وَقَالَ عُمَرُ صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّافِي حَلاَلٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلاَّ مَا قَذِرْتَ مِنْهَا وَالْجِرِّيُّ لاَ تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ وَقَالَ عَطَاءٌ أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ يَذْبَحَهُ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ صَيْدُ الأَنْهَارِ وَقِلاَتِ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ تَلاَ {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}.
وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلاَم عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلاَبِ الْمَاءِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لاَطْعَمْتُهُمْ وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِي ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ"
(9/614)
5493- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن بن جريج قال أخبرني عمرو انه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته"
حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا سفيان عن عمرو قال سمعت جابرا يقول: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمى جيش الخبط وألقى البحر حوتا يقال له العنبر فأكلنا نصف شهر وادهنا بودكه حتى صلحت أجسامنا قال فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه فمر الراكب تحته وكان فينا رجل فلما اشتد الجوع نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة"
قوله: "باب قول الله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} كذا للنسفي، واقتصر الباقون على "أحل لكم صيد البحر". قوله: "وقال عمر" هو ابن الخطاب "صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به" وصله المصنف في "التاريخ" وعبد بن حميد من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر فأمرتهم أن يأكلوه، فلما قدمت على عمر - فذكر قصة - قال فقال عمر قال الله عز وجل في كتابه {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فصيده ما صيد، وطعامه ما قذف به". قوله: "وقال أبو بكر" هو الصديق "الطافي حلال" وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدار قطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: "السمكة الطافية حلال" زاد الطحاوي "لمن أراد أكله" وأخرجه الدار قطني وكذا عبد بن حميد والطبري منها وفي بعضها "أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء" ا ه والطافي بغير همز من طفا يطفو إذا علا الماء ولم يرسب، وللدار قطني من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بكر: إن الله ذبح لكم ما في البحر، فكلوه كله فإنه ذكي. قوله: "وقال ابن عباس: طعامه ميتته إلا ما قذرت منها" وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال طعامه ميتته. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس وذكر صيد البحر: لا تأكل منه طافيا. في سنده الأجلح وهو لين، ويوهنه حديث ابن عباس الماضي قبله. قوله: "والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله" وصله عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس أنه سأل عن الجري فقال: لا بأس به، إنما هو كرهته اليهود، وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري به. وقال في روايته: سألت ابن عباس عن الجري فقال: لا بأس به، إنما تحرمه اليهود ونحن نأكله. وهذا على شرط الصحيح. وأخرج عن علي وطائفة نحوه. والجري بفتح الجيم قال ابن التين: وفي نسخة بالكسر وهو ضبط الصحاح وكسر الراء الثقيلة قال: ويقال له أيضا الجريت وهو ما لا قشر له. قال وقال ابن حبيب من المالكية: أنا أكرهه لأنه يقال إنه من الممسوخ. وقال الأزهري: الجريت نوع من السمك يشبه الحيات، وقيل سمك لا قشر له، ويقال له أيضا المرماهي والسلور مثله. وقال الخطابي: هو ضرب من السمك يشبه الحيات. وقال غيره: نوع عريض الوسط دقيق الطرفين. قوله: "وقال
(9/615)
شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوح. وقال عطاء: أما الطير فأرى أن تذبحه" وصله المصنف في "التاريخ" وابن منده في "المعرفة" من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير أنهما سمعا شريحا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء في البحر مذبوح. قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: أما الطير فأرى أن تذبحه". وأخرجه الدار قطني وأبو نعيم في "الصحابة" مرفوعا من حديث شريح، والموقوف أصح. وأخرجه ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق عمرو بن دينار سمعت شيخا كبيرا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم" وأخرج الدار قطني من حديث عبد الله بن سرجس رفعه: "إن الله قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم" وفي سنده ضعف. والطبراني من حديث ابن عمر رفعه نحوه وسنده ضعيف أيضا. وأخرج عبد الرزاق بسندين جيدين عن عمر ثم عن علي: الحوت ذكي كله. "تنبيه": سقط هذا التعليق من رواية أبي زيد وابن السكن والجرجاني، ووقع في رواية الأصيلي: "وقال أبو شريح وهو وهم نبه على ذلك أبو علي الجياني وتبعه عياض وزاد: وهو شريح بن هانئ أبو هانئ كذا قال، والصواب أنه غيره وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وشريح بن هانئ لأبيه صحبة، وأما هو فله إدراك ولم يثبت له سماع ولا لقاء. وأما شريح المذكور فذكره البخاري في "التاريخ" وقال: له صحبة. وكذا قال أبو حاتم الرازي وغيره. قوله: "وقال ابن جريج: قلت لعطاء صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم، ثم تلا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} وصله عبد الرزاق في التفسير عن ابن جريج بهذا سواء، وأخرجه الفاكهي في "كتاب مكة" من رواية عبد المجيد بن أبي داود عن ابن جريج أتم من هذا وفيه: وسألته عن حيتان بركة القشيري - وهي بئر عظيمة في الحرم - أتصاد؟ قال: نعم. وسألته عن ابن الماء وأشباهه أصيد بحر أم صيد بر؟ فقال حيث يكون أكثر فهو صيد. وقلات بكسر القاف وتخفيف اللام وآخره مثناة، ووقع في رواية الأصيلي مثلثة والصواب الأول: جمع قلت بفتح أوله مثل بحر وبحار هو النقرة في الصخرة يستنقع فيها الماء. قوله: "وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء، وفال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم، ولم ير الحسن بالسلحفاة بأسا" أما قول الحسن الأول فقيل إنه ابن علي وقيل البصري؛ ويؤيد الأول أنه وقع في رواية: "وركب الحسن عليه السلام" وقوله: "على سرج من جلود" أي متخذ من جلود "كلاب الماء"، وأما قول الشعبي فالضفادع جمع ضفدع بكسر أوله وبفتح الدال وبكسرها أيضا، وحكى ضم أوله مع فتح الدال، والضفادي بغير عين لغة فيه، قال ابن التين. لم يبين الشعبي هل تذكى أم لا؟ ومذهب مالك أنها تؤكل بغير تذكية، ومنهم من فصل بين ما مأواه الماء وغيره، وعن الحنفية ورواية عن الشافعي لا بد من التذكية، وأما قول الحسن في السلحفاة فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى بأكل السلحفاة بأسا، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن قال: لا بأس بها، كلها. والسلحفاة بضم المهملة وفتح اللام وسكون المهملة بعدها فاء ثم ألف ثم هاء، ويجوز بدل الهاء همزة حكاه ابن سيده وهي رواية عبدوس، وحكى أيضا في "المحكم" سكون اللام وفتح الحاء، وحكى أيضا سلحفية كالأول لكن بكسر الفاء بعدها تحتانية مفتوحة. قوله: "وقال ابن عباس: كل من صيد البحر نصراني أو يهودي أو مجوسي" قال الكرماني: كذا في النسخ القديمة وفي بعضها "ما صاده" قبل لفظ نصراني. قلت: وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل ما ألقى البحر وما صيد منه صاده يهودي أو نصراني
(9/616)
أو مجوسي، قال ابن التين: مفهومه أن صيد البحر لا يؤكل إن صاده غير هؤلاء، وهو كذلك عند قوم. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء وسعيد بن جبير، وبسند آخر عن علي كراهية صيد المجوسي السمك. قوله: "وقال أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس" قال البيضاوي: ذبح بصيغة الفعل الماضي ونصب راء الخمر على أنه المفعول، قال: ويروى بسكون الموحدة على الإضافة والخمر بالكسر أي تطهيرها. قلت: والأول هو المشهور وهذا الأثر سقط من رواية النسفي، وقد وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:" له من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكره سواء، قال الحربي: هذا مري يعمل بالشام: يؤخذ الخمر فيجعل فيه الملح والسمك ويوضع في الشمس فيتغير عن طعم الخمر. وأخرج أبو بشر الدولابي في "الكنى" من طريق يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه قال في مري النينان: غيرته الشمس. ولابن أبي شيبة من طريق مكحول عن أبي الدرداء: لا بأس بالمري ذبحته النار والملح. وهذا منقطع، وعليه اقتصر مغلطاي ومن تبعه، واعترضوا على جزم البخاري به وما عثروا على كلام الحربي، وهو مراد البخاري جزما، وله طرق أخرى أخرجها الطحاوي من طريق بشر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني: أن أبا الدرداء كان يأكل المري الذي يجعل فيه الخمر ويقول ذبحته الشمس والملح. وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس قال: مر رجل من أصحاب أبي الدرداء بآخر - فذكر قصة في اختلافهم في المري - فأتيا أبا الدرداء فسألاه فقال: ذبحت خمرها الشمس والملح والحيتان. ورويناه في جزء إسحاق بن الفيض من طريق عطاء الخراساني قال: سئل أبو الدرداء عن أكل المري فقال: ذبحت الشمس سكر الخمر، فنحن نأكل، لا نرى به بأسا. قال أبو موسى في "ذيل الغريب" : عبر عن قوة الملح والشمس وغلبتهما على الخمر وإزالتهما طعمها ورائحتها بالذبح، وإنما ذكر النينان دون الملح لأن المقصود من ذلك يحصل بدونه، ولم يرد أن النينان وحدها هي التي خللته. قال: وكان أبو الدرداء ممن يفتي بجواز تخليل الخمر فقال: إن السمك بالآلة التي أضيفت إليه يغلب على ضراوة الخمر ويزيل شدتها، والشمس تؤثر في تخليلها فتصير حلالا. قال: وكان أهل الريف من الشام يعجنون المري بالخمر وربما يجعلون فيه أيضا السمك الذي يربى بالملح والأبزار مما يسمونه الصحناء، والقصد من المري هضم الطعام فيضيفونه إليه كل ثقيف أو حريف ليزيد في جلاء المعدة واستدعاء الطعام بحرافته. وكان أبو الدرداء وجماعة من الصحابة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر وأدخله البخاري في طهارة صيد البحر يريد أن السمك طاهر حلال وأن طهارته وحله يتعدى إلى غيره كالملح حتى يصير الحرام النجس بإضافتها إليه طاهرا حلالا، وهذا رأي من يجوز تحليل الخمر، وهو قول أبي الدرداء وجماعة. وقال ابن الأثير في "النهاية" استعار الذبح للإحلال فكأنه يقول: كما أن الذبح يحل أكل المذبوحة دون الميتة فكذلك هذه الأشياء إذا وضعت في الخمر قامت مقام الذبح فأحلتها. وقال البيضاوي: يريد أنها حلت بالحوت المطروح فيها وطبخها بالشمس، فكان ذلك كالذكاة للحيوان. وقال غيره معنى ذبحتها أبطلت فعلها، وذكر الحاكم في النوع العشرين من "علوم الحديث:" من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع عثمان بن عفان يقول: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث. قال ابن شهاب: في هذا الحديث أن لا خير في الخمر، وأنها إذا أفسدت لا خير فيها حتى يكون الله هو الذي يفسدها فيطيب حينئذ الخل. قال ابن وهب: وسمعت مالكا يقول سمعت ابن شهاب يسأل عن خمر جعلت في قلة وجعل معها ملح وأخلاط كثيرة ثم تجعل في الشمس حتى
(9/617)
تعود مريا، فقال ابن شهاب: شهدت قبيصة ينهى أن يجعل الخمر مريا إذا أخذ وهو خمر. قلت: وقبيصة من كبار التابعين وأبوه صحابي وولد هو في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر في الصحابة لذلك، وهذا يعارض أثر أبي الدرداء المذكور ويفسر المراد به. والنينان بنونين الأول مكسورة بينهما تحتانية ساكنة جمع نون وهو الحوت، والمري بضم الميم وسكون الراء بعدها تحتانية، وضبط في "النهاية" تبعا للصحاح بتشديد الراء نسبة إلى المر وهو الطعم المشهور، وجزم الشيخ محيي الدين بالأول، ونقل الجواليقي في "لحن العامة" أنهم يحركون الراء والأصل بسكونها، ثم ذكر المصنف حديث جابر في قصة جيش الخبط من طريقين: إحداهما رواية ابن جريج: أخبرني عمرو وهو ابن دينار أنه سمع جابرا، وقد تقدم بسنده ومتنه في المغازي، وزاد هناك عن أبي الزبير عن جابر، وتقدمت مشروحة مع شرح سائر الحديث. الطريق الثانية رواية سفيان عن عمرو بن دينار أيضا، وفيه من الزيادة "وكان فينا رجل نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة، وهذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة كما تقدم إيضاحه في المغازي، وكان اشترى الجزر من أعرابي جهني كل جزور بوسق من تمر يوفيه إياه بالمدينة، فلما رأى عمر ذلك - وكان في ذلك الجيش - سأل أبا عبيدة أن ينهى قيسا عن النحر، فعزم عليه أبو عبيدة أن ينتهي عن ذلك فأطاعه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك هناك أيضا. والمراد بقوله: "جزائر" جمع جزور، وفيه نظر فإن جزائر جزيرة والجزور إنما يجمع على جزر بضمتين، فلعله جمع الجمع، والغرض من إيراده هنا قصة الحوت فإنه يستفاد منها جواز أكل ميتة البحر لتصريحه في الحديث بقوله: "فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر" وتقدم في المغازي أن في بعض طرقه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، وبهذا تتم الدلالة، وإلا فمجرد أكل الصحابة منه وهم في حالة المجاعة قد يقال إنه للاضطرار، ولا سيما وفيه قول أبي عبيدة "ميتة" ثم قال: "لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا" وهذه رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم، وتقدمت للمصنف في المغازي من هذا الوجه، لكن قال: "قال أبو عبيدة كلوا" ولم يذكر بقيته. وحاصل قول أبي عبيدة أنه بناه أولا على عموم تحريم الميتة، ثم تذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغ ولا عاد، وهم بهذه الصفة لأنهم في سبيل الله وفي طاعة رسوله وقد تبين من آخر الحديث أن جهة كونها حلالا ليست سبب الاضطرار بل كونها من صيد البحر، ففي آخره عندهما جميعا "فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بعضو فأكله" فتبين لهم أنه حلال مطلقا. وبالغ في البيان بأكله منها لأنه لم يكن مضطرا، فيستفاد منه إباحة ميتة البحر سواء مات بنفسه أو ما مات بالاصطياد، وهو قول الجمهور. وعن الحنفية يكره، وفرقوا بين ما لفظه فمات وبين ما مات فيه من غير آفة، وتمسكوا بحديث أبي الزبير عن جابر "ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه" أخرجه أبو داود مرفوعا من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن أبي الزبير عن جابر ثم قال: رواه الثوري وأيوب وغيرهما عن أبي الزبير هذا الحديث موقوفا. وقد أسند من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال ليس بمحفوظ، ويروى عن جابر خلافه ا هـ. ويحيى بن سليم صدوق وصفوه بسوء الحفظ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال يعقوب بن سفيان: إذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا يعرف وينكر. وقال أبو حازم: لم يكن بالحافظ. وقال ابن حبان في الثقات: كان يخطئ، وقد توبع على رفعه. وأخرجه الدار قطني من رواية أبي أحمد الزبيري عن
(9/618)
الثوري مرفوعا لكن قال: خالفه وكيع وغيره فوقفوه عن الثوري وهو الصواب، وروى عن ابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية مرفوعا ولا يصح والصحيح موقوف، وإذا لم يصح إلا موقوفا فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله، لأنه سمك لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر. ويستفاد من قوله: "أكلنا منه نصف شهر" جواز أكل اللحم ولو أنتن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكل منه بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالبا بلا نتن في هذه المدة لا سيما في الحجاز مع شدة الحر، لكن يحتمل أن يكونوا ملحوه وقددوه فلم يدخله نتن، وقد تقدم قريبا قول النووي: إن النهي عن أكل اللحم إذا أنتن للتنزيه إلا أن خيف منه الضرر فيحرم، وهذا الجواب على مذهبه، ولكن المالكية حملوه على التحريم مطلقا. وهو الظاهر والله أعلم. ويأتي في الطافي نظير ما قاله في النتن إذا خشي منه الضرر، وفيه جواز أكل حيوان البحر مطلقا لأنه لم يكن عند الصحابة نص يخص العنبر وقد أكلوا منه، كذا قال بعضهم، ويخدش فيه أنهم أولا إنما أقدموا عليه بطريق الاضطرار، ويجاب بأنهم أقدموا عليه مطلقا من حيث كونه صيد البحر ثم توقفوا من حيث كونه ميتة، فدل على إباحة الإقدام على أكل ما صيد من البحر، وبين لهم الشارع آخرا أن ميتته أيضا حلال، ولم يفرق بين طاف ولا غيره. واحتج بعض المالكية بأنهم أقاموا يأكلون منه أياما، فلو كانوا أكلوا منه على أنه ميتة بطريق الاضطرار ما داوموا عليه، لأن المضطر إذا أكل الميتة يأكل منها بحسب الحاجة ثم ينتقل لطلب المباح غيرها، وجمع بعض العلماء بين مختلف الأخبار في ذلك بحمل النهي على كراهة التنزيه وما عدا ذلك على الجواز، ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختلف فيما كان على صورة حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير والثعبان، فعند الحنفية - وهو قول الشافعية - يحرم ما عدا السمك، واحتجوا عليه بهذا الحديث، فإن الحوت المذكور لا يسمى سمكا. وفيه نظر، فإن الخبر ورد في الحوت نصا، وعن الشافعية الحل مطلقا على الأصح المنصوص. وهو مذهب المالكية إلا الخنزير في رواية، وحجتهم قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وحديث: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وعن الشافعية ما يؤكل نظيره في البر حلال ومالا فلا، واستثنوا على الأصح ما يعيش في البحر والبر وهو نوعان: النوع الأول ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع، وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله ورد ذلك من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي أخرجه أبو داود والنسائي وصححه والحاكم، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبي عاصم، وآخر عن عبد الله بن عمر، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" وزاد: فإن نقيقها تسبيح. وذكر الأطباء أن الضفدع نوعان بري وبحري، فالبري يقتل آكله والبحري يضره. ومن المستثنى أيضا التمساح لكونه يعدو بنابه. وعند أحمد فيه رواية، ومثله القرش في البحر الملح خلافا لما أفتى به المحب الطبري، والثعبان والعقرب والسرطان والسلحفاة للاستخباث والضرر اللاحق من السم، ودنيلس قيل إن أصله السرطان فإن ثبت حرم. النوع الثاني ما لم يرد فيه مانع فيحل لكن بشرط التذكية، كالبط وطير الماء والله أعلم. "تنبيه": وقع في أواخر صحيح مسلم في الحديث الطويل من طريق الوليد بن عبادة بن الصامت أنهم "دخلوا على جابر فرأوه يصلي في ثوب" الحديث وفيه قصة النخامة في المسجد، وفيه أنهم خرجوا في غزاة ببطن بواط، وفيه قصة الحوض، وفيه قيام المأمومين خلف الإمام كل ذلك مطول، وفيه قال: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا تمرة
(9/619)
كل يوم فكان يمصها وكنا نختبط بقسينا ونأكل، وسرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح" فذكر قصة الشجرتين اللتين التقتا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستر بهما عند قضاء الحاجة، وفيه قصة القبرين اللذين غرس في كل منهما غصنا، وفيه: "فأتينا العسكر فقال: يا جابر ناد الوضوء" فذكر القصة بطولها في نبع الماء من بين أصابعه، وفيه: "وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم. فأتينا سيف البحر، فزجر البحر زجرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا". وذكر أنه دخل هو وجماعة في عينها، وذكر قصة الذي دخل تحت ضلعها ما يطأطئ رأسه وهو أعظم رجل في الركب على أعظم جمل، وظاهر سياق هذه القصة يقتضي مغايرة القصة المذكورة في هذا الباب وهي من رواية جابر أيضا، حتى قال عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين" : هذه واقعة أخرى غير تلك، فإن هذه كانت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وما ذكره ليس بنص في ذلك لاحتمال أن تكون الفاء في قول جابر "فأتينا سيف البحر" هي الفصيحة وهي معقبة لمحذوف تقديره فأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة فأتينا سيف البحر فتتحد القصتان، وهذا هو الراجح عندي، والأصل عدم التعدد. ومما تنبه عليه هنا أيضا أن الواقدي زعم أن قصة بعث أبي عبيدة كانت في رجب سنة ثمان، وهو عندي خطأ لأن في نفس الخبر الصحيح أنهم خرجوا يترصدون عير قريش وقريش في سنة ثمان كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة، وقد نبهت على ذلك في المغازي، وجوزت أن يكون ذلك قبل الهدنة في سنة ست أو قبلها، ثم ظهر لي الآن تقوية ذلك بقول جابر في رواية مسلم هذه أنهم خرجوا في غزاة بواط وغزاة بواط كانت في السنة الثانية من الهجرة قبل وقعة بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف فبلغ بواطا، وهي بضم الموحدة جبال لجهينة مما يلي الشام، بينها وبين المدينة أربعة برد، فلم يلق أحدا فرجع، فكأنه أفرد أبا عبيدة فيمن معه يرصدون العير المذكورة. ويؤيد تقدم أمرها ما ذكر فيها من القلة والجهد، والواقع أنهم في سنة ثمان كان حالهم اتسع بفتح خيبر وغيرها، والجهد المذكور في القصة يناسب ابتداء الأمر فيرجح ما ذكرته، والله أعلم.
(9/620)
وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلاَم عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلاَبِ الْمَاءِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لاَطْعَمْتُهُمْ وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِي ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ"
(9/614)
5493- حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن بن جريج قال أخبرني عمرو انه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته"
حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا سفيان عن عمرو قال سمعت جابرا يقول: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة نرصد عيرا لقريش فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمى جيش الخبط وألقى البحر حوتا يقال له العنبر فأكلنا نصف شهر وادهنا بودكه حتى صلحت أجسامنا قال فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه فمر الراكب تحته وكان فينا رجل فلما اشتد الجوع نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة"
قوله: "باب قول الله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} كذا للنسفي، واقتصر الباقون على "أحل لكم صيد البحر". قوله: "وقال عمر" هو ابن الخطاب "صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به" وصله المصنف في "التاريخ" وعبد بن حميد من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر فأمرتهم أن يأكلوه، فلما قدمت على عمر - فذكر قصة - قال فقال عمر قال الله عز وجل في كتابه {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فصيده ما صيد، وطعامه ما قذف به". قوله: "وقال أبو بكر" هو الصديق "الطافي حلال" وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدار قطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: "السمكة الطافية حلال" زاد الطحاوي "لمن أراد أكله" وأخرجه الدار قطني وكذا عبد بن حميد والطبري منها وفي بعضها "أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء" ا ه والطافي بغير همز من طفا يطفو إذا علا الماء ولم يرسب، وللدار قطني من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بكر: إن الله ذبح لكم ما في البحر، فكلوه كله فإنه ذكي. قوله: "وقال ابن عباس: طعامه ميتته إلا ما قذرت منها" وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} قال طعامه ميتته. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس وذكر صيد البحر: لا تأكل منه طافيا. في سنده الأجلح وهو لين، ويوهنه حديث ابن عباس الماضي قبله. قوله: "والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله" وصله عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس أنه سأل عن الجري فقال: لا بأس به، إنما هو كرهته اليهود، وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري به. وقال في روايته: سألت ابن عباس عن الجري فقال: لا بأس به، إنما تحرمه اليهود ونحن نأكله. وهذا على شرط الصحيح. وأخرج عن علي وطائفة نحوه. والجري بفتح الجيم قال ابن التين: وفي نسخة بالكسر وهو ضبط الصحاح وكسر الراء الثقيلة قال: ويقال له أيضا الجريت وهو ما لا قشر له. قال وقال ابن حبيب من المالكية: أنا أكرهه لأنه يقال إنه من الممسوخ. وقال الأزهري: الجريت نوع من السمك يشبه الحيات، وقيل سمك لا قشر له، ويقال له أيضا المرماهي والسلور مثله. وقال الخطابي: هو ضرب من السمك يشبه الحيات. وقال غيره: نوع عريض الوسط دقيق الطرفين. قوله: "وقال
(9/615)
شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوح. وقال عطاء: أما الطير فأرى أن تذبحه" وصله المصنف في "التاريخ" وابن منده في "المعرفة" من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير أنهما سمعا شريحا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء في البحر مذبوح. قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: أما الطير فأرى أن تذبحه". وأخرجه الدار قطني وأبو نعيم في "الصحابة" مرفوعا من حديث شريح، والموقوف أصح. وأخرجه ابن أبي عاصم في الأطعمة من طريق عمرو بن دينار سمعت شيخا كبيرا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم" وأخرج الدار قطني من حديث عبد الله بن سرجس رفعه: "إن الله قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم" وفي سنده ضعف. والطبراني من حديث ابن عمر رفعه نحوه وسنده ضعيف أيضا. وأخرج عبد الرزاق بسندين جيدين عن عمر ثم عن علي: الحوت ذكي كله. "تنبيه": سقط هذا التعليق من رواية أبي زيد وابن السكن والجرجاني، ووقع في رواية الأصيلي: "وقال أبو شريح وهو وهم نبه على ذلك أبو علي الجياني وتبعه عياض وزاد: وهو شريح بن هانئ أبو هانئ كذا قال، والصواب أنه غيره وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وشريح بن هانئ لأبيه صحبة، وأما هو فله إدراك ولم يثبت له سماع ولا لقاء. وأما شريح المذكور فذكره البخاري في "التاريخ" وقال: له صحبة. وكذا قال أبو حاتم الرازي وغيره. قوله: "وقال ابن جريج: قلت لعطاء صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم، ثم تلا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} وصله عبد الرزاق في التفسير عن ابن جريج بهذا سواء، وأخرجه الفاكهي في "كتاب مكة" من رواية عبد المجيد بن أبي داود عن ابن جريج أتم من هذا وفيه: وسألته عن حيتان بركة القشيري - وهي بئر عظيمة في الحرم - أتصاد؟ قال: نعم. وسألته عن ابن الماء وأشباهه أصيد بحر أم صيد بر؟ فقال حيث يكون أكثر فهو صيد. وقلات بكسر القاف وتخفيف اللام وآخره مثناة، ووقع في رواية الأصيلي مثلثة والصواب الأول: جمع قلت بفتح أوله مثل بحر وبحار هو النقرة في الصخرة يستنقع فيها الماء. قوله: "وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء، وفال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم، ولم ير الحسن بالسلحفاة بأسا" أما قول الحسن الأول فقيل إنه ابن علي وقيل البصري؛ ويؤيد الأول أنه وقع في رواية: "وركب الحسن عليه السلام" وقوله: "على سرج من جلود" أي متخذ من جلود "كلاب الماء"، وأما قول الشعبي فالضفادع جمع ضفدع بكسر أوله وبفتح الدال وبكسرها أيضا، وحكى ضم أوله مع فتح الدال، والضفادي بغير عين لغة فيه، قال ابن التين. لم يبين الشعبي هل تذكى أم لا؟ ومذهب مالك أنها تؤكل بغير تذكية، ومنهم من فصل بين ما مأواه الماء وغيره، وعن الحنفية ورواية عن الشافعي لا بد من التذكية، وأما قول الحسن في السلحفاة فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى بأكل السلحفاة بأسا، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن قال: لا بأس بها، كلها. والسلحفاة بضم المهملة وفتح اللام وسكون المهملة بعدها فاء ثم ألف ثم هاء، ويجوز بدل الهاء همزة حكاه ابن سيده وهي رواية عبدوس، وحكى أيضا في "المحكم" سكون اللام وفتح الحاء، وحكى أيضا سلحفية كالأول لكن بكسر الفاء بعدها تحتانية مفتوحة. قوله: "وقال ابن عباس: كل من صيد البحر نصراني أو يهودي أو مجوسي" قال الكرماني: كذا في النسخ القديمة وفي بعضها "ما صاده" قبل لفظ نصراني. قلت: وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل ما ألقى البحر وما صيد منه صاده يهودي أو نصراني
(9/616)
أو مجوسي، قال ابن التين: مفهومه أن صيد البحر لا يؤكل إن صاده غير هؤلاء، وهو كذلك عند قوم. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء وسعيد بن جبير، وبسند آخر عن علي كراهية صيد المجوسي السمك. قوله: "وقال أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس" قال البيضاوي: ذبح بصيغة الفعل الماضي ونصب راء الخمر على أنه المفعول، قال: ويروى بسكون الموحدة على الإضافة والخمر بالكسر أي تطهيرها. قلت: والأول هو المشهور وهذا الأثر سقط من رواية النسفي، وقد وصله إبراهيم الحربي في "غريب الحديث:" له من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء فذكره سواء، قال الحربي: هذا مري يعمل بالشام: يؤخذ الخمر فيجعل فيه الملح والسمك ويوضع في الشمس فيتغير عن طعم الخمر. وأخرج أبو بشر الدولابي في "الكنى" من طريق يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه قال في مري النينان: غيرته الشمس. ولابن أبي شيبة من طريق مكحول عن أبي الدرداء: لا بأس بالمري ذبحته النار والملح. وهذا منقطع، وعليه اقتصر مغلطاي ومن تبعه، واعترضوا على جزم البخاري به وما عثروا على كلام الحربي، وهو مراد البخاري جزما، وله طرق أخرى أخرجها الطحاوي من طريق بشر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني: أن أبا الدرداء كان يأكل المري الذي يجعل فيه الخمر ويقول ذبحته الشمس والملح. وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس قال: مر رجل من أصحاب أبي الدرداء بآخر - فذكر قصة في اختلافهم في المري - فأتيا أبا الدرداء فسألاه فقال: ذبحت خمرها الشمس والملح والحيتان. ورويناه في جزء إسحاق بن الفيض من طريق عطاء الخراساني قال: سئل أبو الدرداء عن أكل المري فقال: ذبحت الشمس سكر الخمر، فنحن نأكل، لا نرى به بأسا. قال أبو موسى في "ذيل الغريب" : عبر عن قوة الملح والشمس وغلبتهما على الخمر وإزالتهما طعمها ورائحتها بالذبح، وإنما ذكر النينان دون الملح لأن المقصود من ذلك يحصل بدونه، ولم يرد أن النينان وحدها هي التي خللته. قال: وكان أبو الدرداء ممن يفتي بجواز تخليل الخمر فقال: إن السمك بالآلة التي أضيفت إليه يغلب على ضراوة الخمر ويزيل شدتها، والشمس تؤثر في تخليلها فتصير حلالا. قال: وكان أهل الريف من الشام يعجنون المري بالخمر وربما يجعلون فيه أيضا السمك الذي يربى بالملح والأبزار مما يسمونه الصحناء، والقصد من المري هضم الطعام فيضيفونه إليه كل ثقيف أو حريف ليزيد في جلاء المعدة واستدعاء الطعام بحرافته. وكان أبو الدرداء وجماعة من الصحابة يأكلون هذا المري المعمول بالخمر وأدخله البخاري في طهارة صيد البحر يريد أن السمك طاهر حلال وأن طهارته وحله يتعدى إلى غيره كالملح حتى يصير الحرام النجس بإضافتها إليه طاهرا حلالا، وهذا رأي من يجوز تحليل الخمر، وهو قول أبي الدرداء وجماعة. وقال ابن الأثير في "النهاية" استعار الذبح للإحلال فكأنه يقول: كما أن الذبح يحل أكل المذبوحة دون الميتة فكذلك هذه الأشياء إذا وضعت في الخمر قامت مقام الذبح فأحلتها. وقال البيضاوي: يريد أنها حلت بالحوت المطروح فيها وطبخها بالشمس، فكان ذلك كالذكاة للحيوان. وقال غيره معنى ذبحتها أبطلت فعلها، وذكر الحاكم في النوع العشرين من "علوم الحديث:" من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع عثمان بن عفان يقول: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث. قال ابن شهاب: في هذا الحديث أن لا خير في الخمر، وأنها إذا أفسدت لا خير فيها حتى يكون الله هو الذي يفسدها فيطيب حينئذ الخل. قال ابن وهب: وسمعت مالكا يقول سمعت ابن شهاب يسأل عن خمر جعلت في قلة وجعل معها ملح وأخلاط كثيرة ثم تجعل في الشمس حتى
(9/617)
تعود مريا، فقال ابن شهاب: شهدت قبيصة ينهى أن يجعل الخمر مريا إذا أخذ وهو خمر. قلت: وقبيصة من كبار التابعين وأبوه صحابي وولد هو في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر في الصحابة لذلك، وهذا يعارض أثر أبي الدرداء المذكور ويفسر المراد به. والنينان بنونين الأول مكسورة بينهما تحتانية ساكنة جمع نون وهو الحوت، والمري بضم الميم وسكون الراء بعدها تحتانية، وضبط في "النهاية" تبعا للصحاح بتشديد الراء نسبة إلى المر وهو الطعم المشهور، وجزم الشيخ محيي الدين بالأول، ونقل الجواليقي في "لحن العامة" أنهم يحركون الراء والأصل بسكونها، ثم ذكر المصنف حديث جابر في قصة جيش الخبط من طريقين: إحداهما رواية ابن جريج: أخبرني عمرو وهو ابن دينار أنه سمع جابرا، وقد تقدم بسنده ومتنه في المغازي، وزاد هناك عن أبي الزبير عن جابر، وتقدمت مشروحة مع شرح سائر الحديث. الطريق الثانية رواية سفيان عن عمرو بن دينار أيضا، وفيه من الزيادة "وكان فينا رجل نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم نهاه أبو عبيدة، وهذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة كما تقدم إيضاحه في المغازي، وكان اشترى الجزر من أعرابي جهني كل جزور بوسق من تمر يوفيه إياه بالمدينة، فلما رأى عمر ذلك - وكان في ذلك الجيش - سأل أبا عبيدة أن ينهى قيسا عن النحر، فعزم عليه أبو عبيدة أن ينتهي عن ذلك فأطاعه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك هناك أيضا. والمراد بقوله: "جزائر" جمع جزور، وفيه نظر فإن جزائر جزيرة والجزور إنما يجمع على جزر بضمتين، فلعله جمع الجمع، والغرض من إيراده هنا قصة الحوت فإنه يستفاد منها جواز أكل ميتة البحر لتصريحه في الحديث بقوله: "فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر" وتقدم في المغازي أن في بعض طرقه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، وبهذا تتم الدلالة، وإلا فمجرد أكل الصحابة منه وهم في حالة المجاعة قد يقال إنه للاضطرار، ولا سيما وفيه قول أبي عبيدة "ميتة" ثم قال: "لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا" وهذه رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم، وتقدمت للمصنف في المغازي من هذا الوجه، لكن قال: "قال أبو عبيدة كلوا" ولم يذكر بقيته. وحاصل قول أبي عبيدة أنه بناه أولا على عموم تحريم الميتة، ثم تذكر تخصيص المضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغ ولا عاد، وهم بهذه الصفة لأنهم في سبيل الله وفي طاعة رسوله وقد تبين من آخر الحديث أن جهة كونها حلالا ليست سبب الاضطرار بل كونها من صيد البحر، ففي آخره عندهما جميعا "فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله، أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بعضو فأكله" فتبين لهم أنه حلال مطلقا. وبالغ في البيان بأكله منها لأنه لم يكن مضطرا، فيستفاد منه إباحة ميتة البحر سواء مات بنفسه أو ما مات بالاصطياد، وهو قول الجمهور. وعن الحنفية يكره، وفرقوا بين ما لفظه فمات وبين ما مات فيه من غير آفة، وتمسكوا بحديث أبي الزبير عن جابر "ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه" أخرجه أبو داود مرفوعا من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن أبي الزبير عن جابر ثم قال: رواه الثوري وأيوب وغيرهما عن أبي الزبير هذا الحديث موقوفا. وقد أسند من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال ليس بمحفوظ، ويروى عن جابر خلافه ا هـ. ويحيى بن سليم صدوق وصفوه بسوء الحفظ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال يعقوب بن سفيان: إذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا يعرف وينكر. وقال أبو حازم: لم يكن بالحافظ. وقال ابن حبان في الثقات: كان يخطئ، وقد توبع على رفعه. وأخرجه الدار قطني من رواية أبي أحمد الزبيري عن
(9/618)
الثوري مرفوعا لكن قال: خالفه وكيع وغيره فوقفوه عن الثوري وهو الصواب، وروى عن ابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية مرفوعا ولا يصح والصحيح موقوف، وإذا لم يصح إلا موقوفا فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله، لأنه سمك لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر. ويستفاد من قوله: "أكلنا منه نصف شهر" جواز أكل اللحم ولو أنتن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكل منه بعد ذلك، واللحم لا يبقى غالبا بلا نتن في هذه المدة لا سيما في الحجاز مع شدة الحر، لكن يحتمل أن يكونوا ملحوه وقددوه فلم يدخله نتن، وقد تقدم قريبا قول النووي: إن النهي عن أكل اللحم إذا أنتن للتنزيه إلا أن خيف منه الضرر فيحرم، وهذا الجواب على مذهبه، ولكن المالكية حملوه على التحريم مطلقا. وهو الظاهر والله أعلم. ويأتي في الطافي نظير ما قاله في النتن إذا خشي منه الضرر، وفيه جواز أكل حيوان البحر مطلقا لأنه لم يكن عند الصحابة نص يخص العنبر وقد أكلوا منه، كذا قال بعضهم، ويخدش فيه أنهم أولا إنما أقدموا عليه بطريق الاضطرار، ويجاب بأنهم أقدموا عليه مطلقا من حيث كونه صيد البحر ثم توقفوا من حيث كونه ميتة، فدل على إباحة الإقدام على أكل ما صيد من البحر، وبين لهم الشارع آخرا أن ميتته أيضا حلال، ولم يفرق بين طاف ولا غيره. واحتج بعض المالكية بأنهم أقاموا يأكلون منه أياما، فلو كانوا أكلوا منه على أنه ميتة بطريق الاضطرار ما داوموا عليه، لأن المضطر إذا أكل الميتة يأكل منها بحسب الحاجة ثم ينتقل لطلب المباح غيرها، وجمع بعض العلماء بين مختلف الأخبار في ذلك بحمل النهي على كراهة التنزيه وما عدا ذلك على الجواز، ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختلف فيما كان على صورة حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير والثعبان، فعند الحنفية - وهو قول الشافعية - يحرم ما عدا السمك، واحتجوا عليه بهذا الحديث، فإن الحوت المذكور لا يسمى سمكا. وفيه نظر، فإن الخبر ورد في الحوت نصا، وعن الشافعية الحل مطلقا على الأصح المنصوص. وهو مذهب المالكية إلا الخنزير في رواية، وحجتهم قوله تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وحديث: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم، وعن الشافعية ما يؤكل نظيره في البر حلال ومالا فلا، واستثنوا على الأصح ما يعيش في البحر والبر وهو نوعان: النوع الأول ما ورد في منع أكله شيء يخصه كالضفدع، وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله ورد ذلك من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي أخرجه أبو داود والنسائي وصححه والحاكم، وله شاهد من حديث ابن عمر عند ابن أبي عاصم، وآخر عن عبد الله بن عمر، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" وزاد: فإن نقيقها تسبيح. وذكر الأطباء أن الضفدع نوعان بري وبحري، فالبري يقتل آكله والبحري يضره. ومن المستثنى أيضا التمساح لكونه يعدو بنابه. وعند أحمد فيه رواية، ومثله القرش في البحر الملح خلافا لما أفتى به المحب الطبري، والثعبان والعقرب والسرطان والسلحفاة للاستخباث والضرر اللاحق من السم، ودنيلس قيل إن أصله السرطان فإن ثبت حرم. النوع الثاني ما لم يرد فيه مانع فيحل لكن بشرط التذكية، كالبط وطير الماء والله أعلم. "تنبيه": وقع في أواخر صحيح مسلم في الحديث الطويل من طريق الوليد بن عبادة بن الصامت أنهم "دخلوا على جابر فرأوه يصلي في ثوب" الحديث وفيه قصة النخامة في المسجد، وفيه أنهم خرجوا في غزاة ببطن بواط، وفيه قصة الحوض، وفيه قيام المأمومين خلف الإمام كل ذلك مطول، وفيه قال: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا تمرة
(9/619)
كل يوم فكان يمصها وكنا نختبط بقسينا ونأكل، وسرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح" فذكر قصة الشجرتين اللتين التقتا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستر بهما عند قضاء الحاجة، وفيه قصة القبرين اللذين غرس في كل منهما غصنا، وفيه: "فأتينا العسكر فقال: يا جابر ناد الوضوء" فذكر القصة بطولها في نبع الماء من بين أصابعه، وفيه: "وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم. فأتينا سيف البحر، فزجر البحر زجرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا". وذكر أنه دخل هو وجماعة في عينها، وذكر قصة الذي دخل تحت ضلعها ما يطأطئ رأسه وهو أعظم رجل في الركب على أعظم جمل، وظاهر سياق هذه القصة يقتضي مغايرة القصة المذكورة في هذا الباب وهي من رواية جابر أيضا، حتى قال عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين" : هذه واقعة أخرى غير تلك، فإن هذه كانت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وما ذكره ليس بنص في ذلك لاحتمال أن تكون الفاء في قول جابر "فأتينا سيف البحر" هي الفصيحة وهي معقبة لمحذوف تقديره فأرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي عبيدة فأتينا سيف البحر فتتحد القصتان، وهذا هو الراجح عندي، والأصل عدم التعدد. ومما تنبه عليه هنا أيضا أن الواقدي زعم أن قصة بعث أبي عبيدة كانت في رجب سنة ثمان، وهو عندي خطأ لأن في نفس الخبر الصحيح أنهم خرجوا يترصدون عير قريش وقريش في سنة ثمان كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة، وقد نبهت على ذلك في المغازي، وجوزت أن يكون ذلك قبل الهدنة في سنة ست أو قبلها، ثم ظهر لي الآن تقوية ذلك بقول جابر في رواية مسلم هذه أنهم خرجوا في غزاة بواط وغزاة بواط كانت في السنة الثانية من الهجرة قبل وقعة بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف فبلغ بواطا، وهي بضم الموحدة جبال لجهينة مما يلي الشام، بينها وبين المدينة أربعة برد، فلم يلق أحدا فرجع، فكأنه أفرد أبا عبيدة فيمن معه يرصدون العير المذكورة. ويؤيد تقدم أمرها ما ذكر فيها من القلة والجهد، والواقع أنهم في سنة ثمان كان حالهم اتسع بفتح خيبر وغيرها، والجهد المذكور في القصة يناسب ابتداء الأمر فيرجح ما ذكرته، والله أعلم.
(9/620)
عدد المشاهدات *:
501548
501548
عدد مرات التنزيل *:
153980
153980
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 04/11/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 04/11/2013