وصح عنه أنه مر بامرأة مُجِحٍّ على باب فسطاط، فقال: ((لَعَلَّ سَيّدَها يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِها))؟ قالوا: نعم.قال: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلعْنه لعناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ)).فجعل سبب همِّه بلعنته وطأه للأمة الحامل، ولم يستفصِلْ عن حملها، هل هو لاحق بالواطِىء أم غيرُ لاحق به؟ وقوله:
((كيف يستخدِمُه وهو لا يحل له)) أى: كيف يجعلُه عبداً له يستخدِمُه، وذلك لا يحِل، فإن ماء هذا الواطىء يزيدُ فى خلق الحمل، فيكون بعضُه منه، قال الإمام أحمد يزيدُ وطؤه فى سمعه وبصره.
وقوله: ((كيف يورثه وهو لا يَحِلُّ له))، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه: أى: كيف يجعله تركة موروثة عنه، فإنه يعتقده عبده، فيجعله تركةً تُورث عنه، ولا يَحِلُّ له ذلك، لأن ماءه زاد فى خلقه، ففيه جزء منه.
وقال غيره: المعنى: كيف يورثه على أنه ابنُه، ولا يحِلُّ له ذلك، لأن الحملَ مِن غيره، وهو بوطئه يريد أن يجعله منه، فيورثه ماله، وهذا يردُّه أولُ الحديث، وهو قوله: ((كيف يستعبده))؟ أى: كيف يجعله عبده؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول. وعلى القولين، فهو صريح فى تحريم وطء الحامل من غيره، سواء كان الحملُ مِن زنى أو من غيره، وأن فاعل ذلك جدير باللعن، بل قد صرَّح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: بأن الرجل إذا ملك زوجتَه الأمة، لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملاً منه فى صلب النكاح، فيكون على ولده الولاء لموالى أمه بخلاف ما علقت به فى ملكه، فإنه لا ولاء عليه، وهذا كله احتياط لولده: هل هو صريحُ الحرية لا ولاء عليه، أو عليه ولاء؟ فكيف إذا كانت حاملاً من غيره؟
فصل
الحكم السادس: استنبط من قوله: ((ولا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ))، أن الحامل لا تحيض، وأن ما تراه من الدم يكون دمَ فساد بمنزلة الاستحاضة، تصومُ وتُصلى، وتطوف بالبيت، وتقرأ القرآن، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، فذهب عطاءٌ والحسن، وعكرمة ومكحول، وجابرُ بن زيد، ومحمد بن المنكدر، والشعبى، والنخعى، والحكم، وحماد، والزهرى، وأبو حنيفة وأصحابُه، والأوزاعى، وأبو عُبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، والإمام أحمد فى المشهور من مذهبه، والشافعى فى أحد قوليه: إلى أنه ليس دمَ حيض. وقال قتادة، وربيعةُ، ومالك، والليث بن سعد، وعبد الرحمن ابن مهدى، وإسحاق بن راهوية: إنه دم حيض، وقد ذكره البيهقى فى ((سننه)) وقال إسحاق ابن راهويه: قال لى أحمد بن حنبل: ما تقول فى الحامل ترى الدم؟ فقلت: تصلى، واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضى اللَّه عنها. قال: فقال أحمد بن حنبل، أين أنت عن خبر المدنيين، خبر أمِّ علقمة مولاة عائشة رضى اللَّه عنها؟ فإنه أصح. قال إسحاق: فرجعت إلى قول أحمد، وهو كالتصريح من أحمد، بأن دمَ الحامل دم حيض، وهو الذى فهمه إسحاق عنه، والخبرُ الذى أشار إليه أحمد، وهو ما رويناه من طريق البيهقى، أخبرنا الحاكم، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا أحمدُ بن إبراهيم، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن بكير بن عبد اللَّه، عن أمِّ علقمة مولاةِ عائشة، أن عائشة رضى اللَّه عنها سئلت عن الحامل ترى الدم فقالت: لا تُصَلِّى، قال البيهقى: ورويناه عن أنس بن مالك، وروينا عن عمر بن الخطاب، ما يدل على ذلك. وروينا عن عائشة رضى اللَّه عنها، أنها أنشدت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيت أبى كبير الهذلى:
ومُبَرَّأً مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حيْضَةٍ وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُغْيِلِ
قال: وفى هذا دليل على ابتداء الحمل فى حال الحيض حيث لم ينكر الشِّعْرَ.
قال: وروينا عن مطر، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: الحبلى لا تحيضُ، إذا رأت الدم، صلَّت. قال: وكان يحيى القطان ينكر هذه الرواية، ويُضعف رواية ابن أبى ليلى، ومطر عن عطاء.
قال: وروى محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه عنها نحو رواية مطر، فإن كانت محفوظة، فيشبه أن تكون عائشة كانت تراها لا تحيض، ثم كانت تراها تحيض، فرجعت إلى ما رواه المدنيون، واللَّه أعلم.
قال المانعون مِن كون دم الحامل دمَ حيض: قد قسم النبىُّ صلى الله عليه وسلم الإماء قسمين: حاملاً وجعل عدتها وضع الحمل، وحائلاً فجعل عدتها حَيضة، فكانت الحيضة علماً على براءة رحمها، فلو كان الحيضُ يُجامع الحمل، لما كانت الحيضةُ علماً على عدمه، قالوا: ولذلك جعل عدة المطلقة ثلاثة أقراء، لِيكون دليلاً على عدم حملها، فلو جامع الحملُ الحيضَ، لم يكن دليلاً على عدمه: قالوا: وقد ثبت فى ((الصحيح))، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه حين طلق ابنُه امرأتَه وهى حائض: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْها ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَها بَعْدُ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلكَ العِدَّةُ التى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاءُ)).
ووجه الاستدلال به، أن طلاقَ الحامل ليس ببدعةٍ فى زمن الدم وغيره إجماعاً، فلو كانت تحيضُ، لكان طلاقُها فيه، وفى طهرها بعد المسيس بدعة عملاً بعموم الخبر، قالوا: وروى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث ابن عمر أيضاً ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ ليُطَلِّقْهَا طَاهِراً أَوْ حَامِلاً))، وهذا يدل على أن ما تراه من الدم لا يكون حيضاً، فإنه جعل الطلاق فى وقته نظير الطلاق فى وَقت الطهر سواء. فلو كان ما تراه من الدم حيضاً، لكان لها حالان، حال طهر، وحال حيض، ولم يجز طلاقها فى حال حيضها، فإنه يكون بدعة قالوا: وقد روى أحمد فى ((مسنده)) من حديث رويفع، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يَحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَسْقى مَاءه زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلاَ يقع عَلى أمَةٍ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ يَتَبَّينَ حَمْلُها)). فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم من الحمل. قالوا: وقد رُوِىَ عن على أنه قال: إن اللَّه رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم مما تغيض الأرحام.
وقال ابنُ عباس رضى اللَّه عنه: إن اللَّه رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقاً للولد، رواهما أبو حفص بن شاهين.
قالُوا: وروى الأثرم، والدارقطنى بإسنادهما، عن عائشة رضى اللَّه عنها فى الحامل ترى الدم، فقالت: الحامل لا تحيض، وتغتسل، وتصلى.
وقولها: وتغتسل، بطريق الندب لكونها مستحاضة، قالوا: ولا يُعرف عن غيرهم خلافهم، لكن عائشة قد ثبت عنها أنها قالت: الحامل لا تُصلى. وهذا محمول على ما تراه قريباً من الولادة باليومين ونحوهما، وأنه نفاس جمعاً بين قوليها، قالوا: ولأنه دم لا تنقضى به العدة، فلم يكن حيضاً كالاستحاضة.
وحديث عائشة رضى اللَّه عنها يدل على أن الحائض قد تحبل، ونحن نقول بذلك، لكنه يقطع حيضَها ويرفعُه. قالوا: ولأن اللَّه سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دم الطمث لبناً غذاءً للولد، فالخارجُ وقت الحمل يكون غيره، فهو دم فساد.
قال المحيضون: لا نزاع أن الحاملَ قد ترى الدَم على عادتها، لا سيما فى أول حملها، وإنما النزاعُ فى حكم هذا الدم، لا فى وجوده. وقد كان حيضاً قبل الحمل بالاتفاق، فنحن نستصحِبُ حكمَه حتى يأتىَ ما يرفعه بيقين. قالوا: والحكمُ إذا ثبت فى محل، فالأصلُ بقاؤه حتى يأتى ما يرفعه، فالأول استصحابٌ لحكم الإجماع فى محل النزاع، والثانى استصحابٌ للحكم الثابت فى المحل حتى يتحقق ما يرفعه، والفرقُ بينهما ظاهر. قالوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((إذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ فَإنَّهُ أسْوَدُ يُعْرَفُ)). وهذا أسود يُعرف، فكان حيضاً.
قالُوا: وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَليْسَتْ إحْدَاكُنَّ إذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ ولم تُصَلِّ؟)) وحيضُ المرأة خروج دمها فى أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعاً، وهذا كذلك لغة والأصل فى الأسماء تقريرُها لا تغييرُها.
قالوا: ولأن الدم الخارج من الفرج الذى رتَّب الشارع عليه الأحكام قسمان: حيض واستحاضة، ولم يجعل لهما ثالثاً، وهذا ليس بإستحاضة، فإن الاستحاضة الدمُ المطبق، والزائد على أكثر الحيض، أو الخارج عن العادة، وهذا ليس واحداً منها، فبطل أن يكون استحاضة، فهو حيض، قالوا: ولا يمكنكم إثباتُ قسم ثالث فى هذا المحل، وجعله دَم فساد، فإن هذا لا يثبتُ إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه، وهو منتف قالوا: وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة إلى عادتها، وقال: ((اجْلِسى قَدْرَ الأيَّامِ التى كُنْتِ تَحِيضِينَ)). فدل على أن عادة النساء معتبرة فى وصف الدمِ وحُكمه، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة، ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال، دلَّت عادتُها على أنه حيض، ووجب تحكيمُ عادتها، وتقديمُها على الفساد الخارج عن العبادة. قالوا: وأعلمُ الأمة بهذه المسألة نساءُ النبى صلى الله عليه وسلم، وأعلمُهن عائشة، وقد صح عنها من رواية أهل المدينة، أنها لا تُصلى، وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها، ولذلك رجع إليه إسحاق وأخبر أنه قولُ أحمد بن حنبل، قالوا: ولا تُعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة، ولو صحت فهى مسألة نزاع بين الصحابة، ولا دليل يفصل.
قالوا: ولأن عدمَ مجامعة الحيضِ للحمل، إما أن يُعلم بالحسِّ أو بالشرع، وكلاهما منتف، أما الأوَّل: فظاهر، وأما الثانى: فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان.
وأما قولُكم: إنه جعله دليلاً على براءة الرحم من الحمل فى العدة والاستبراء. قلنا: جعل دليلاً ظاهراً أو قطعياً، الأول: صحيح. والثانى: باطل، فإنه لو كان دليلاً قطعياً لما تخلف عنه مدلُوله، ولكانت أول مدة الحمل من حين انقطاع الحيض، وهذا لم يقله أحد، بل أولُ المدةِ مِن حين الوطء، ولو حاضت بعده عدة حيض، فلو وطئها، ثم جاءت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من حين الوطء، ولأقل منها من حين انقطاع الحيض، لحقه النسبُ اتفاقاً، فعُلِمَ أنه أمارة ظاهرة، قد يتخلف عنها مدلولُها تخلُّفَ المطر عن الغيم الرطب، وبهذا يخرج الجوابُ عما استدللُتم به من السنة، فإنا بها قائلون، وإلى حكمها صائرون، وهى الحَكَمُ بينَ المتنازعين. والنبىُّ صلى الله عليه وسلم قسم النساء إلى قسمين: حامل فعِدتُها وضعُ حملها، وحائل فعِدتها بالحيض، ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصومُ معه وتُصلى؟ هذا أمر آخر لا تَعرُّضَ للحديث به، وهذا يقول القائلون: بأن دمَها دمُ حيض، هذه العبارة بعينها، ولا يُعد هذا تناقضاً ولا خللاً فى العبارة.
قالوا: وهكذا قولُه فى شأن عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنه: ((مُرْهُ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيُطَلِّقْها طَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَمَسَّها))، إنما فيه إباحةُ الطلاق إذا كانت حائلاً بشرطين: الطهر وعدم المسيس، فأين فى هذا التعرف لحكم الدم الذى تراه على حملها؟
وقولُكم: إن الحامل لو كانت تحيض، لكان طلاقُها فى زمن الدم بدعة، وقد اتفق الناسُ على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم؟
قلنا: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قسم أحوال المرأة التى يُريد طلاقَها إلى حال حمل، وحالِ خلو عنه، وجوَّز طلاق الحامل مطلقاً من غير استثناء، وأما غيرُ ذات الحمل، فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين، وليس فى هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد، بل على أن الحامل تخالف غيرها فى الطلاق، وأن غيرها إنما تطلق طاهراً غير مصابة، ولا يُشترط فى الحامل شىء من هذا، بل تطلُق عقيبَ الإصابة، وتطلُق وإن رأت الدم، فكما لا يحرُمُ طلاقُها عقيبَ إصابتها، لا يحرُم حالَ حيضها وهذا الذى تقتضيه حِكمةُ الشارع فى وقت الطلاق إذناً ومنعاً، فإن المرأة متى استبان حملُها كان المطلق على بصيرة من أمره، ولم يعرض له مِن الندم ما يعرِضُ لهن كلهن بعد الجماع، ولا يشعر بحملها، فليس ما مُنِعَ منه نظير ما أُذِنَ فيه، لا شرعاً، ولا واقعاً، ولا اعتباراً، ولا سيما مَنْ علل المنع من الطلاق فى الحيض بتطويل العِدة، فهذا لا أثر له فى الحامل.
قالوا: وأما قولُكم: إنه لو كان حيضاً، لانقضت به العِدة، فهذا لا يلزمُ، لأن اللَّهَ سبحانه جعل عِدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الحائل بالأقراء، ولا يُمكن انقضاءُ عِدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثانى ويتزوجها وهى حامل من غيره، فيسقى مَاءَ زَرْعَ غيره.
قالوا: وإذا كنتُم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل، وحملتُم على ذلك حديثَ عائشة رضى اللَّه عنها ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به، فقد أعطيتُم أن الحيض والحبل يجتمعان، فبطل استدلالُكم من رأسه، لأن مداره على أن الحيض لا يُجامع الحبل.
فإن قلتم: نحن إنما جوزنا ورودَ الحمل على الحيض، وكلامُنا فى عكسه، وهو ورودُ الحيض على الحمل، وبينهما فرق.
قيل: إذا كانا متنافيين لا يجتمعان، فأىُّ فرق بين ورودها هذا على هذا وعكسه؟
وأما قولكم: إن اللَّه سبحانه أجرى العادة بإنقلاب دمِ الطمث لبناً يتغذَّى به الولد ولهذا لا تحيض المراضع. قلنا: وهذا من أكبر حجتنا عليكم، فإن هذا الإنقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع، وهو زمن سلطان اللبن، وارتضاع المولود وقد أجرى اللَّه العادة بأن المرضع لا تحيض. ومع هذا، فلو رأت دماً فى وقت عادتها، لحكم له بحكم الحيض بالإتفاق، فلأن يحكم له بحكم الحيض فى الحال التى لم يستحكم فيها انقلابه، ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى. قالوا: وهب أن هذا كما تقولون، فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن، وهذا بعدَ أن يُنفخ فيه الروح. فأما قبل ذلك، فإنه لا ينقلب لبناً لعدم حاجة الحمل إليه.
وأيضاً، فإنه لا يستحيل كله لبناً، بل يستحيل بعضه، ويخرج الباقى، وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلاً ودليلاً، واللَّه المستعان.
فإن قيل: فهل تمنعون من الاستمتاع بالمُسْتَبرأة بغير الوطء فى الموضع الذى يجب فيه الاستبراء؟ قيل: أما إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فهذه لا تحرم قبلتها ولا مباشرتها، وهذا منصوص أحمد فى إحدى الروايتين عنه، اختارها أبو محمد المقدسى، وشيخنا وغيرُهما، فإنه قال: إن كانت صغيرة بأى شىء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال فى رواية أخرى: تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض، وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل. قال أبو محمد: فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها، ولا تحرم مباشرتها، وهذا اختيار ابن أبى موسى، وقولُ مالك وهو الصحيح، لأن سبب الإباحة متحقق، وليس على تحريمها دليل، فإنه لا نص فيها ولا معنى نص، فإن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعياً إلى الوطء المحرم، أو خشية أن تكون أمَّ ولد لغيره، ولا يتوهم هذا فى هذه، فوجب العمل بمقتضى الإباحة، انتهى كلامه.
فصل
وإن كانت ممن يُوطأ مثلُها، فإن كانت بكراً، وقلنا: لا يجبُ استبراؤها، فظاهر، وإن قلنا: يجب استبراؤُها فقال أصحابنا: تحرم قبلُتها ومباشرتها، وعندى أنه لا يحرم، ولو قلنا بوجوب استبرائها، لأنه لا يلزم من تحريم الوطء تحريم دواعيه، كما فى حق الصائم، لا سيما وهم إنما حرَّموا تحريم مباشرتها لأنها قد تكون حاملاً، فيكون مستمتعاً بأمة الغير، هكذا عللوا تحريم المباشرة، ثم قالوا: ولهذا لا يحرم الإستمتاع بالمسبية بغير الوطء قبل الاستبراء فى إحدى الروايتين، لأنها لا يُتوهم فيها انفساخ الملك، لأنه قد استقرَّ بالسبى، فلم يبق لمنع الاستمتاع بالقبلة وغيرها مِن البِكر معنى. وإن كانت ثيباً، فقال أصحاب أحمد، والشافعى وغيرهم: يحرم الاستمتاعُ بها قبل الاستبراء، قالوا: لأنه استبراءٌ يحرم الوطء، فحرم الاستمتاع بها قبل الاستبراء كالعِدة، ولأنه لا يأمن كونها حاملاً، فتكون أم ولد، والبيع باطل، فيكون مستمتعاً بأمِّ ولد غيره. قالوا: ولهذا فارق وطء تحريم الحائض والصائم.
وقال الحسن البصرى: لا يحرم من المستبرأة إلا فرجُها، وله أن يستمتِعَ منها بما شاء ما لم يطأ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما منع من الوطء قبل الاستبراء، ولم يمنع مما دونه ولا يلزمُ مِن تحريم الوطء تحريمُ ما دونه، كالحائض والصائمة وقد قيل: إن ابن عمر قبَّل جاريتَه من السبى حين وقعت فى سهمه قبل استبرائها. ولمن نصر هذا القول أن يقولَ: الفرقُ بين المشتراة والمعتدة: أن المعتدة قد صارت أجنبية منه، فلاً يَحِلُّ وطؤها ولا دواعيه، بخلاف المملوكة، فإن وطأها إنما يحرم قبل الاستبراء خشيةَ اختلاط مائه بماء غيره، وهذا لا يُوجب تحريمَ الدواعى، فهى أشبهُ بالحائض والصائمة، ونظيرُ هذا أنه لو زنت امرأتُه أو جاريتُه، حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء، ولا يحرمُ دواعيه، وكذلك المسبية كما سيأتى. وأكثرُ ما يتوهم كونها حاملاً من سيدها، فينفسخ البيع، فهذا بناء على تحريم بيع أمهاتِ الأولاد على عِلاَّته، ولا يلزم القائل به، لأنه لما استمتع بها، كانت ملكه ظاهراً وذلك يكفى فى جواز الاستمتاع، كما يخلو بها ويُحدِّثُها، وينظر منها ما لا يُباح من الأجنبية، وما كان جوابُكم عن هذه الأمور، فهو الجوابُ عن القُبلة والاستمتاع، ولا يُعلم فى جواز هذا نزاع، فإن المشترىَ لا يُمنع مِن قبض أمته وحوزها إلى بيته وإن كان وحدَه قبلَ الاستبراء، ولا يجبُ عليها أن تستُرَ وجهها منه، ولا يحرم عليه النظرُ إليها والخلوةُ بها، والأكلُ معها، واستخدامها، والانتفاعُ بمنافعها، وإن لم يَجُزْ له ذلك فى ملك الغير.
فصل
وإن كانت مَسْبِيَّةً، ففى جواز الاستمتاع بغير الوطء قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد رحمه اللَّه.
إحداهما: أنها كغير المسبية، فيحرم الاستمتاع منها بما دون الفَرْج، وهو ظاهر كلام الخِرَقى، لأنه قال: ومن مَلَك أمةً، لم يصبْها ولم يُقَبِّلْها حتى يستبرئهَا بعد تمام ملكه لها.
والثانية: لا يحرم، وهو قول ابن عمر رضى اللَّه عنه. والفرق بينها وبين المملوكة بغير السبى، أن المسبيَّةَ لا يتوهم فيها كونها أُمَّ ولد، بل هى مملوكة له على كل حال، بخلاف غيرها كما تقدَّم واللَّه أعلم.
فإن قيل: فهل يكونُ أولُ مدة الاستبراء من حين البيع، أو من حين القبض؟
قيل: فيه قولان، وهما وجهان فى مذهب أحمد رحمه اللَّه. أحدهما: من حين البيع، لأن الملك ينتقل به. والثانى: من حين القبض لأن القصد معرفة براءة رحمها من ماء البائع وغيره، ولا يحصل ذلك مع كونها فى يده، وهذا على أصل الشافعى وأحمد. أما على أصل مالك، فيكفى عنده الاستبراءُ قبل البيع فى المواضع التى تقدَّمت. فإن قيل: فإن كان فى البيع خيار، فمتى يكون ابتداء مدة الاستبراء؟
قيل: هذا ينبنى على الخلاف فى انتقال الملك فى مدة الخيار، فمن قال: ينتقل فابتداء المدة عنده من حين البيع، ومن قال: لا ينتقل، فابتداؤها عنده من حين انقطاع الخيار.
فإن قيل: فما تقولون لو كان الخيارُ خيارَ عَيْبٍ؟ قيل: ابتداء المدة من حين البيع قولاً واحداً، لأن خِيَارَ العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف، واللَّه أعلم.
عدد المشاهدات *:
624544
624544
عدد مرات التنزيل *:
108701
108701
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 21 ماي 2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 22/02/2015