فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الحلف بشىء من المخلوقات، لا فرق فى ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبى ونبى. وهذا كما قد سوى الله تعالى بين جميع المخلوقات فى ذم الشرك بها وإن كانت معظمة قال تعالى. {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران79، 80]، وقال تعالى. {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء.56، 57].
قالت طائفة من السلف. كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فقال تعالى. هؤلاء الذين تدعونهم عبادى يرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذابى كما تخافون عذابى، ويتقربون إلىّ كما تتقربون إلى.
وقد قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور: 52]، فبين أن الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وبين أن الخشية والتقوى لله وحده، فلم يأمر أن يخشى مخلوق ولا يتقى مخلوق.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة. 59]، وقال تعالى. {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح 7، 8].
فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه كان ينبغى لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله ويقولوا: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون، فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله؛ لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله فى تبليغ أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، ووعده ووعيده.
فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر. 7] فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله، والأموال المشتركة له، كمال الفىء والغنيمة والصدقات، عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك.
ثم قال تعالى. {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} ولم يقل. [ورسوله] فإن الحسب هو الكافى، والله وحده كاف عباده المؤمنين، كما قال تعالى. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال. 64] أى هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. هذا هو القول الصواب الذى قاله جمهور السلف والخلف، كما بين فى موضع آخر.
والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه، فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه، ثم قال تعالى: {سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فذكر الإيتاء لله ورسوله، لكن وسطه بذكر الفضل، فإن الفضل لله وحده بقوله: {سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ثم قال تعالى. {إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات.
فقـد تبين أن الله سـوى بـين المخلوقـات فـى هذه الأحـكام، لـم يجعـل لأحـد مـن /المخلوقين ـ سواء كان نبياً أو ملكاً ـ أن يقسم به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه ولا يخشى ولا يتقى. وقال تعالى. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ. 22، 23]. فقد تهدد سبحانه من دعا شيئاً من دون الله، وبين أنهم لا ملك لهم مع الله ولا شركا فى ملكه، وأنه ليس له عون ولا ظهير من المخلوقين، فقطع تعلق القلوب بالمخلوقات. رغبة ورهبة وعبادة واستعانة، ولم يبق إلا الشفاعة وهى حق، لكن قال الله تعالى. {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. وهكذا دلت الأحاديث الصحيحة فى الشفاعة يوم القيامة، إذا أتى الناس آدم، وأولى العزم نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، فيردهم كل واحد إلى الذى بعده، إلى أن يأتوا المسيح فيقول لهم. اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال صلى الله عليه وسلم. (فيأتونى فأذهب إلى ربى، فإذا رأيته خررت ساجدًا وأحمد ربى بمحامد يفتحها علىَّ لا أحسنها الآن، فيقال لى. أى محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع ـ قال ـ فيحدّ لى حدًا فأدخلهم الجنة)، وذكر تمام الخبر.
فبين المسيح أن محمدًا هو الشافع المشفع؛ لأنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبين محمد عبد الله ورسوله ـ أفضل الخلق وأوجه الشفعاء وأكرمهم على الله تعالى ـ أنه يأتى فيسجد ويحمد، لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فيقال له. ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، وذكر أن ربه يحد له حدًا فيدخلهم الجنة.
وهذا كله يبين أن الأمر كله لله، هو الذى يكرم الشفيع بالإذن له فى الشفاعة، والشفيع لا يشفع إلا فيمن يأذن الله له، ثم يحد للشفيع حدًا فيدخلهم الجنة. فالأمر بمشيئته وقدرته واختياره. وأوجه الشفعاء وأفضلهم هو عنده الذى فضله على غيره واختاره واصطفاه بكمال عبوديته وطاعته وإنابته، وموافقته لربه فيما يحبه ويرضاه.
وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هى من الأحكام التى اشتركت المخلوقات فيها، فليس لمخلوق أن يقسم به. ولا يتقى ولا يتوكل عليه وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلا عن غيرهم من المشايخ والصالحين.
فسؤال الله تعالى بالمخلوقات. إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات فيسوغ السؤال بذلك كله، وإن لم يكن سائغاً لم يجز أن يسأل بشىء من ذلك، والتفريق فى ذلك بين معظم ومعظم، كتفريق من فرق فزعم أنه يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض، وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر. ولو فرق مفرق بين ما يؤمن به، وبين ما لا يؤمن به، قيل له. فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به الرسول مثل منكر ونكير، والحور العين، والولدان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها ؟ أم يجوز السؤال بها كذلك ؟
فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سبباً لإجابة الدعاء فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز. فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من العلماء، والله أعلم.
وأما قوله تعالى. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}[البقرة.89] فكانت اليهود تقول للمشركين. سوف يبعث هذا النبى ونقاتلكم معه فنقتلكم، لم يكونوا يقسمون على الله بذاته. ولا يسألون به، أو يقولون. اللهم ابعث هذا النبى الأمى لنتبعه ونقتل هؤلاء معه. هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن، فإنه قال تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُون}. والاستفتاح: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلونهم معه، فبهذا ينصرون، ليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به؛ إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك، بل لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه.
وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به، فهو نقل شاذ مخالف للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له.
وقد ذكرنا طرفاً من ذلك فى [دلائل النبوة]، وفى كتاب [الاستغاثة الكبير]، وكتب السير، ودلائل النبوة، والتفسير مشحونة بذلك. قال أبو العالية وغيره: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركى العرب يقولون. اللهم ابعث هذا النبى الذى نجده مكتوبا عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآيات. {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة. 89].
وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصارى عن رجال من قومه قالوا. مما دعانا إلى الإسلام ـ مع رحمة الله وهداه ـ ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا. قد تقارب زمان نبى يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ـ كثيرا ما كنا نسمع ذلك منهم ـ فلما بعث الله محمداً رسولاً من عند الله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التى فى البقرة. {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة. 89]
ولم يذكر ابن أبى حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسرى السلف إلا هذا، وهذا لم يذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الإخبار به، أو سؤال الله أن يبعثه. فروى ابن أبى حاتم، عن أبى رزين، عن الضحاك، عن ابن عباس فى قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال. يستظهرون، ويقولون. نحن نعين محمداً عليهم وليسوا كذلك، يكذبون.
وروى عن معمـر عن قتـادة فـى قولـه تعالـى. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال. كانوا يقولون. إنه سيأتى نبى {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}.
وروى بإسناده عن ابن إسحاق. حدثنا محمد بن أبى محمد قال. أخبرنى عكرمة ـ أو سعيد بن جبير ـ عن ابن عباس، أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة. يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بنى النضير. ما جاءنا بشىء نعرفه، وما هو بالذى كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى فى ذلك: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وروى بإسناده عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية قال. كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركى العرب، يقولون. اللهم ابعث هذا النبى الذى نجده مكتوبا عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وأما الحديث الذى يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال. كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود فعاذت بهذا الدعاء. اللهم إنا نسألك بحق محمد النبى الأمى الذى وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان. فلما بعث النبى صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} وهـذا الحـديث رواه الحـاكم فـى مستدركـه وقـال. أدت الضـرورة إلـى إخراجه. وهذا مما أنكره عليه العلماء، فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك، بل كذاب. وقد تقدم ما ذكره يحىى بن معين وغيره من الأئمة فى حقه.
قلت. وهذا الحديث من جملتها، وكذلك الحديث الآخر يرويه عن أبى بكر، كما تقدم.
ومما يبين ذلك أن قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير فى اليهود المجاورين للمدينة أولا كبنى قينقاع وقريظة والنضير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج، وهم الذين عاهدهم النبى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم، فحارب أولاً بنى قينقاع ثم النضير ـ وفيهم نزلت سورة الحشر ـ ثم قريظة عام الخندق، فكيف يقال. نزلت فى يهود خيبر وغطفان ؟ فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب، ومما يبين ذلك أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعى الصادقين على نقله.
ومما ينبغى أن يعلم. أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضى السؤال به، والإقسام به على الله تعالى لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه فى الأحكام؛ لأنه أولا لم يثبت، وليس فى الآية ما يدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعاً لنا، فإن الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}[الكهف. 21] ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور، ولفظ الآية إنما فيه أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وهذا كقوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ}[الأنفال: 19]. والاستفتاح: طلب الفتح وهو النصر،ومنه الحديث المأثور أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أى يستنصر بهم أى بدعائهم كما قال. (وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم ؟).
وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبى المبعوث فى آخر الزمان، بأن يجعل بعث ذلك النبى إليهم لينتصروا به عليهم، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به، ولهذا قال تعالى. {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}، فلو لم ترد الآثار التى تدل على أن هذا معنى الآية لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بذلك ؟
وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بينا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة فى هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب فيحالف كل فريق فريقًا، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج.
وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}[آل عمران. 112].
فاليهود ـ من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ـ لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح ـ عليه السلام ـ فكذبوه. قال تعالى. {اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[آل عمران. 55]، وقـال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[الصف: 14]، وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}[البقرة: 61].
فإذا لم يكن الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره، فى حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته، يقسمون بذاته، بل إنما كانوا يتوسلون بطاعته أو بشفاعته، فكيف يقال فى دعاء المخلوقين الغائبين والموتى وسؤالهم من الأنبياء والملائكة وغيرهم، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء :56، 57].
قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وغيرهما، فنهى الله عن ذلك، وأخبر تعالى أن هؤلاء يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه، ويتقربون إليه، وأنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله عنهم. وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79، 80].
قالت طائفة من السلف. كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فقال تعالى. هؤلاء الذين تدعونهم عبادى يرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذابى كما تخافون عذابى، ويتقربون إلىّ كما تتقربون إلى.
وقد قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور: 52]، فبين أن الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وبين أن الخشية والتقوى لله وحده، فلم يأمر أن يخشى مخلوق ولا يتقى مخلوق.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ}[التوبة. 59]، وقال تعالى. {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح 7، 8].
فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه كان ينبغى لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله ويقولوا: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون، فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله؛ لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله فى تبليغ أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، ووعده ووعيده.
فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر. 7] فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله، والأموال المشتركة له، كمال الفىء والغنيمة والصدقات، عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك.
ثم قال تعالى. {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} ولم يقل. [ورسوله] فإن الحسب هو الكافى، والله وحده كاف عباده المؤمنين، كما قال تعالى. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال. 64] أى هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. هذا هو القول الصواب الذى قاله جمهور السلف والخلف، كما بين فى موضع آخر.
والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه، فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه، ثم قال تعالى: {سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} فذكر الإيتاء لله ورسوله، لكن وسطه بذكر الفضل، فإن الفضل لله وحده بقوله: {سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ثم قال تعالى. {إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات.
فقـد تبين أن الله سـوى بـين المخلوقـات فـى هذه الأحـكام، لـم يجعـل لأحـد مـن /المخلوقين ـ سواء كان نبياً أو ملكاً ـ أن يقسم به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه ولا يخشى ولا يتقى. وقال تعالى. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ. 22، 23]. فقد تهدد سبحانه من دعا شيئاً من دون الله، وبين أنهم لا ملك لهم مع الله ولا شركا فى ملكه، وأنه ليس له عون ولا ظهير من المخلوقين، فقطع تعلق القلوب بالمخلوقات. رغبة ورهبة وعبادة واستعانة، ولم يبق إلا الشفاعة وهى حق، لكن قال الله تعالى. {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. وهكذا دلت الأحاديث الصحيحة فى الشفاعة يوم القيامة، إذا أتى الناس آدم، وأولى العزم نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم، فيردهم كل واحد إلى الذى بعده، إلى أن يأتوا المسيح فيقول لهم. اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال صلى الله عليه وسلم. (فيأتونى فأذهب إلى ربى، فإذا رأيته خررت ساجدًا وأحمد ربى بمحامد يفتحها علىَّ لا أحسنها الآن، فيقال لى. أى محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع ـ قال ـ فيحدّ لى حدًا فأدخلهم الجنة)، وذكر تمام الخبر.
فبين المسيح أن محمدًا هو الشافع المشفع؛ لأنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبين محمد عبد الله ورسوله ـ أفضل الخلق وأوجه الشفعاء وأكرمهم على الله تعالى ـ أنه يأتى فيسجد ويحمد، لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فيقال له. ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، وذكر أن ربه يحد له حدًا فيدخلهم الجنة.
وهذا كله يبين أن الأمر كله لله، هو الذى يكرم الشفيع بالإذن له فى الشفاعة، والشفيع لا يشفع إلا فيمن يأذن الله له، ثم يحد للشفيع حدًا فيدخلهم الجنة. فالأمر بمشيئته وقدرته واختياره. وأوجه الشفعاء وأفضلهم هو عنده الذى فضله على غيره واختاره واصطفاه بكمال عبوديته وطاعته وإنابته، وموافقته لربه فيما يحبه ويرضاه.
وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هى من الأحكام التى اشتركت المخلوقات فيها، فليس لمخلوق أن يقسم به. ولا يتقى ولا يتوكل عليه وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلا عن غيرهم من المشايخ والصالحين.
فسؤال الله تعالى بالمخلوقات. إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات فيسوغ السؤال بذلك كله، وإن لم يكن سائغاً لم يجز أن يسأل بشىء من ذلك، والتفريق فى ذلك بين معظم ومعظم، كتفريق من فرق فزعم أنه يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض، وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر. ولو فرق مفرق بين ما يؤمن به، وبين ما لا يؤمن به، قيل له. فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به الرسول مثل منكر ونكير، والحور العين، والولدان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها ؟ أم يجوز السؤال بها كذلك ؟
فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سبباً لإجابة الدعاء فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز. فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من العلماء، والله أعلم.
وأما قوله تعالى. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}[البقرة.89] فكانت اليهود تقول للمشركين. سوف يبعث هذا النبى ونقاتلكم معه فنقتلكم، لم يكونوا يقسمون على الله بذاته. ولا يسألون به، أو يقولون. اللهم ابعث هذا النبى الأمى لنتبعه ونقتل هؤلاء معه. هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن، فإنه قال تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُون}. والاستفتاح: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلونهم معه، فبهذا ينصرون، ليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به؛ إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك، بل لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه.
وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به، فهو نقل شاذ مخالف للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له.
وقد ذكرنا طرفاً من ذلك فى [دلائل النبوة]، وفى كتاب [الاستغاثة الكبير]، وكتب السير، ودلائل النبوة، والتفسير مشحونة بذلك. قال أبو العالية وغيره: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركى العرب يقولون. اللهم ابعث هذا النبى الذى نجده مكتوبا عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآيات. {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة. 89].
وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصارى عن رجال من قومه قالوا. مما دعانا إلى الإسلام ـ مع رحمة الله وهداه ـ ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا. قد تقارب زمان نبى يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ـ كثيرا ما كنا نسمع ذلك منهم ـ فلما بعث الله محمداً رسولاً من عند الله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التى فى البقرة. {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة. 89]
ولم يذكر ابن أبى حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسرى السلف إلا هذا، وهذا لم يذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الإخبار به، أو سؤال الله أن يبعثه. فروى ابن أبى حاتم، عن أبى رزين، عن الضحاك، عن ابن عباس فى قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال. يستظهرون، ويقولون. نحن نعين محمداً عليهم وليسوا كذلك، يكذبون.
وروى عن معمـر عن قتـادة فـى قولـه تعالـى. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال. كانوا يقولون. إنه سيأتى نبى {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}.
وروى بإسناده عن ابن إسحاق. حدثنا محمد بن أبى محمد قال. أخبرنى عكرمة ـ أو سعيد بن جبير ـ عن ابن عباس، أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة. يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بنى النضير. ما جاءنا بشىء نعرفه، وما هو بالذى كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى فى ذلك: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وروى بإسناده عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية قال. كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركى العرب، يقولون. اللهم ابعث هذا النبى الذى نجده مكتوبا عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}.
وأما الحديث الذى يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال. كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود فعاذت بهذا الدعاء. اللهم إنا نسألك بحق محمد النبى الأمى الذى وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان. فلما بعث النبى صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى. {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} وهـذا الحـديث رواه الحـاكم فـى مستدركـه وقـال. أدت الضـرورة إلـى إخراجه. وهذا مما أنكره عليه العلماء، فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك، بل كذاب. وقد تقدم ما ذكره يحىى بن معين وغيره من الأئمة فى حقه.
قلت. وهذا الحديث من جملتها، وكذلك الحديث الآخر يرويه عن أبى بكر، كما تقدم.
ومما يبين ذلك أن قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير فى اليهود المجاورين للمدينة أولا كبنى قينقاع وقريظة والنضير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج، وهم الذين عاهدهم النبى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم، فحارب أولاً بنى قينقاع ثم النضير ـ وفيهم نزلت سورة الحشر ـ ثم قريظة عام الخندق، فكيف يقال. نزلت فى يهود خيبر وغطفان ؟ فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب، ومما يبين ذلك أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعى الصادقين على نقله.
ومما ينبغى أن يعلم. أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضى السؤال به، والإقسام به على الله تعالى لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه فى الأحكام؛ لأنه أولا لم يثبت، وليس فى الآية ما يدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعاً لنا، فإن الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}[الكهف. 21] ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور، ولفظ الآية إنما فيه أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وهذا كقوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ}[الأنفال: 19]. والاستفتاح: طلب الفتح وهو النصر،ومنه الحديث المأثور أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أى يستنصر بهم أى بدعائهم كما قال. (وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم ؟).
وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبى المبعوث فى آخر الزمان، بأن يجعل بعث ذلك النبى إليهم لينتصروا به عليهم، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به، ولهذا قال تعالى. {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}، فلو لم ترد الآثار التى تدل على أن هذا معنى الآية لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بذلك ؟
وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بينا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة فى هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب فيحالف كل فريق فريقًا، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج.
وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}[آل عمران. 112].
فاليهود ـ من حين ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ـ لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح ـ عليه السلام ـ فكذبوه. قال تعالى. {اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[آل عمران. 55]، وقـال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[الصف: 14]، وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}[البقرة: 61].
فإذا لم يكن الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره، فى حياته صلى الله عليه وسلم وبعد موته، يقسمون بذاته، بل إنما كانوا يتوسلون بطاعته أو بشفاعته، فكيف يقال فى دعاء المخلوقين الغائبين والموتى وسؤالهم من الأنبياء والملائكة وغيرهم، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء :56، 57].
قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وغيرهما، فنهى الله عن ذلك، وأخبر تعالى أن هؤلاء يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه، ويتقربون إليه، وأنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله عنهم. وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79، 80].
عدد المشاهدات *:
462961
462961
عدد مرات التنزيل *:
263250
263250
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013