اختر السورة


برنامج تلاوة القرآن الكريم
برنامج مراجعة القرآن الكريم
برنامج استظهار القرآن الكريم
يوم الخميس 18 رمضان 1445 هجرية
???? ?????? ????? ?????? ???? ?????? . ????? ?????? ????? ??????? ???? ?????? . ????? ?????? ????? ?????? ???? ?????? ? ????? ?????? ????? ?????? ???? ??????? ?? ?????? ?????? ???? ????? ?????? ?? ?????? ?????? ???? ????? ???????? ?????????? ??? ???????? ???? ??? ???? ????????????

مواقع إسلامية

جمعية خيركم
منتدى الأصدقاء
مدونة إبراهيم
مدونة المهاجر

بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
اللهم صل و سلم على نبيك محمد و على آله و صحبه أجمعين

القلوب

لحظة من فضلك



المواد المختارة

المدرسة العلمية :


Safha Test

بسم الله الرحمن الرحيم     السلام عليكم و رحمة الله و بركاته    مرحبا بك أخي الكريم مجددا في موقعك المفضل     المحجة البيضاء     موقع الحبر الترجمان الزاهد الورع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما    
الكتب العلمية
الأداب و مكارم الأخلاق
كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :آدَابُ الْمُوَاضَعَةِ وَالاصْطِلاَحِ:الْفَصْلُ الاوَّلُ: فِي الْكَلاَمِ وَالصَّمْتِ
الكتب العلمية

بسم الله الرحمن الرحيم

َ فَصْلٌ

وَأَمَّا آدَابُ الْمُوَاضَعَةِ وَالاصْطِلاَحِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا تَكُونُ الْمُوَاضَعَةُ فِي فُرُوعِهِ، وَالْعَقْلُ مُوجِبٌ لِأُصُولِهِ. وَالثَّانِي مَا تَكُونُ الْمُوَاضَعَةُ فِي فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ. وَذَلِكَ مُتَّضِحٌ فِي الْفُصُولِ الَّتِي نَذْكُرُهَا إذَا سُبِرَتْ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ:

الْفَصْلُ الاوَّلُ: فِي الْكَلاَمِ وَالصَّمْتِ

اعْلَمْ أَنَّ الْكَلاَمَ تَرْجُمَانٌ يُعَبِّرُ عَنْ مُسْتَوْدَعَاتِ الضَّمَائِرِ، وَيُخْبِرُ بِمَكْنُونَاتِ السَّرَائِرِ، لاَ يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُ بَوَادِرِهِ، وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى رَدِّ شَوَارِدِهِ. فَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ زَلَلِهِ بِالامْسَاكِ عَنْهُ أَوْ بِالاقْلاَلِ مِنْهُ.

رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ}. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ: {يَا مُعَاذُ أَنْتَ سَالِمٌ مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَعَلَيْك أَوْ لَك}.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: اللِّسَانُ مِعْيَارٌ أَطَاشَهُ الْجَهْلُ وَأَرْجَحَهُ الْعَقْلُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْزَمْ الصَّمْتَ تُعَدُّ حَكِيمًا، جَاهِلًا كُنْتَ أَوْ عَالِمًا. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: سَعِدَ مَنْ لِسَانُهُ صَمُوتٌ، وَكَلاَمُهُ قُوتٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِنْ أَعْوَذِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْعَاقِلُ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ الا لِحَاجَتِهِ أَوْ مَحَجَّتِهِ، وَلاَ يُفَكِّرُ الا فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ فِي آخِرَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْزَمْ الصَّمْتَ فَإِنَّهُ يُكْسِبُك صَفْوَ الْمَحَبَّةِ، وَيُؤْمِنُك سُوءَ الْمَغَبَّةِ، وَيُلْبِسُك ثَوْبَ الْوَقَارِ، وَيَكْفِيكَ مَئُونَةَ الاعْتِذَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: اعْقِلْ لِسَانَك الا عَنْ حَقٍّ تُوَضِّحُهُ، أَوْ بَاطِلٍ تَدْحَضُهُ، أَوْ حِكْمَةٍ تَنْشُرُهَا، أَوْ نِعْمَةٍ تَذْكُرُهَا.

وَقَالَ الشَّاعِرُ: رَأَيْتُ الْعِزَّ فِي أَدَبٍ وَعَقْلٍ وَفِي الْجَهْلِ الْمَذَلَّةُ وَالْهَوَانُ وَمَا حُسْنُ الرِّجَالِ لَهُمْ بِحُسْنٍ إذَا لَمْ يُسْعِدْ الْحُسْنَ الْبَيَانُ كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَرَاهُ لَهُ وَجْهٌ وَلَيْسَ لَهُ لِسَانُ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلاَمِ شُرُوطًا لاَ يَسْلَمُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الزَّلَلِ الا بِهَا، وَلاَ يَعْرَى مِنْ النَّقْصِ الا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: فَالشَّرْطُ الاوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْكَلاَمُ لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ إمَّا فِي اجْتِلاَبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَتَوَخَّى بِهِ إصَابَةَ فُرْصَتِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ مَتَى أَخَلَّ الْمُتَكَلِّمُ بِشَرْطٍ مِنْهَا فَقَدْ أَوْهَنَ فَضِيلَةَ بَاقِيهَا. وَسَنَذْكُرُ تَعْلِيلَ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا بِمَا يُنَبِّئُ عَنْ لُزُومِهِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الاوَّلُ: وَهُوَ الدَّاعِي إلَى الْكَلاَمِ؛ فَلِأَنَّ مَا لاَ دَاعِيَ لَهُ هَذَيَانٌ، وَمَا لاَ سَبَبَ لَهُ هَجْرٌ.

وَمَنْ سَامَحَ نَفْسَهُ فِي الْكَلاَمِ، إذَا عَنَّ وَلَمْ يُرَاعِ صِحَّةَ دَوَاعِيهِ، وَإِصَابَةَ مَعَانِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ مَرْذُولًا، وَرَأْيُهُ مَعْلُولًا، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَائِشَةَ أَنَّ شَابًّا كَانَ يُجَالِسُ الاحْنَفَ وَيُطِيلُ الصَّمْتَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الاحْنَفَ فَخَلَتْ الْحَلْقَةُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ الاحْنَفُ: تَكَلَّمْ يَا ابْنَ أَخِي. فَقَالَ: يَا عَمِّ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَقَطَ مِنْ شُرَفِ هَذَا الْمَسْجِدِ هَلْ كَانَ يَضُرُّهُ شَيْءٌ ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَيْتَنَا تَرَكْنَاك مَسْتُورًا. ثُمَّ تَمَثَّلَ الاحْنَفُ بِقَوْلِ الاعْوَرِ الشَّنِّيُّ: وَكَائِنٌ تَرَى مِنْ صَاحِبٍ لَك مُعْجِبٌ زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ فَلَمْ يَبْقَ الا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ وَكَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْفَقِيهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَجْلِسُ إلَيْهِ فَيُطِيلُ الصَّمْتَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: الا تَسْأَلُ ؟ قَالَ: بَلَى. مَتَى يُفْطِرُ الصَّائِمُ ؟ قَالَ: إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَغْرُبْ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله وَتَمَثَّلَ بِبَيْتِيِّ الْخَطَفِيِّ جَدِّ جَرِيرٍ: عَجِبْتُ لِإِزْرَاءِ الْعَيِيِّ بِنَفْسِهِ وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالْعِلْمِ أَعْلَمَا وَفِي الصَّمْتِ سِتْرٌ لِلْغَبِيِّ وَإِنَّمَا صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا وَمِمَّا أُطْرِفُك بِهِ عَنِّي أَنِّي كُنْتُ يَوْمًا فِي مَجْلِسِي بِالْبَصْرَةِ وَأَنَا مُقْبِلٌ عَلَى تَدْرِيسِ أَصْحَابِي إذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ مُسِنٌّ قَدْ نَاهَزَ الثَّمَانِينَ أَوْ جَاوَزَهَا. فَقَالَ لِي: قَدْ قَصَدْتُك بِمَسْأَلَةٍ اخْتَرْتُك لَهَا. فَقُلْت: اسْأَلْ - عَافَاك اللَّهُ - وَظَنَنْتُهُ يَسْأَلُ عَنْ حَادِثٍ نَزَلَ بِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ نَجْمِ إبْلِيسَ، وَنَجْمِ آدَمَ، مَا هُوَ ؟ فَإِنَّ هَذَيْنِ لِعِظَمِ شَأْنِهِمَا لاَ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الا عُلَمَاءُ الدِّينِ. فَعَجِبْتُ وَعَجِبَ مَنْ فِي مَجْلِسِي مِنْ سُؤَالِهِ وَبَدَرَ إلَيْهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِالانْكَارِ وَالاسْتِخْفَافِ فَكَفَفْتُهُمْ وَقُلْتُ: هَذَا لاَ يَقْنَعُ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ الا بِجَوَابٍ مِثْلِهِ. فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: يَا هَذَا إنَّ الْمُنَجِّمِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ نُجُومَ النَّاسِ لاَ تُعْرَفُ الا بِمَعْرِفَةِ مَوَالِيدِهِمْ فَإِنْ ظَفَرْتَ بِمَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَاسْأَلْهُ. فَحِينَئِذٍ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ انْصَرَفَ مَسْرُورًا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ وَقَالَ: مَا وَجَدْت إلَى وَقْتِي هَذَا مَنْ يَعْرِفُ مَوْلِدَ هَذَيْنِ. فَانْظُرْ إلَى هَؤُلاَءِ كَيْفَ أَبَانُوا بِالْكَلاَمِ عَنْ جَهْلِهِمْ، وَأَعْرَبُوا بِالسُّؤَالِ عَنْ نَقْصِهِمْ، إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَاعٍ إلَيْهِ، وَلاَ رَوِيَّةٌ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ. وَلَوْ صَدَرَ عَنْ رَوِيَّةٍ وَدَعَا إلَيْهِ دَاعٍ لَسَلِمُوا مِنْ شَيْنِهِ، وَبَرِئُوا مِنْ عَيْبِهِ.

وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {لِسَانُ الْعَاقِلِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ فَإِذَا أَرَادَ الْكَلاَمَ رَجَعَ إلَى قَلْبِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَكَلَّمَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ. وَقَلْبُ الْجَاهِلِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا عَرَضَ لَهُ}.

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَقْلُ الْمَرْءِ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: احْبِسْ لِسَانَك قَبْلَ أَنْ يُطِيلَ حَبْسَك أَوْ يُتْلِفَ نَفْسَك، فَلاَ شَيْءَ أَوْلَى بِطُولِ حَبْسٍ مِنْ لِسَانٍ يَقْصُرُ عَنْ الصَّوَابِ، وَيُسْرِعُ إلَى الْجَوَابِ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ: وَمِمَّا كَانَتْ الْحُكَمَاءُ قَالَتْ لِسَانُ الْمَرْءِ مِنْ تَبَعِ الْفُؤَادِ وَكَانَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ يَحْسِمُ الرُّخْصَةَ فِي الْكَلاَمِ وَيَقُولُ: إذَا جَالَسْت الْجُهَّالَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ، وَإِذَا جَالَسْت الْعُلَمَاءَ فَأَنْصِتْ لَهُمْ، فَإِنَّ فِي إنْصَاتِك لِلْجُهَّالِ زِيَادَةً فِي الْحِلْمِ، وَفِي إنْصَاتِك لِلْعُلَمَاءِ زِيَادَةً فِي الْعِلْمِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَلاَمِ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلاَمَ فِي غَيْرِ حِينِهِ لاَ يَقَعُ مَوْقِعَ الانْتِفَاعِ بِهِ، وَمَا لاَ يَنْفَعُ مِنْ الْكَلاَمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ هَذَيَانٌ وَهَجْرٌ، فَإِنْ قَدَّمَ مَا يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ كَانَ عَجَلَةً وَخَرَقًا وَإِنْ أَخَّرَ مَا يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ كَانَ تَوَانِيًا وَعَجْزًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ قَوْلًا، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ عَمَلًا. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: تَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى مَوَاضِعِهِ وَكَلاَمُهَا مِنْ بَعْدِهَا نَزْرُ وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ. فَإِنَّ الْكَلاَمَ إنْ لَمْ يَنْحَصِرْ بِالْحَاجَةِ، وَلَمْ يُقَدَّرْ بِالْكِفَايَةِ، لَمْ يَكُنْ لِحَدِّهِ غَايَةٌ، وَلاَ لِقَدْرِهِ نِهَايَةٌ. وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْكَلاَمِ مَحْصُورًا كَانَ حَصْرًا إنْ قَصُرَ، وَهَذْرًا إنْ كَثُرَ. وَرُوِيَ {أَنَّ أَعْرَابِيًّا تَكَلَّمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَطَوَّلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَمْ دُونَ لِسَانِك مِنْ حِجَابٍ ؟ قَالَ: شَفَتَايَ وَأَسْنَانِي. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ الانْبِعَاقَ فِي الْكَلاَمِ}. فَنَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَ امْرِئٍ أَوْجَزَ فِي كَلاَمِهِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى حَاجَتِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الْكَلاَمَ وَيُقِلُّ السُّكُوتَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلْقَ لَك أُذُنَيْنِ وَلِسَانًا وَاحِدًا لِيَكُونَ مَا تَسْمَعُهُ ضِعْفَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَثُرَ كَلاَمُهُ كَثُرَتْ آثَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أُنْذِرُكُمْ فُضُولَ الْمَنْطِقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: كَلاَمُ الْمَرْءِ بَيَانُ فَضْلِهِ، وَتَرْجُمَانُ عَقْلِهِ، فَاقْصُرْهُ عَلَى الْجَمِيلِ وَاقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِيَّاكَ مَا يُسْخِطُ سُلْطَانَك، وَيُوحِشُ إخْوَانَك، فَمَنْ أَسْخَطَ سُلْطَانَهُ تَعَرَّضَ لِلْمَنِيَّةِ وَمَنْ أَوْحَشَ إخْوَانَهُ تَبَرَّأَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَزِنْ الْكَلاَمَ إذَا نَطَقْتَ فَإِنَّمَا يُبْدِي عُيُوبَ ذَوِي الْعُيُوبِ الْمَنْطِقُ وَلِمُخَالَفَةِ قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ الْكَلاَمِ حَالَتَانِ: تَقْصِيرٌ يَكُونُ حَصْرًا، وَتَكْثِيرٌ يَكُونُ هَذْرًا، وَكِلاَهُمَا شَيْنٌ. وَشَيْنُ الْهَذَرِ أَشْنَعُ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْغَالِبِ أَخْوَفَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ الا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ}. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَقْتَلُ الرَّجُلِ بَيْنَ فَكَّيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْحَصْرُ خَيْرٌ مِنْ الْهَذْرِ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ يُضَعِّفُ الْحُجَّةَ، وَالْهَذْرَ يُتْلِفُ الْمَحَجَّةَ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: رَأَيْت اللِّسَانَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا سَاسَهُ الْجَهْلُ لَيْثًا مُغِيرَا وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: يَا رُبَّ أَلْسِنَةٍ كَالسُّيُوفِ تَقْطَعُ أَعْنَاقَ أَصْحَابِهَا. وَمَا يَنْقُصُ مِنْ هَيْئَاتِ الرِّجَالِ يَزِيدُ فِي بِهَائِهَا وَأَلْبَابِهَا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْكَلاَمَ إذَا كَثُرَ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَزَادَ عَلَى حَدِّ الْكِفَايَةِ، وَكَانَ صَوَابًا لاَ يَشُوبُهُ خَطَلٌ، وَسَلِيمًا لاَ يَتَعَوَّدُهُ زَلَلٌ، فَهُوَ الْبَيَانُ وَالسَّحَرُ الْحَلاَلُ.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ ذُمَّ الْكَلاَمُ فِي مَجْلِسِهِ: كَلًّا إنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَسْكُتَ فَيُحْسِنَ، وَلَيْسَ مَنْ سَكَتَ فَأَحْسَنَ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيُحْسِنَ. وَوَصَفَ بَعْضُهُمْ الْكَاتِبَ فَقَالَ: الْكَاتِبُ مَنْ إذَا أَخَذَ شِبْرًا كَفَاهُ، وَإِذَا وَجَدَ طُومَارًا أَمْلاَهُ. وَأَنْشُدَ بَعْضُهُمْ فِي خُطَبَاءِ إيَادٍ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً وَحْيَ الْمَلاَحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ صَالِحٍ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إذَا أَقْلَلْتَ مِنْ الْكَلاَمِ أَكْثَرْتَ مِنْ الصَّوَابِ. فَقَالَ: يَا أَبَتِ فَإِنْ أَنَا أَكْثَرْتُ وَأَكْثَرْت يَعْنِي كَلاَمًا وَصَوَابًا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَا رَأَيْتُ مَوْعُوظًا أَحَقَّ بِأَنْ يَكُونَ وَاعِظًا مِنْك. وَأَنْشَدْت لِأَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ: تَكَلَّمْ وَسَدِّدْ مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّمَا كَلاَمُكَ حَيٌّ وَالسُّكُوتُ جَمَادُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَوْلًا سَدِيدًا تَقُولُهُ فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَّدَادِ سَدَادُ وَقِيلَ لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: مَا فِيك عَيْبٌ الا كَثْرَةُ الْكَلاَمِ، فَقَالَ: أَفَتَسْمَعُونَ صَوَابًا أَوْ خَطَأً ؟ قَالُوا: لاَ بَلْ صَوَابًا. قَالَ: فَالزِّيَادَةُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْجَاحِظُ: لِلْكَلاَمِ غَايَةٌ، وَلِنَشَاطِ السَّامِعِينَ نِهَايَةٌ. وَمَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الاحْتِمَالِ، وَدَعَا إلَى الاسْتِثْقَالِ وَالْمَلاَلِ، فَذَلِكَ الْفَاضِلُ هُوَ الْهَذْرُ. وَصَدَقَ أَبُو عُثْمَانَ؛ لِأَنَّ الاكْثَارَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ صَوَابًا يُمِلُّ السَّامِعَ وَيُكِلُّ الْخَاطِرَ وَهُوَ صَادِرٌ عَنْ إعْجَابٍ بِهِ لَوْلاَهُ قَصُرَ عَنْهُ. وَمَنْ أُعْجِبَ بِكَلاَمِهِ اسْتَرْسَلَ فِيهِ، وَالْمُسْتَرْسِلُ فِي الْكَلاَمِ كَثِيرُ الزَّلَلِ دَائِمُ الْعِثَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أُعْجِبَ بِقَوْلِهِ أُصِيبَ بِعَقْلِهِ. وَلَيْسَ لِكَثْرَةِ الْهَذْرِ رَجَاءٌ يُقَابِلُ خَوْفَهُ، وَلاَ نَفْعٌ يُوَازِي ضُرَّهُ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ مِنْ نَفْسِهِ الزَّلَلَ، وَمِنْ سَامِعِيهِ الْمَلَلَ. وَلَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَيْنِ حَاجَةٌ دَاعِيَةٌ وَلاَ نَفْعٌ مَرْجُوٌّ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَبْغَضُكُمْ إلَيَّ الْمُتَفَيْهِقُ الْمِكْثَارُ وَالْمُلِحُّ الْمِهْذَارُ}. وَسَأَلَ رَجُلٌ حَكِيمًا فَقَالَ: مَتَى أَتَكَلَّمُ ؟ قَالَ: إذَا اشْتَهَيْتَ الصَّمْتَ. فَقَالَ: مَتَى أَصْمُتُ ؟ قَالَ: إذَا اشْتَهَيْتَ الْكَلاَمَ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى: إذَا كَانَ الايجَازُ كَافِيًا كَانَ الاكْثَارُ عِيًّا، وَإِنْ كَانَ الاكْثَارُ وَاجِبًا كَانَ التَّقْصِيرُ عَجْزًا. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: إذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلاَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: مَنْ أَطَالَ صَمْتَهُ اجْتَلَبَ مِنْ الْهَيْبَةِ مَا يَنْفَعُهُ، وَمِنْ الْوَحْشَةِ مَا لاَ يَضُرُّهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: عِيٌّ تَسْلَمُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ مَنْطِقٍ تَنْدَمُ عَلَيْهِ فَاقْتَصِرْ مِنْ الْكَلاَمِ عَلَى مَا يُقِيمُ حُجَّتَك، وَيُبَلِّغُ حَاجَتَك، وَإِيَّاكَ وَفُضُولَهُ فَإِنَّهُ يُزِلُّ الْقَدَمَ، وَيُورِثُ النَّدَمَ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: فَمُ الْعَاقِلِ مُلَجَّمٌ إذَا هَمَّ بِالْكَلاَمِ أَحْجَمَ، وَفَمُ الْجَاهِلِ مُطْلَقٌ كُلَّمَا شَاءَ أَطْلَقَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إنَّ الْكَلاَمَ يَغُرُّ الْقَوْمَ جِلْوَتُهُ حَتَّى يَلِجَّ بِهِ عِيٌّ وَإِكْثَارُ وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ؛ فَلِأَنَّ اللِّسَانَ عُنْوَانُ الانْسَانِ يُتَرْجِمُ عَنْ مَجْهُولِهِ، وَيُبَرْهِنُ عَنْ مَحْصُولِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِتَهْذِيبِ أَلْفَاظِهِ حَرِيًّا وَبِتَقْوِيمِ لِسَانِهِ مَلِيًّا.

رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ {قَالَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: يُعْجِبُنِي جَمَالُك. قَالَ: وَمَا جَمَالُ الرَّجُلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: لِسَانُهُ}. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: مَا الانْسَانُ لَوْلاَ اللِّسَانُ هَلْ الا بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ أَوْ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ ؟ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اللِّسَانُ وَزِيرُ الانْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: كَلاَمُ الْمَرِيدِ وَافِدُ أَدَبِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ، وَعَلَى أَصْلِهِ بِفِعْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّ لِسَانَ الْمَرْءِ مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حَصَاةٌ عَلَى عَوْرَاتِهِ لَدَلِيلُ وَلَيْسَ يَصِحُّ اخْتِيَارُ الْكَلاَمِ لاَ لِمَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْبَلاَغَةِ، وَكَلَّفَهَا لُزُومَ الْفَصَاحَةِ، حَتَّى يَصِيرَ مُتَدَرِّبًا بِهَا مُعْتَادًا لَهَا، فَلاَ يَأْتِيَ بِكَلاَمٍ مُسْتَكْرَهِ اللَّفْظِ وَلاَ مُخْتَلِّ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْبَلاَغَةَ لَيْسَتْ عَلَى مَعَانٍ مُفْرَدَةٍ وَلاَ لِأَلْفَاظِهَا غَايَةٌ، وَإِنَّمَا الْبَلاَغَةُ أَنْ تَكُونَ بِالْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ فِي أَلْفَاظٍ فَصَيْحَةٍ. فَتَكُونُ فَصَاحَةُ الالْفَاظِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعَانِي هِيَ الْبَلاَغَةُ. وَقَدْ قِيلَ لِلْيُونَانِيِّ؛ مَا الْبَلاَغَةُ ؟ قَالَ: اخْتِيَارُ الْكَلاَمِ وَتَصْحِيحُ الاقْسَامِ. وَقِيلَ ذَلِكَ لِلرُّومِيِّ، فَقَالَ: حَسَنُ الاخْتِصَارِ عِنْدَ الْبَدِيهَةِ وَالْغَزَارَةُ يَوْمَ الاطَالَةِ. وَقِيلَ لِلْهِنْدِيِّ فَقَالَ: مَعْرِفَةُ الْفَصْلِ مِنْ الْوَصْلِ. وَقِيلَ لِلْعَرَبِيِّ فَقَالَ: مَا حَسُنَ إيجَازُهُ وَقَلَّ مَجَازُهُ. وَقِيلَ لِلْبَدْوِيِّ فَقَالَ: مَا دُونَ السَّحَرِ وَفَوْقَ الشِّعْرِ، يَفُتُّ الْخَرْدَلَ وَيَحُطُّ الْجَنْدَلَ. وَقِيلَ لِلْحَضَرِيِّ فَقَالَ: مَا كَثُرَ إعْجَازُهُ وَتَنَاسَبَتْ صُدُورُهُ وَأَعْجَازُهُ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: الْبَلاَغَةُ قِلَّةُ الْحَصْرِ وَالْجَرَاءَةُ عَلَى الْبَشَرِ. وَسَأَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الْقَرْيَةِ عَنْ الايجَازِ قَالَ: أَنْ تَقُولَ فَلاَ تُبْطِئَ وَأَن تُصِيبَ فَلاَ تُخْطِئَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: خَيْرُ الْكَلاَمِ قَلِيلٌ عَلَى كَثِيرٍ دَلِيلُ وَالْعِيُّ مَعْنًى قَصِيرٌ يَحُوبُهُ لَفْظٌ طَوِيلُ وَفِي الْكَلاَمِ فُضُولٌ وَفِيهِ قَالٌ وَقِيلُ وَأَمَّا صِحَّةُ الْمَعَانِي فَتَكُونُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إيضَاحُ تَفْسِيرِهَا حَتَّى لاَ تَكُونَ مُشْكِلَةً وَلاَ مُجْمَلَةً. وَالثَّانِي: اسْتِيفَاءُ تَقْسِيمِهَا حَتَّى لاَ يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا وَلاَ يَخْرُجَ عَنْهَا مَا هُوَ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: صِحَّةُ مُقَابَلاَتِهَا. وَالْمُقَابَلَةُ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُقَابَلَةُ الْمَعْنَى بِمَا يُوَافِقُهُ وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْمُقَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ تَصِيرُ مُتَشَاكِلَةً. وَالثَّانِي مُقَابَلَتُهُ بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُقَابَلَةِ. وَلَيْسَ لِلْمُقَابَلَةِ الا أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: الْمُوَافَقَةُ فِي الائْتِلاَفِ وَالْمُضَادَّةُ مَعَ الاخْتِلاَفِ. فَأَمَّا فَصَاحَةُ الالْفَاظِ فَتَكُونُ بِثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مُجَانَبَةُ الْغَرِيبِ الْوَحْشِيِّ حَتَّى لاَ يَمُجَّهُ سَمْعٌ وَلاَ يَنْفِرُ مِنْهُ طَبْعٌ. وَالثَّانِي: تَنَكُّبُ اللَّفْظِ الْمُسْتَبْذَلِ، وَالْعُدُولُ عَنْ الْكَلاَمِ الْمُسْتَرْذَلِ، حَتَّى لاَ يَسْتَسْقِطَهُ خَاصِّيٌّ وَلاَ يَنْبُوَ عَنْ فَهْمِهِ عَامِّيٌّ. كَمَا قَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ: أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَرَ قَوْمًا أَمْثَلَ طَرِيقَةً فِي الْبَلاَغَةِ مِنْ الْكُتَّابِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ الْتَمَسُوا مِنْ الالْفَاظِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَعِّرًا وَحْشِيًّا وَلاَ سَاقِطًا عَامِّيًّا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الالْفَاظِ كَالْقَوَالِبِ لِمَعَانِيهَا فَلاَ تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلاَ تَنْقُصُ عَنْهَا.

وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، فِي وَصِيَّتِهِ فِي الْبَلاَغَةِ: إذَا لَمْ تَجِدْ اللَّفْظَةَ وَاقِعَةً مَوْقِعَهَا، وَلاَ صَائِرَةً إلَى مُسْتَقَرِّهَا، وَلاَ حَالَّةً فِي مَرْكَزِهَا، بَلْ وَجَدْتهَا قَلِقَةً فِي مَكَانِهَا، نَافِرَةً عَنْ مَوْضِعِهَا، فَلاَ تُكْرِهُهَا عَلَى الْقَرَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، فَإِنَّك إنْ لَمْ تَتَعَاطَ قَرِيضَ الشِّعْرِ الْمَوْزُونِ، وَلَمْ تَتَكَلَّفْ اخْتِيَارَ الْكَلاَمِ الْمَنْثُورِ، لَمْ يَعِبْك بِتَرْكِ ذَلِكَ أَحَدٌ. وَإِذَا أَنْتَ تَكَلَّفْتَهُمَا وَلَمْ تَكُنْ حَاذِقًا فِيهِمَا عَابَك مَنْ أَنْتَ أَقَلُّ عَيْبًا مِنْهُ، وَأَزْرَى عَلَيْك مَنْ أَنْتَ فَوْقَهُ. وَأَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَلِيقُ بِبَعْضِ الالْفَاظِ إمَّا لِعُرْفٍ مُسْتَعْمَلٍ، أَوْ لِاتِّفَاقٍ مُسْتَحْسَنٍ، حَتَّى إذَا ذَكَرْت تِلْكَ الْمَعَانِيَ بَعْدَ تِلْكَ الالْفَاظِ كَانَتْ نَافِرَةً عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَفْصَحَ وَأَوْضَحَ لِاعْتِيَادِ مَا سِوَاهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لاَ يَكُونُ الْبَلِيغُ بَلِيغًا حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى كَلاَمُهُ أَسْبَقَ إلَى فَهْمِك مِنْ لَفْظِهِ إلَى سَمْعِك. وَأَمَّا مُعَاطَاةُ الاعْرَابِ وَتَجَنُّبُ اللَّحَنِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الصَّوَابِ وَالْبَلاَغَةُ أَعْلَى مِنْهُ رُتْبَةً، وَأَشْرَفُ مَنْزِلَةً. وَلَيْسَ لِمَنْ لَحَنَ فِي كَلاَمِهِ مُدْخَلٌ فِي الادَبَاءِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَادِ الْبُلَغَاءُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلاَمِ آدَابًا إنْ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ أَذْهَبَ رَوْنَقَ كَلاَمِهِ، وَطَمَسَ بَهْجَةَ بَيَانِهِ، وَلَهَا النَّاسَ عَنْ مَحَاسِنِ فَضْلِهِ بِمُسَاوِي أَدَبِهِ، فَعَدَلُوا عَنْ مَنَاقِبِهِ بِذِكْرِ مَثَالِبِهِ. فَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ فِي مَدْحٍ وَلاَ يُسْرِفَ فِي ذَمٍّ وَإِنْ كَانَتْ النَّزَاهَةُ عَنْ الذَّمِّ كَرَمًا وَالتَّجَاوُزُ فِي الْمَدْحِ مَلَقًا يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةٍ. وَالسَّرَفُ فِي الذَّمِّ انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ شَرٍّ، وَكِلاَهُمَا شَيْنٌ وَإِنْ سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ. يُرْوَى أَنَّهُ {لَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدُ تَمِيمٍ سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بْنَ الاهْتَمِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ فَمَدَحَهُ، فَقَالَ قَيْسٌ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنِّي خَيْرٌ مِمَّا وَصَفَ وَلَكِنْ حَسَدَنِي، فَذَمَّهُ عَمْرٌو وَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَدَقْت فِي الاولَى وَمَا كَذَبْت فِي الاخْرَى؛ لِأَنِّي رَضِيتُ فِي الاولَى فَقُلْت أَحْسَنَ مَا عَلِمْت وَسَخِطْت فِي الاخْرَى فَقُلْت أَقْبَحَ مَا عَلِمْت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا}. عَلَى أَنَّ السَّلاَمَةَ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مُتَعَذِّرَةٌ لاَ سِيَّمَا إذَا مَدَحَ تَقَرُّبًا وَذَمَّ تَحَنُّقًا. وَحُكِيَ عَنْ الاحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَهِرْت لَيْلَتِي أُفَكِّرُ فِي كَلِمَةٍ أُرْضِي بِهَا سُلْطَانِي وَلاَ أُسْخِطُ بِهَا رَبِّي فَمَا وَجَدْتهَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينُهُ فَيَخْرُجُ وَمَا مَعَهُ دِينُهُ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يُرْضِيهِ بِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَسَمِعَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَجُلًا يَصِفُ رَجُلًا وَيُبَالِغُ فِي مَدْحِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَأً لِامْرِئٍ فَلاَ تَغْلُ فِي وَصْفِهِ وَاقْصِدْ فَإِنَّك إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُونُ فِيهِ إلَى الامَدِ الابْعَدِ فَيَضْأَلُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ لِفَضْلِ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ.

وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ لاَ تَبْعَثَهُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ عَلَى الاسْتِرْسَالِ فِي وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ يَعْجِزُ عَنْهُمَا وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِمَا. فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ بِهِمَا لِسَانَهُ وَأَرْسَلَ فِيهِمَا عِنَانَهُ، وَلَمْ يَسْتَثْقِلْ مِنْ الْقَوْلِ مَا يَسْتَثْقِلُهُ مِنْ الْعَمَلِ، صَارَ وَعْدُهُ نَكْثًا وَوَعِيدُهُ عَجْزًا. وَحُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عليهما السلام، مَرَّ بِعُصْفُورٍ يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ لَهَا ؟ قَالُوا: لاَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: إنَّهُ يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ وَيَقُولُ لَهَا زَوِّجِينِي نَفْسَك أُسْكِنُكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ: كَذَبَ الْعُصْفُورُ فَإِنَّ غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ بِالصُّخُورِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِنَهَا هُنَاكَ، وَلَكِنْ كُلُّ خَاطِبٍ كَاذِبٌ. وَمِنْ آدَابِهِ: إنْ قَالَ قَوْلًا حَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ صَدَّقَهُ فَعَمِلَهُ، فَإِنَّ إرْسَالَ الْقَوْلِ اخْتِيَارٌ، وَالْعَمَلَ بِهِ اضْطِرَارٌ. وَلَئِنْ يَفْعَلَ مَا لَمْ يَقُلْ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَفْعَلْ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَحْسَنُ الْكَلاَمِ مَا لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْكَلاَمِ أَيْ يَكْتَفِي بِالْفِعْلِ مِنْ الْقَوْلِ. وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: الْقَوْلُ مَا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ وَالْفِعْلُ مَا وَكَّدَهُ الْعَقْلُ لاَ يَثْبُتُ الْقَوْلُ إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِلُّهُ مِنْ تَحْتِهِ الاصْلُ.

وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ يُرَاعِيَ مَخَارِجَ كَلاَمِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِ وَأَغْرَاضِهِ فَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا قَرَنَهُ بِاللِّينِ وَاللُّطْفِ، وَإِنْ كَانَ تَرْهِيبًا خَلَطَهُ بِالْخُشُونَةِ وَالْعُنْفِ، فَإِنَّ لِينَ اللَّفْظِ فِي التَّرْهِيبِ وَخُشُونَتُهُ فِي التَّرْغِيبِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضِعِهِمَا وَتَعْطِيلٌ لِلْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَيَصِيرُ الْكَلاَمُ لَغْوًا وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ لَهْوًا. وَقَدْ قَالَ أَبُو الاسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إنْ كُنْت فِي قَوْمٍ فَلاَ تَتَكَلَّمْ بِكَلاَمِ مَنْ هُوَ فَوْقَك فَيَمْقُتُوك، وَلاَ بِكَلاَمِ مَنْ هُوَ دُونَك فَيَزْدَرُوك.

وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ لاَ يَرْفَعَ بِكَلاَمِهِ صَوْتًا مُسْتَنْكَرًا وَلاَ يَنْزَعِجَ لَهُ انْزِعَاجًا مُسْتَهْجَنًا، وَلْيَكُفَّ عَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ طَيْشًا وَعَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ عِيًّا، فَإِنَّ نَقْصَ الطَّيْشِ أَكْثَرُ مِنْ فَضْلِ الْبَلاَغَةِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَخَطِيبٌ أَنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ لَوْلاَ أَنَّك تُكْثِرُ الرَّدَّ، وَتُشِيرُ بِالْيَدِ، وَتَقُولُ أَمَّا بَعْدُ.

وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ يَتَجَافَى هَجَرَ الْقَوْلِ وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلاَمِ، وَلْيَعْدِلْ إلَى الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ؛ لِيَبْلُغَ الْغَرَضَ وَلِسَانُهُ نَزِهٌ وَأَدَبُهُ مَصُونٌ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}. قَالَ: كَانُوا إذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ كَنَّوْا عَنْهَا. وَكَمَا أَنَّهُ يَصُونُ لِسَانَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهَكَذَا يَصُونُ عَنْهُ سَمْعَهُ، فَلاَ يَسْمَعُ خَنَاءً وَلاَ يُصْغِي إلَى فُحْشٍ فَإِنَّ سَمَاعَ الْفُحْشِ دَاعٍ إلَى إظْهَارِهِ، وَذَرِيعَةٌ إلَى إنْكَارِهِ. وَإِذَا وَجَدَ عَنْ الْفُحْشِ مَعْرِضًا كَفَّ قَائِلُهُ وَكَانَ إعْرَاضُهُ أَحَدَ النَّكِيرَيْنِ، كَمَا أَنَّ سَمَاعَهُ أَحَدُ الْبَاعِثَيْنِ. وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيُّ: تَحَرَّ مِنْ الطُّرُقِ أَوْسَاطَهَا وَعُدْ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَبِهْ وَسَمْعَك صُنْ عَنْ قَبِيحِ الْكَلاَ مِ كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنْ النُّطْقِ بِهِ فَإِنَّك عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقَبِيحِ شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى فُحْشِ الْقَوْلِ وَهَجْرِهِ فِي وُجُوبِ اجْتِنَابِهِ، وَلُزُومِ تَنَكُّبِهِ، مَا كَانَ شَنِيعَ الْبَدِيهَةِ مُسْتَنْكَرَ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ سَلِيمًا، وَبَعْدَ الْكَشْفِ وَالرَّوِيَّةِ مُسْتَقِيمًا، كَاَلَّذِي رَوَاهُ الازْدِيُّ عَنْ الصُّولِيِّ لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّفِينَ مِنْ الشُّعَرَاءِ إنَّنِي شَيْخٌ كَبِيرٌ كَافِرٌ بِاَللَّهِ سِيرِي أَنْتِ رَبِّي وَإِلَهِي رَازِقُ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ كَافِرٌ أَيْ لاَبِسٌ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ التَّغْطِيَةُ. وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْكَافِرُ بِاَللَّهِ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ غَطَّى نِعْمَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ. وَقَوْلُهُ بِاَللَّهِ سِيرِي يُقْسِمُ عَلَيْهَا أَنْ تَسِيرَ. وَقَوْلُهُ أَنْتَ رَبِّي يَعْنِي رَبِّي وَلَدَك مِنْ التَّرْبِيَةِ. وَإِلَهِي رَازِقُ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ كَمَا أَنَّهُ رَازِقُ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ. فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الشَّنِيعِ، وَالتَّعَمُّقِ الْبَشِيعِ، مَا اعْتَاضَ مِنْ حَيْثُ الْبَدِيهَةُ إذَا سَلَّمَ بَعْدَ الْفِكْرِ وَالرَّوِيَّةِ الا لُؤْمًا إنْ حَسُنَ فِيهِ الظَّنُّ، أَوْ ذَمًّا إنْ قَوِيَ فِيهِ الارْتِيَابُ. وَقَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الا مِنْ خَلِيعٍ بَطِرٍ أَوْ مُرْتَابٍ أَشِرٍ.

فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ} فَخَارِجٌ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّلْبِيسِ. وَفِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ الصَّلاَةِ فِي الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ الْمُحْدَوْدِبِ، مَأْخُوذٌ مِنْ النَّبْوَةِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ أَرَادَ الطَّرِيقَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ رُسُلُ اللَّهِ أَنْبِيَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ الطُّرُقُ إلَيْهِ. إنَّمَا زَالَ عَنْهُ التَّلْبِيسُ إذَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ تَلْبِيسًا شَنِيعًا؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ خِطَابِهِ وَشَوَاهِدَ أَحْوَالِهِ يَصْرِفَانِ كَلاَمَهُ عَنْ التَّجَوُّزِ وَالاسْتِرْسَالِ فِي أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ إلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ بِهِ شَرْعٌ وَيَنْهَى عَنْهُ نَبِيٌّ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ افْتَرَقَ وُجُودُهُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ.

وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ أَمْثَالَ الْعَامَّةِ الْغَوْغَاءِ وَيَتَخَصَّصَ بِأَمْثَالِ الْعُلَمَاءِ الادَبَاءِ فَإِنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ النَّاسِ أَمْثَالا تُشَاكِلُهُمْ، فَلاَ تَجِدْ لِسَاقِطٍ الا مَثَلًا سَاقِطًا وَتَشْبِيهًا مُسْتَقْبَحًا. وَلِلسُّقَّاطِ أَمْثَالٌ فَمِنْهَا تَمَثُّلُهُمْ لِلشَّيْءِ الْمُرِيبِ، كَمَا قَالَ الصَّنَوْبَرِيُّ: إذَا مَا كُنْتَ ذَا بَوْلٍ صَحِيحٍ الا فَاضْرِبْ بِهِ وَجْهَ الطَّبِيبِ وَلِذَلِكَ عِلَّتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنَّ الامْثَالَ مِنْ هَوَاجِسِ الْهِمَمِ وَخَطِرَاتِ النُّفُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ لِذِي الْهِمَّةِ السَّاقِطَةِ الا مَثَلٌ مَرْذُولٌ، وَتَشْبِيهٌ مَعْلُولٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الامْثَالَ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَمَثِّلِينَ بِهَا، فَبِحَسَبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ تَكُونُ أَمْثَالُهُمْ. فَلِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَمْثَالِ الْخَاصَّةِ وَأَمْثَالِ الْعَامَّةِ. وَرُبَّمَا أَلَّفَ الْمُتَخَصِّصُ مَثَلًا عَامِّيًّا أَوْ تَشْبِيهًا رَكِيكًا؛ لِكَثْرَةِ مَا يَطْرُقُ سَمْعَهُ مِنْ مُخَالَطَةِ الارَاذِلِ فَيَسْتَرْسِلُ فِي ضَرْبِهِ مَثَلًا فَيَصِيرُ بِهِ مَثَلًا، كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ الاصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ يَوْمًا عَنْ أَنْسَابِ بَعْضِ الْعَرَبِ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ: أَسْقَطَ اللَّهُ جَنْبَيْك أَتَخَاطَبُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ ؟ فَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِ أَعْلَمَ بِمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْكَلاَمِ فِي مُحَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ مِنْ الاصْمَعِيِّ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ عَصْرِهِ وَقَرِيعُ دَهْرِهِ.

وَلِلْأَمْثَالِ مِنْ الْكَلاَمِ مَوْقِعٌ فِي الاسْمَاعِ وَتَأْثِيرٌ فِي الْقُلُوبِ لاَ يَكَادُ الْكَلاَمُ الْمُرْسَلُ يَبْلُغُ مَبْلَغَهَا، وَلاَ يُؤَثِّرُ تَأْثِيرَهَا؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ بِهَا لاَئِحَةٌ، وَالشَّوَاهِدَ بِهَا وَاضِحَةٌ، وَالنُّفُوسَ بِهَا وَامِقَةٌ، وَالْقُلُوبَ بِهَا وَاثِقَةٌ، وَالْعُقُولُ لَهَا مُوَافِقَةٌ. فَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ الامْثَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَجَعَلَهَا مِنْ دَلاَئِلِ رُسُلِهِ وَأَوْضَحَ بِهَا الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْعُقُولِ مَعْقُولَةٌ، وَفِي الْقُلُوبِ مَقْبُولَةٌ. وَلَهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: صِحَّةُ التَّشْبِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَا سَابِقًا وَالْكُلُّ عَلَيْهَا مُوَافِقًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسْرِعَ وُصُولُهَا لِلْفَهْمِ، وَيُعَجَّلَ تَصَوُّرُهَا فِي الْوَهْمِ، مِنْ غَيْرِ ارْتِيَاءٍ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَلاَ كَدٍّ فِي اسْتِنْبَاطِهَا. وَالرَّابِعُ: أَنْ تُنَاسِبَ حَالَ السَّامِعِ لِتَكُونَ أَبْلَغَ تَأْثِيرًا وَأَحْسَنَ مَوْقِعًا. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِي الامْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الارْبَعَةُ كَانَتْ زِينَةً لِلْكَلاَمِ وَجَلاَءً لِلْمَعَانِي وَتَدَبُّرًا لِلْأَفْهَامِ.


عدد المشاهدات *:
453596
عدد مرات التنزيل *:
93331
حجم الخط :

* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 13/05/2007 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة

- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 13/05/2007

الكتب العلمية

روابط تنزيل : الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :آدَابُ الْمُوَاضَعَةِ وَالاصْطِلاَحِ:الْفَصْلُ الاوَّلُ: فِي الْكَلاَمِ وَالصَّمْتِ
 هذا رابط   لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
أرسل إلى صديق
. بريدك الإلكتروني :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
. بريد صديقك :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
اضغط هنا للطباعة طباعة
 هذا رابط  الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :آدَابُ الْمُوَاضَعَةِ وَالاصْطِلاَحِ:الْفَصْلُ الاوَّلُ: فِي الْكَلاَمِ وَالصَّمْتِ لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
يمكنكم استخدام جميع روابط المحجة البيضاء في مواقعكم بالمجان
الكتب العلمية


@designer
1