بسم الله الرحمن الرحيم
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ عَنْ سُؤَالٍ فَشُرُوطُهُ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي السَّائِلِ، وَالثَّانِي فِي الْمَسْئُولِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي السَّائِلِ فَثَلاَثَةُ شُرُوطٍ: فَالشَّرْطُ الاوَّلُ: أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ لِسَبَبٍ، وَالطَّلَبُ لِمُوجِبٍ. فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْحَرَجُ وَسَقَطَ عَنْهُ اللَّوْمُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الضَّرُورَةُ تُوَقِّحُ الصُّورَةَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: الا قَبَّحَ اللَّهُ الضَّرُورَةَ إنَّهَا تُكَلِّفُ أَعْلَى الْخَلْقِ أَدْنَى الْخَلاَئِقِ وَلِلَّهِ دَرُّ الاتِّسَاعِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ فَضْلَ السَّبْقِ مِنْ غَيْرِ سَابِقِ وَقَالَ الْكُمَيْتُ: إذَا لَمْ تَكُنْ الا الاسِنَّةُ مَرْكَبًا فَلاَ رَأْيَ لِلْمُضْطَرِّ الا رُكُوبُهَا فَإِنْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ وَدَعَتْ الْحَاجَةُ فِيمَا هُوَ أَوْلَى الامْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ وَإِنْ جَازَ أَنْ لاَ يَكُونَ فَالنَّفْسُ الْمُسَامِحَةُ تَغْلِبُ الْحَاجَةَ، وَتَسْمَحُ فِي الطَّلَبِ، وَتُرَاعِي مَا اسْتَقَامَ بِهِ الامْرُ، وَإِنْ نَالَهُ ذُلٌّ وَلَحِقَهُ وَهْنٌ فَيَتَأَوَّلُ صَاحِبُهَا قَوْلَ الْبُحْتُرِيِّ: وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ الامُورِ إلَى مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ وَالنَّفْسُ الشَّرِيفَةُ تَطْلُبُ الصِّيَانَةَ، وَتُرَاعِي النَّزَاهَةَ، وَتَحْتَمِلُ مِنْ الضُّرِّ مَا احْتَمَلَتْ، وَمِنْ الشِّدَّةِ مَا طَاقَتْ، فَيَبْقَى تَحَمُّلُهَا وَيَدُومُ تَصَوُّنُهَا، فَتَكُونُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَقَدْ يَكْتَسِي الْمَرْءُ خَزَّ الثِّيَابِ وَمِنْ دُونِهَا حَالُهُ مُضْنِيَهْ كَمَا يَكْتَسِي خَدُّهُ حُمْرَةً وَعِلَّتُهُ وَرَمٌ فِي الرِّيَهْ فَلاَ يَرَى أَنْ يَتَدَنَّسَ بِمَطَالِبِ الشُّؤْمِ، وَمَطَامِعِ اللُّؤْمِ، فَإِنَّ الْبَهَائِمَ الْوَحْشِيَّةَ تَأْبَى ذَلِكَ وَتَأْنَفُ مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِر: وَلَيْسَ اللَّيْثُ مِنْ جُوعٍ بِغَادٍ عَلَى جِيَفٍ تُطِيفُ بِهَا الْكِلاَبُ فَكَيْفَ بِالانْسَانِ الْفَاضِلِ الَّذِي هُوَ أَكْرَمُ الْحَيَوَانِ جِنْسًا، وَأَشْرَفُهُ نَفْسًا، هَلْ يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَرَى لِوَحْشِ الْبَهَائِمِ عَلَيْهِ فَضْلًا، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: عَلَى كُلِّ حَالٍ يَأْكُلُ الْمَرْءُ زَادَهُ عَلَى الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ وَالْحَدَثَانِ وَالْفَضْلُ فِي مِثْلِ مَا قِيلَ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ: لَوْ سَأَلْتَ جَارَك أَعْطَاك ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَسْأَلُ الدُّنْيَا مِمَّنْ يَمْلِكُهَا فَكَيْفَ مِمَّنْ لاَ يَمْلِكُهَا.
وَوَصَفَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ قَوْمًا فَقَالَ: إذَا افْتَرَقُوا أَغَضُّوا عَلَى الضُّرِّ خَشْيَةً وَإِنْ أَيْسَرُوا عَادُوا سِرَاعًا إلَى الْفَقْرِ فَأَمَّا مَنْ يَسْأَلُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَسَّتْ، وَلاَ حَاجَةٍ دَعَتْ، فَذَلِكَ صَرِيحُ اللُّؤْمِ وَمَحْضُ الدَّنَاءَةِ. وَقَلَّمَا تَجِدُ مِثْلَهُ مَلْحُوظًا أَوْ مُمَوَّلًا مَحْظُوظًا؛ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ قَادَهُ إلَى أَضْيَقِ الارْزَاقِ، وَاللُّؤْمَ سَاقَهُ إلَى أَخْبَثِ الْمَطَاعِمِ، فَلَمْ يَبْقَ لِوَجْهِهِ مَاءٌ الا أَرَاقَهُ، وَلاَ ذُلٌّ الا ذَاقَهُ، كَمَا قَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمُعَدَّلِ لِأَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ: أَنْتَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ تَبْرُزُ لِلنَّاسِ وَكِلْتَاهُمَا بِوَجْهٍ مُذَالِ لَسْت تَنْفَكُّ طَالِبًا لِوِصَالٍ مِنْ حَبِيبٍ أَوْ طَالِبًا لِنَوَالِ أَيُّ مَاءٍ لِحُرِّ وَجْهِك يَبْقَى بَيْنَ ذُلِّ الْهَوَى وَذُلِّ السُّؤَالِ وَلَوْ اسْتَقْبَحَ الْعَارَ وَأَنِفَ مِنْ الذُّلِّ لَوَجَدَ غَيْرَ السُّؤَالِ مُكْتَسِبًا يُمَوِّنُهُ، وَلَقَدِرَ عَلَى مَا يَصُونَهُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: لاَ تَطْلُبَنَّ مَعِيشَةً بِتَذَلُّلٍ فَلَيَأْتِيَنَّكَ رِزْقُك الْمَقْدُورُ وَاعْلَمْ بِأَنَّك آخِذٌ كُلَّ الَّذِي لَك فِي الْكِتَابِ مُقَدَّرٌ مَسْطُورُ وَالشَّرْطُ الثَّانِي: مِنْ شُرُوطِ السُّؤَالِ أَنْ يَضِيقُ الزَّمَانُ عَنْ إرْجَائِهِ، وَيَقْصُرَ الْوَقْتُ عَنْ إبْطَائِهِ، فَلاَ يَجِدُ لِنَفْسِهِ فِي التَّأْخِيرِ فُسْحَةً، وَلاَ فِي التَّمَادِي مُهْلَةً، فَيَصِيرُ مِنْ الْمَعْذُورِينَ وَدَاخِلًا فِي عِدَادِ الْمُضْطَرِّينَ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسَعًا وَالزَّمَانُ مُمْتَدًّا فَتَعْجِيلُ السُّؤَالِ لُؤْمٌ وَقُنُوطٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَبَى لِي إغْضَاءُ الْجُفُونِ عَلَى الْقَذَى يَقِينِي أَنْ لاَ عُسْرَ الا مُفَرَّجُ الا رُبَّمَا ضَاقَ الْفَضَاءُ بِأَهْلِهِ وَأَمْكَنَ مِنْ بَيْنَ الاسِنَّةِ مَخْرَجُ وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: اخْتِيَارُ الْمَسْئُولِ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوَّ الاجَابَةِ مَأْمُولَ النُّجْحِ إمَّا لِحُرْمَةِ السَّائِلِ أَوْ كَرَمِ الْمَسْئُولِ فَإِنْ سَأَلَ لَئِيمًا لاَ يَرْعَى حُرْمَةً، وَلاَ يُوَلِّي مَكْرُمَةً، فَهُوَ فِي اخْتِيَارِهِ مَلُومٌ، وَفِي سُؤَالِهِ مَحْرُومٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْمَخْذُولُ مَنْ كَانَتْ لَهُ إلَى اللِّئَامِ حَاجَةٌ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَذَلُّ مِنْ اللَّئِيمِ سَائِلُهُ، وَأَقَلُّ مِنْ الْبَخِيلِ نَائِلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: مَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ أَنْ يَرَى مِنْ سَاقِطٍ نَيْلًا سَنِيَّا فَلَقَدْ رَجَا أَنْ يَجْتَنِي مِنْ عَوْسَجٍ رُطَبًا جَنِيَّا وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَسْئُولِ فَثَلاَثَةٌ. الشَّرْطُ الاوَّلُ: أَنْ يَكْتَفِيَ بِالتَّعْرِيضِ وَلاَ يَلْجَأُ إلَى السُّؤَالِ الصَّرِيحِ؛ لَيَصُونَ السَّائِلَ عَنْ ذُلِّ الطَّلَبِ فَإِنَّ الْحَالَ نَاطِقَةٌ وَالتَّعْرِيضَ كَافٍ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: أَقُولُ وَسِتْرُ الدُّجَى مُسْبِلٌ كَمَا قَالَ حِينَ شَكَا الضِّفْدَعُ كَلاَمِي إنْ قُلْته ضَائِعٌ وَفِي الصَّمْتِ حَتْفِي فَمَا أَصْنَعُ وَرُبَّمَا فَهِمَ الْمَسْئُولُ الاشَارَةَ فَأَلْجَأَ إلَى التَّصْرِيحِ بِالْعِبَارَةِ تَهْجِينًا لِلسَّائِلِ فَيَخْجَلُ وَيَسْتَحِي فَيَكُفُّ كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ: مَنْ كَانَ مَفْقُودَ الْحَيَاءِ فَوَجْهُهُ مِنْ غَيْرِ بَوَّابٍ لَهُ بَوَّابُ وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَلْقَى بِالْبِشْرِ وَالتَّرْحِيبِ، وَيُقَابِلَ بِالطَّلاَقَةِ وَالتَّقْرِيبِ، لِيَكُونَ مَشْكُورًا إنْ أَعْطَى وَمَعْذُورًا إنْ مَنَعَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إلْقِ صَاحِبَ الْحَاجَةِ بِالْبِشْرِ فَإِنْ عَدَمْتَ شُكْرَهُ لَمْ تَعْدَمْ عُذْرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ لَنْكَكَ: إنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ دُرَيْدٍ قَصَدَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ فِي حَاجَةٍ فَلَمْ يَقْضِهَا لَهُ وَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ ضَجَرٌ، فَقَالَ: لاَ تَدْخُلَنَّك ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ فَلِخَيْرِ دَهْرِك أَنْ تُرَى مَسْئُولاَ لاَ تَجْبَهَنَّ بِالرَّدِّ وَجْهَ مُؤَمِّلٍ فَبَقَاءُ عِزِّك أَنْ تُرَى مَأْمُولاَ تَلْقَى الْكَرِيمَ فَتَسْتَدِلُّ بِبِشْرِهِ وَتَرَى الْعُبُوسَ عَلَى اللَّئِيمِ دَلِيلاَ وَاعْلَمْ بِأَنَّك عَنْ قَلِيلٍ صَائِرٌ خَبَرًا فَكُنْ خَبَرًا يَرُوقُ جَمِيلاَ وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: تَصْدِيقُ الامَلِ وَتَحْقِيقُ الظَّنِّ بِهِ ثُمَّ اعْتِبَارُ حَالِهِ وَحَالِ سَائِلِهِ فَإِنَّهَا لاَ تَخْلُو مِنْ أَرْبَعِ أَحْوَالٍ: فَالْحَالُ الاولَى: أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُسْتَوْجِبًا وَالْمَسْئُولُ مُتَمَكِّنًا. فَالاجَابَةُ هَهُنَا تَسْتَحِقُّ كَرْمًا وَتَسْتَلْزِمُ مُرُوءَةً وَلَيْسَ لِلرَّدِّ سَبِيلٌ الا لِمَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْبُخْلُ، وَهَانَ عَلَيْهِ الذَّمُّ، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ: إنِّي رَأَيْت مِنْ الْمَكَارِمِ حَسْبُكُمْ أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا فَإِذَا تَذَكَّرْتُ الْمَكَارِمَ مَرَّةً فِي مَجْلِسٍ أَنْتُمْ بِهِ فَتَقَنَّعُوا فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِمَّنْ حَرَّمَ ثَرْوَةَ مَالِهِ، وَمَنَعَ حُسْنَ حَالِهِ، أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْدَعًا فِي صَنِيعٍ مَشْكُورٍ، وَبِرٍّ مَذْخُورٍ.
وَقَدْ قِيلَ لِبَخِيلٍ: لِمَ حَبَسْتَ مَالَك ؟ قَالَ: لِلنَّوَائِبِ. فَقِيلَ لَهُ: قَدْ نَزَلَتْ بِك. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: مَا لَك مِنْ مَالِكِ الا الَّذِي قَدَّمْت فَابْذُلْ طَائِعًا مَالِكَا تَقُولُ أَعْمَالِي وَلَوْ فَتَّشُوا رَأَيْت أَعْمَالَك أَعْمَى لَكَا وَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، وَرَفَعَ أَسْبَابَ شُكْرِهِ، فَصَارَ بِأَنْ لاَ حَقَّ لَهُ، مَذْمُومًا كَمَشْكُورٍ، وَمَأْثُومًا كَمَأْجُورٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: خَزَنَ الْبَخِيلُ عَلَيَّ صَالِحَهُ إذْ لَمْ يُثْقِلْ بِرُّهُ ظَهْرِي مَا فَاتَنِي خَيْرُ امْرِئٍ وَضَعَتْ عَنِّي يَدَاهُ مُؤْنَةَ الشُّكْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلرَّدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ سَبِيلٌ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ مُضِرًّا عَجَّلَ بَذْلَهُ، وَقَطَعَ مَطْلَهُ. وَكَانَتْ إجَابَتُهُ فِعْلًا، وَقَوْلُهُ عَمَلًا. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مِنْ مُرُوءَةِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ لاَ يَلْجَأَ إلَى إلْحَاحٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ: وَمُنْتَظِرٌ سُؤَالَك بِالْعَطَايَا وَأَشْرَفُ مِنْ عَطَايَاهُ السُّؤَالْ إذَا لَمْ يَأْتِك الْمَعْرُوفُ طَوْعًا فَدَعْهُ فَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ مَالْ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ مُهْلَةٌ، وَفِي التَّأْخِيرِ فُسْحَةٌ، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْفُضَلاَءِ فِيهِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الاوْلَى تَعْجِيلُ الْوَعْدِ قَوْلًا، ثُمَّ يَعْقُبُهُ الانْجَازُ فِعْلًا، لِيَكُونَ السَّائِلُ مَسْرُورًا بِتَعْجِيلِ الْوَعْدِ ثُمَّ بِآجِلِ الانْجَازِ، وَيَكُونُ الْمَسْئُولُ مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ مَلْحُوظًا بِالْوَفَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ}. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ حَاجَةً: أَعِدُك الْيَوْمَ وَأَحْبُوك غَدًا بِالانْجَازِ لِتَذُوقَ حَلاَوَةَ الامَلِ وَأَتَزَيَّنُ بِثُبُوتِ الْوَفَاءِ. وَوَعَدَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ رَجُلًا بِحَاجَةٍ سَأَلَهُ إيَّاهَا فَقِيلَ لَهُ: تَعِدُ وَأَنْتَ قَادِرٌ ؟ فَقَالَ: إنَّ الْحَاجَةَ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهَا وَعْدٌ يَنْتَظِرُ صَاحِبُهُ نُجْحَهُ لَمْ يَجِدْ سُرُورَهَا؛ لِأَنَّ الْوَعْدَ طُعْمٌ وَالانْجَازَ طَعَامٌ، وَلَيْسَ مَنْ فَاجَأَهُ الطَّعَامُ كَمَنْ يَجِدُ رِيحَهُ وَيَطْعَمُهُ فَدَعْ الْحَاجَةَ تَخْتَمِرُ بِالْوَعْدِ؛ لِيَكُونَ لَهَا طَعْمٌ عِنْدَ الْمُصْطَنَعِ إلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إذَا أَحْسَنْت الْقَوْلَ فَأَحْسِنْ الْفِعْلَ؛ لِيَجْتَمِعَ لَك ثَمَرَةُ اللِّسَانِ وَثَمَرَةُ الاحْسَانِ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَفْعَلُ فَإِنَّك لاَ تَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ تَكْسِبُهُ، أَوْ عَجْزٍ تَلْتَزِمُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْبَذْلِ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ وَعْدٍ أَوْلَى، وَتَقْدِيمَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَلاَ انْتِظَارٍ أَحْرَى، وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ الْوَعْدَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا مَعُوزٌ يَنْتَظِرُ وَجْدَهُ، وَإِمَّا شَحِيحٌ يُرَوِّضُ نَفْسَهُ تَوْطِئَةً. وَلَيْسَ لِلْوَعْدِ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَجْهٌ يَصِحُّ وَلاَ رَأْيٌ يَتَّضِحُ، مَعَ مَا يُغَيِّرُهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَتَتَقَلَّبُ بِهِ الْحَالُ مِنْ يَسَارٍ وَإِعْسَارٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُقَدَّمُ أَمْرُهُ شَرْقًا وَغَرْبَا اُمْنُنْ بِخَتْمِ صَحِيفَتِي مَا دَامَ هَذَا الطِّينُ رَطْبَا وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَفَافَهُ مِمَّا يُعِيدُ السَّهْلَ صَعْبَا قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ عَنْهُ مِنْ الانْكِسَارِ، وَفِي تَوَقُّعِ الْوَعْدِ مِنْ مَرَارَةِ الانْتِظَارِ، وَفِي الْعَوْدِ إلَيْهِ مِنْ ذِلَّةِ الاقْتِضَاءِ، وَذِلَّةِ الاجْتِدَاءِ، مَا يُكَدِّرُ بِرَّهُ، وَيُوهِنُ شُكْرَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الْحَوَائِجَ رُبَّمَا أَزْرَى بِهَا عِنْدَ الَّذِي تَقْضِي لَهُ تَطْوِيلُهَا فَإِذَا ضَمِنْتَ لِصَاحِبٍ لَك حَاجَةً فَاعْلَمْ بِأَنَّ تَمَامَهَا تَعْجِيلُهَا وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ غَيْرَ مُسْتَوْجِبٍ وَالْمَسْئُولُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ. فَفِي الرَّدِّ فُسْحَةٌ وَفِي الْمَنْعِ عُذْرٌ. غَيْرَ أَنَّهُ يَلِينُ عِنْدَ الرَّدِّ لِينًا يَقِيهِ الذَّمَّ، وَيُظْهِرُ عُذْرًا يَدْفَعُ عَنْهُ اللَّوْمَ. فَلَيْسَ كُلُّ مُقِلٍّ يَعْرِفُ وَلاَ مَعْذُورٍ يُنْصِفُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يَصِفُ النَّاسَ: يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ لاَ يُنْصِفُونَنِي فَكَيْفَ وَإِنْ أَنْصَفْتُهُمْ ظَلَمُونِي فَإِنْ كَانَ لِي شَيْءٌ تَصَدَّوْا لِأَخْذِهِ وَإِنْ جِئْتُ أَبْغِي شَيْئَهُمْ مَنَعُونِي وَإِنْ نَالَهُمْ بَذْلِي فَلاَ شُكْرَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْذُلْ لَهُمْ شَتَمُونِي وَإِنْ طَرَقَتْنِي نَكْبَةٌ فَكِهُوا بِهَا وَإِنْ صَحِبَتْنِي نِعْمَةٌ حَسَدُونِي سَأَمْنَعُ قَلْبِي أَنْ يَحِنَّ إلَيْهِمْ وَأُغْمِضُ عَنْهُمْ نَاظِرِي وَجُفُونِي وَأَقْطَعُ أَيَّامِي بِيَوْمِ سُهُولَةٍ أَقْضِي بِهَا عُمْرِي وَيَوْمِ حُزُونِ الا إنَّ أَصْفَى الْعَيْشِ مَا طَابَ غِبُّهُ وَمَا نِلْتَهُ فِي لَذَّةٍ وَسُكُونِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مُسْتَوْجِبًا، وَالْمَسْئُولُ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، فَيَأْتِي بِالْحِمْلِ عَلَى النَّفْسِ مَا أَمْكَنَ مِنْ يَسِيرٍ يَسُدُّ بِهِ خَلَّةً، أَوْ يَدْفَعُ بِهِ مَذَمَّةً أَوْ يُوَضِّحُ مِنْ أَعْذَارِ الْمُعْوِزِينَ وَتَوَجُّعِ الْمُتَأَلِّمِينَ مَا يَجْعَلُهُ فِي الْمَنْعِ مَعْذُورًا وَبِالتَّوَجُّعِ مَشْكُورًا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو النَّصْرِ الْعُتْبِيِّ رحمه الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْت ذَا بُخْلٍ وَلَسْتُ مُلْتَمِسًا فِي الْبُخْلِ لِي عِلَلاَ لَكِنَّ طَاقَةَ مِثْلِي غَيْرُ خَافِيَةٍ وَالنَّمْلُ يُعْذَرُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي حَمَلاَ وَرُبَّمَا تَحَسَّرَ بِحُدُوثِ الْعَجْزِ بَعْدَ تَقْدُمْ الْقُدْرَةِ عَلَى فَوْتِ الصَّنِيعَةِ وَزَوَالِ الْعَادَةِ حَتَّى صَارَ أَضْنَى جَسَدًا وَأَزِيدَ كَمَدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَكُنْتُ كَبَازِ السُّوءِ قُصَّ جَنَاحُهُ يَرَى حَسَرَاتٍ كُلَّمَا طَارَ طَائِرُ يَرَى طَائِرَاتِ الْجَوِّ تَخْفِقُ حَوْلَهُ فَيَذْكُرُ إذْ رِيشُ الْجَنَاحَيْنِ وَافِرُ وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ غَيْرَ مُسْتَوْجِبٍ وَالْمَسْئُولُ مُتَمَكِّنًا، وَعَلَى الْبَذْلِ قَادِرًا، فَيَنْظُرُ فَإِنْ خَافَ بِالرَّدِّ قَدْحَ عِرْضٍ، أَوْ قُبْحَ هِجَاءٍ مُمْضٍ، كَانَ الْبَذْلُ مَنْدُوبًا صِيَانَةً لاَ جُودًا.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ}. وَإِنْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ وَسَلِمَ مِنْهُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَلَّبَ الْمَسْأَلَةَ وَأَمَرَ بِالْبَذْلِ لِئَلاَ يُقَابِلَ الرَّجَاءَ بِالْخَيْبَةِ وَالامَلَ بِالايَاسِ. ثُمَّ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِيَادِ الرَّدِّ وَاسْتِسْهَالِ الْمَنْعِ الْمُفْضِي إلَى الشُّحِّ. وَأَنْشَدَ الاصْمَعِيُّ، عَنْ الْكِسَائِيّ: كَأَنَّك فِي الْكِتَابِ وَجَدْتَ لاَءً مُحَرَّمَةً عَلَيْك فَلاَ تَحِلُّ فَمَا تَدْرِي إذَا أَعْطَيْت مَالا أَيُكْثِرُ مِنْ سَمَاحِك أَمْ يُقِلُّ إذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ فَأَنْتَ شَمْسٌ وَإِنْ حَضَرَ الْمَصِيفُ فَأَنْتَ ظِلُّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اعْتَبَرَ الاسْبَابِ وَغَلَّبَ حَالَ السَّائِلِ وَنَدَبَ إلَى الْمَنْعِ إذَا كَانَ الْعَطَاءُ فِي غَيْرِ حَقٍّ لِيَقْوَى عَلَى الْحُقُوقِ إذَا عُرِضَتْ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْهَا إذَا لَزِمَتْ وَتَعَيَّنَتْ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: لاَ تَجُدْ بِالْعَطَاءِ فِي غَيْرِ حَقٍّ لَيْسَ فِي مَنْعِ غَيْرِ ذِي الْحَقِّ بُخْلُ إنَّمَا الْجُودُ أَنْ تَجُودَ عَلَى مَنْ هُوَ لِلْجُودِ وَالنَّدَى مِنْك أَهْلُ فَأَمَّا مَنْ أَجَابَ السُّؤَالَ، وَوَعَدَ بِالْبَذْلِ وَالنَّوَالِ، فَقَدْ صَارَ بِوَعْدِهِ مَرْهُونًا وَصَارَ وَفَاؤُهُ بِالْوَعْدِ مَقْرُونًا.
فَالاعْتِبَارُ بِحَقِّ السَّائِلِ بَعْدَ الْوَعْدِ وَلاَ سَبِيلَ إلَى مُرَاجَعَةِ نَفْسِهِ فِي الرَّدِّ، فَيَسْتَوْجِبُ مَعَ ذَمِّ الْمَنْعِ لُؤْمَ الْبُخْلِ وَمَقْتَ الْقَادِرِ وَهُجْنَةَ الْكَذُوبِ. ثُمَّ لاَ سَبِيلَ لِمَطْلِهِ بَعْدَ الْوَعْدِ؛ لِمَا فِي الْمَطْلِ مِنْ تَكْدِيرِ الصَّنِيعِ وَتَمْحِيقِ الشُّكْرِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا: الْمَطْلُ أَحَدُ الْمَنْعَيْنِ، وَالْيَأْسُ أَحَدُ النَّجَحَيْنِ. وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ: أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْك يَوْمًا غَمَامَةٌ أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا رَشَاشُهَا فَلاَ غَيْمُهَا يَجْلِي فَيَيْأَسُ طَامِعٌ وَلاَ غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشُهَا ثُمَّ إذَا أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَأَوْفَى عَهْدَهُ، لَمْ يَتْبَعْ نَفْسَهُ مَا أَعْطَى وَيَسَّرَ إنْ كَانَتْ يَدُهُ الْعُلْيَا. فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى}. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنَّك لاَ تَدْرِي إذَا جَاءَ سَائِلٌ أَأَنْتَ بِمَا تُعْطِيهِ أَمْ هُوَ أَسْعَدُ عَسَى سَائِلٌ ذُو حَاجَةٍ إنْ مَنَعْتَهُ مِنْ الْيَوْمِ سُؤْلًا أَنْ يَكُونَ لَهُ غَدٌ وَلْيَكُنْ مِنْ سُرُورِهِ إذْ كَانَتْ الارْزَاقُ مُقَدَّرَةً أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِهِ جَارِيَةٌ، وَمِنْ جِهَتِهِ وَاصِلَةٌ، لاَ تَنْتَقِلُ عَنْهُ بِمَنْعٍ وَلاَ تَتَحَوَّلُ عَنْهُ بِإِيَاسٍ. وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا كَثْرَةَ عِيَالِهِ إلَى بَعْضِ الزُّهَّادِ فَقَالَ: اُنْظُرْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَيْسَ رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَحَوِّلْهُ إلَى مَنْزِلِي.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لِرَجُلٍ كَانَ يَأْتِيهِ عَلَى دَابَّةٍ فَفَقَدَ الدَّابَّةَ: مَا فَعَلَ بِرْذَوْنُك ؟ قَالَ: اشْتَدَّتْ عَلَيَّ مُؤْنَتُهُ فَبِعْتُهُ. قَالَ: أَفَتَرَاهُ خَلَّفَ رِزْقَهُ عِنْدَك ؟ وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ رحمه الله: إنَّ لِلَّهِ غَيْرَ مَرْعَاك مَرْعًى يَرْتَعِيهِ وَغَيْرُ مَائِك مَاءْ إنَّ لِلَّهِ بِالْبَرِيَّةِ لُطْفًا سَبَقَ الامَّهَاتِ وَالابَاءْ.
ثُمَّ لِيَكُنْ غَالِبُ عَطَائِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَكْثَرُ قَصْدِهِ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَاَلَّذِي حَكَاهُ أَبُو بَكْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَاهُ فَقَالَ: يَا عُمَرُ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّهْ اُكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ وَكُنْ لَنَا مِنْ الزَّمَانِ جُنَّهْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ: إذًا أَبَا حَفْصٍ لاَذْهَبَنَّهْ فَقَالَ: فَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا ؟ فَقَالَ: يَكُونُ عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ يَوْمَ تَكُونُ الاعْطَيَاتُ هَنَّهْ وَمَوْقِفُ الْمَسْئُولِ بَيْنَهُنَّهْ إمَّا إلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا غُلاَمُ أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْمِ لاَ لِشِعْرِهِ أَمَا وَاَللَّهِ لاَ أَمْلِكُ غَيْرَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ خَلاَ مِنْ طَلَبِ جَزَاءٍ وَشُكْرٍ، وَعَرَى عَنْ امْتِنَانٍ وَنَشْرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشْرَفَ لِلْبَاذِلِ، وَأَهْنَأَ لِلْقَابِلِ. وَأَمَّا الْمُعْطِي إذَا الْتَمَسَ بِعَطَائِهِ الْجَزَاءَ، وَطَلَبَ بِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ فَهُوَ خَارِجٌ بِعَطَائِهِ عَنْ حُكْمِ السَّخَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنْ طَلَبَ بِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ، كَانَ صَاحِبَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَفِي هَذَيْنِ مِنْ الذَّمِّ مَا يُنَافِي السَّخَاءَ. وَإِنْ طَلَبَ بِهِ الْجَزَاءَ كَانَ تَاجِرًا مُتَرَبِّحًا لاَ يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَلاَ مَدْحًا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي تَأْوِيلِ قوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ} إنَّهُ لاَ يُعْطِي عَطِيَّةً يَلْتَمِسُ بِهَا أَفْضَلَ مِنْهَا. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رضي الله عنه يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: لاَ تَمْنُنْ بِعَمَلِك تَسْتَكْثِرْ عَلَى رَبِّك.
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: وَلَيْسَتْ يَدٌ أَوْلَيْتَهَا بِغَنِيمَةٍ إذَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُعِدَّ لَهَا شُكْرَا غِنَى الْمَرْءِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَرِيمَ يُجْتَدَى بِالْكَرَامَةِ وَاللُّطْفِ، وَاللَّئِيمُ يَجْتَدِي بِالْمَهَانَةِ وَالْعُنْفِ، فَلاَ يَجُودُ الا خَوْفًا، وَلاَ يُجِيبُ الا عُنْفًا، كَمَا قَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: رَأَيْتُك مِثْلَ الْجَوْزِ يَمْنَعُ لُبَّهُ صَحِيحًا وَيُعْطِي خَيْرَهُ حِينَ يُكْسَرُ فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ الْمَهَانَةُ طَرِيقًا إلَى اجْتِدَائِك، وَالْخَوْفُ سَبِيلًا إلَى إعْطَائِك، فَيَجْرِي عَلَيْك سَفَهُ الطَّعَامِ، وَامْتِهَانُ اللِّئَامِ، وَلْيَكُنْ جُودُك كَرْمًا وَرَغْبَةً، لاَ لُؤْمًا وَرَهْبَةً، كَيْ لاَ يَكُونَ مَعَ الْوَصْمَةِ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الاحْنَفِ: صِرْتُ كَأَنِّي ذُبَالَةٌ نُصِبَتْ تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَهِيَ تَحْتَرِقُ.
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا : عَدْلٌ شَامِلٌ يَدْعُو إلَى الالْفَةِ
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :أَمْنٌ عَامٌّ و خِصْبُ دَار و أَمَلٌ فَسِيحٌ
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :مَا يَصْلُحُ بِهِ حَالُ الانْسَانِ
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا النَّسَبُ
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا الْمُصَاهَرَةُ مِنْهَا
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا الْمُؤَاخَاةُ بِالْمَوَدَّةِ
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا الْمُؤَاخَاةُ بِالْمَوَدَّة ـ تتمة ـ ة
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :وَأَمَّا الْبِرُّ وَعَلَيْك
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :الْبَذْلُ وَالْعَطَاءُ
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا : الْمَعْرُوفُ وَعَلَيْك
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :الْمَادَّةُ الْكَافِيَةُ
الْبَابُ الرَّابِعُ أَدَبُ الدُّنْيَا :أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ
589081
106902
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 12/05/2007 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 12/05/2007