وقد نهى اللّه أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 79، 80]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير ويدعون الملائكة، فأخبرهم تعالى أن هؤلاء عبيده، يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال.
ونهى ـ سبحانه ـ أن يضرب له مثل بالمخلوق، فلا يشبه بالمخلوق الذي / يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23].
ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه، وشفاعته أعظم الشفاعات، وجاهه عند اللّه أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم، ثم من نوح، ثم من إبراهيم، ثم من موسي، ثم من عيسي، كل واحد يحيلهم على الآخر، فإذا جاؤوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد، عَبْدٌ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: (فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). قال: (فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة) الحديث.
فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال؛ كما ينكرها الخوارج والمعتزلة. ومن قال: إن مخلوقا يشفع عند اللّه بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 108، 109]، وقال تعالى: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]، وقال تعالى:{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]. ومثل هذا في القرآن كثير. فالدين هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله من الأعمال والأشخاص. واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالفرقان، ففرق بين هذا وهذا، فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق اللّه بينه.
فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصي أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلي في مسجده، وصلي في مسجد قباء، وزار القبور ـ كما مضت به سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولاسلم عليه في الصلاة، بل أتي القبر ثم رجع، فهذا مبتدع /ضال، مخالف لسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولإجماع أصحابه، ولعلماء أمته. وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني: أنه لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين.
وقد ذكرت هذا في المناسك، وفي الفتيا، وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا، مع أن فيه نزاعا؛ إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقاً، ومنهم من يكرهها مطلقاً، كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي، ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجلة التابعين. ونقل ذلك عن مالك. وعنه أنها مباحة ليست مستحبة. وهو أحد القولين في مذهب أحمد؛ لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور: أن الزيارة الشرعية مستحبة. وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم، فيسلم عليهم ويدعو لهم. وتزار قبور الكفار؛ لأن ذلك يذكر الآخرة.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق، وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور في حق الرسول في الصلوات الخمس، وعند دخول المساجد والخروج منها، وعند الأذان، وعند كل دعاء.وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد، / ونهى أن يتخذ قبره عيداً، وسأل اللّه ألا يجعله وَثَنًا يعْبَد. فمنع أحد أن يدخل إلى قبره فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره. وكل ما يفعل في مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه اللّه وفضله به على غيره، وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره ـ وإن كان جائزاً.
وأما [اتخاذ القبور مساجد] فهذا ينهى عنه عند كل قبر، وإن كان المصلي إنما يصلي للّه ولا يدعو إلا اللّه. فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة؟!
وأما إذا قدر أن من أتي المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتي القبر ثم رجع، فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمالك وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أحداً من علماء المسلمين استحب مثل هذا، بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير أن يقصد الصلاة في المسجد، وجعلوا هذا من السفر المنهى عنه. ولا كان أحد من السلف يفعل هذا، بل كان الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه واجتمعوا بخلفائه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، يسلمون عليه ويصلون عليه في الصلاة، ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه. ولم / يكونوا يذهبون إلى القبر. وهذا متواتر عنهم، لا يقدر أحد أن ينقل عنهم أو عن واحد منهم أنه كان إذا صلي خلف الخلفاء الراشدين يذهب في ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها. وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم.
فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم في الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره، فكيف يقصدون أن يسافروا إليه؟ أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة في المسجد؟ ومن قال: إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين، ثم إذا نقله يكون قائله قد خالف أقوال العلماء كما خالف فاعله فعل الأمة، وخالف سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه وعلماء أمته. قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. و(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي).
وعلماء المسلمين قد ذكروا في مناسكهم استحباب السفر إلى مسجده، وذكروا زيارة قبره المكرم، وما علمت أحداً من المسلمين قال: إنه من لم يقصد إلا زيارة القبر يكون سفره مستحباً، ولو قالوا ذلك في قبر غيره، لكن هذا لم يقصده بعض الناس ممن لا يكون عارفا بالشريعة وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وغايته أن يعذر بجهله، / ويعفو اللّه عنه.وأما من يعرف ما أمر اللّه به ورسوله، وما نهى اللّه عنه ورسوله، فهؤلاء كلهم ليس فيهم من أمر بالسفر لمجرد زيارة قبر، لا نبي ولا غير نبي، بل صرح أكابرهم بتحريم مثل هذا السفر من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم. وإنما قال: إنه مباح غير محرم طائفة من متأخري أصحاب الشافعي وأحمد.
وتنازعوا حينئذ فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، هل يقصر الصلاة؟ على قولين، كما ذكر في جواب الفتيا. وبعضهم فرق بين قبور الأنبياء وغيرهم، وقال: إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم، كما هو مذهب مالك وأصحابه وقول المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد. فهؤلاء عندهم أن العاصي بسفره لا يقصر الصلاة. فعلى قولهم لا تقصر الصلاة، لكن الذين يسافرون لا يعلمون أن هذا محرم، ومن علم أنه محرم لم يفعله، فإنه لا غرض لمسلم أن يتقرب إلى اللّه بالمحرم. وحينئذ فسفرهم الذي لم يعلموا أنه محرم إذا قصروا فيه الصلاة كان ذلك جائزاً ولا إعادة عليهم، كما لو سافر الرجل لطلب العلم أو سماع الحديث من شخص فوجده كذابا أو جاهلا، فإن قصر الصلاة في مثل هذا السفر جائز.
وقد ذكر أصحاب أحمد في السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل تقصر فيها الصلاة؟ أربعة أقوال: قيل: لا يقصر مطلقا. وقيل: يقصر مطلقا ./ وقيل: لا يقصر إلا إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يقصر إلا إلى قبره المكرم وقبور الأنبياء دون قبور الصالحين، والذين استثنوا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لقولهم وجهان:
أحدهما ـ وهو الصحيح ـ: أن السفر المشروع إليه هو السفر إلى مسجده، وهذا السفر تقصر فيه الصلاة بإجماع المسلمين. وهؤلاء راعوا مطلق السفر، ولم يفصلوا بين قصد وقصد؛ إذ كان عامة المسلمين لابد أن يصلوا في مسجده، فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل. وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي. فمن نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوفي بنذره، وإن نذر قبر غيره فوجهان. وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده؛ إذ كان كل مسلم لابد إذا أتي الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده، فهما عندهم متلازمان. ثم من هؤلاء من يقول: المسلم لابد أن يقصد في ابتداء السفر الصلاة في مسجده، فالسفر المأمور به لازم، وهؤلاء لم يسافروا لمجرد القبر. ومنهم من قال: بل السفر لمجرد قصد القبر جائز، وظن هؤلاء أن الاستثناء ليس لخصوصه بل لكونه نبيا فقال: تقصر الصلاة في السفر إلى قبور الأنبياء دون غيرهم.
وحقيقة الأمر: أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر، / فكل من سافر إلى قبره المكرم لابد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة في مسجده. وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضاً، إذا لم يعلم أنه منهى عنه. وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر، ثم إنه لابد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك. وما فعله وهو منهى عنه ولم يعلم أنه منهى عنه لا يعاقب عليه، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر، بخلاف السفر إلى قبر غيره، فإنه ليس عنده شيء يشرع السفر إليه، لكن قد يفعل هذا طاعة يثاب عليها ويغفر له ما جهل أنه محرم.
والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهى عنها مطلقا، بخلاف مسجده، فإن الصلاة فيه بألف صلاة؛ فإنه أسس على التقوي، وكان حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار، والعبادة فيه إذ ذاك أفضل وأعظم مما بقي بعد إدخال الحجرة فيه، فإنها إنما أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة في إمارة الوليد بن عبد الملك، وهو تولي سنة بضع وثمانين من الهجرة النبوية، كما تقدم.
وظن بعضهم أن الاستثناء لكونه نبيا، فعدي ذلك فقالوا: يسافر / إلى سائر قبور الأنبياء كذلك.
ولهذا تنازع الناس: هل يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة. فذهب جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ـ في أحد قوليه ـ إلى أنه لا يحلف بالنبي، ولا تنعقد اليمين، كما لا يحلف بشيء من المخلوقات، ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث، فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لا تحلفوا إلا باللّه). وقال: (من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت). وفي السنن: (من حلف بغير اللّه فقد أشرك). وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه يجب الإيمان به خصوصا، ويجب ذكره في الشهادتين والأذان. فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره. وقال ابن عقيل: بل هذا لكونه نبيا. وطرد ذلك في سائر الأنبياء، مع أن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ.
والنهي عن ذلك نهى تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، كما تقدم، حتى إن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما يقول أحدهم: لأن أحلف باللّه كاذباً أحب اليمن أن / أحلف بغير اللّه صادقاً. وفي لفظ: لأن أحلف باللّه كاذباً أحب إلى من أن أضاهي. فالحلف بغير اللّه شرك، والشرك أعظم من الكذب. وغاية الكذب أن يشبه بالشرك. كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك باللّه) قالها مرتين أو ثلاثاً. وقرأ قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30، 31]، وهذا المنهى عنه، بل المحرم ـ الذي هو أعظم من اليمين الفاجرة عند الصحابة رضوان اللّه عليهم ـ قد ظن طائفة من أهل العلم أنه مشروع غير منهى عنه؛ ولهذا نظائر كثيرة، لكن قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، وما أمر اللّه ورسوله به فهو الحق.
وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله، وعـن الصلاة عنـد طلـوع الشمس وغـروبها، وعن اتخاذ القبـور مساجـد، واتخاذ قبره عيدًا، ونهى عـن السفر إلى غـير المساجـد الثلاثة، وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين للّه. وعبادة اللّه وحده لا شريك له. فهذا كله محافظة /على توحيد اللّه عز وجل، وأن يكون الدين كله للّه، فلا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعي إلا هو، ولا يتقي إلا هو، ولا يصلي ولا يصام إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يحج إلا إلى بيته. فالحج الواجب ليس إلا إلى أفضل بيوته. وأقدمها، وهو المسجد الحرام. والسفر المستحب ليس إلا إلى مسجدين لكونهما بناهما نبيان.فالمسجد النبوي مسجد المدينة أسسه على التقوي خاتم المرسلين، ومسجد إيليا قد كان مسجداً قبل سليمان. ففي الصحيحين عن أبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ قلت: يا رسول اللّه، أي مسجد وضع أولاً؟ قال: (المسجد الحرام). قال: قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصي). قلت: كم بينهما ؟ قال: (أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه لك مسجد). وفي لفظ البخاري: (فإن فيه الفضل). وهذه سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كان يصلي حيث أدركته الصلاة. فالمسجد الأقصي كان من عهد إبراهيم ـ عليه السلام ـ لكن سليمان ـ عليه السلام ـ بناه بناء عظيما. فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس.
فلما كانت الأنبياء ـ عليهم السلام ـ تقصد الصـلاة في هـذين المسجدين شرع السفر إليهما للصلاة فيهما والعبادة، اقتداء بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ وتأسيا بهم. كما أن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ /لما بني البيت وأمره اللّه تعالى أن يؤذن في الناس بحجه، فكانوا يسافرون إليه من زمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولم يكن ذلك فرضا على الناس في أصح القولين، كما لم يكن ذلك مفروضاً في أول الإسلام، وإنما فرضه اللّه على محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما نزلت سورة [آل عمران]. وفي البقرة أمر بإتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما؛ ولهذا كان التطوع بهما يوجب إتمامهما عند عامة العلماء. وقيل: إن الأمر بالإتمام إيجاب لهما ابتداء، والأول هو الصحيح. فكذلك المسجد الأقصي ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم بني كلا منهما رسول كريم، ودعا الناس إلى السفر إليهما للعبادة فيهما. ولم يبن أحد من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مسجداً ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة. ولكن كـان لهم مساجـد يصـلون فيها، ولم يدعوا الناس إلى السفـر إليها، كما كـان إبراهيم ـ عليه السلام ـ يصلي في موضعـه، وإنما دعا الناس إلى حج البيت. ولا دعا نبي من الأنبياء إلى السـفر إلى قبره ولا بيته ولا مقامه ولا غير ذلك من آثاره، بل هم دعوا إلى عبادة اللّه وحـده لا شـريك لـه، قـال تعالى لمـا ذكرهـم: {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 88 - 90].
ونهى ـ سبحانه ـ أن يضرب له مثل بالمخلوق، فلا يشبه بالمخلوق الذي / يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23].
ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه، وشفاعته أعظم الشفاعات، وجاهه عند اللّه أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم، ثم من نوح، ثم من إبراهيم، ثم من موسي، ثم من عيسي، كل واحد يحيلهم على الآخر، فإذا جاؤوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد، عَبْدٌ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: (فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). قال: (فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة) الحديث.
فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال؛ كما ينكرها الخوارج والمعتزلة. ومن قال: إن مخلوقا يشفع عند اللّه بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 108، 109]، وقال تعالى: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]، وقال تعالى:{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]. ومثل هذا في القرآن كثير. فالدين هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يؤمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله من الأعمال والأشخاص. واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالفرقان، ففرق بين هذا وهذا، فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق اللّه بينه.
فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصي أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلي في مسجده، وصلي في مسجد قباء، وزار القبور ـ كما مضت به سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولاسلم عليه في الصلاة، بل أتي القبر ثم رجع، فهذا مبتدع /ضال، مخالف لسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولإجماع أصحابه، ولعلماء أمته. وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني: أنه لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين.
وقد ذكرت هذا في المناسك، وفي الفتيا، وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا، مع أن فيه نزاعا؛ إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقاً، ومنهم من يكرهها مطلقاً، كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي، ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجلة التابعين. ونقل ذلك عن مالك. وعنه أنها مباحة ليست مستحبة. وهو أحد القولين في مذهب أحمد؛ لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور: أن الزيارة الشرعية مستحبة. وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم، فيسلم عليهم ويدعو لهم. وتزار قبور الكفار؛ لأن ذلك يذكر الآخرة.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق، وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور في حق الرسول في الصلوات الخمس، وعند دخول المساجد والخروج منها، وعند الأذان، وعند كل دعاء.وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد، / ونهى أن يتخذ قبره عيداً، وسأل اللّه ألا يجعله وَثَنًا يعْبَد. فمنع أحد أن يدخل إلى قبره فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره. وكل ما يفعل في مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه اللّه وفضله به على غيره، وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره ـ وإن كان جائزاً.
وأما [اتخاذ القبور مساجد] فهذا ينهى عنه عند كل قبر، وإن كان المصلي إنما يصلي للّه ولا يدعو إلا اللّه. فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة؟!
وأما إذا قدر أن من أتي المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتي القبر ثم رجع، فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمالك وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أحداً من علماء المسلمين استحب مثل هذا، بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير أن يقصد الصلاة في المسجد، وجعلوا هذا من السفر المنهى عنه. ولا كان أحد من السلف يفعل هذا، بل كان الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه واجتمعوا بخلفائه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، يسلمون عليه ويصلون عليه في الصلاة، ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه. ولم / يكونوا يذهبون إلى القبر. وهذا متواتر عنهم، لا يقدر أحد أن ينقل عنهم أو عن واحد منهم أنه كان إذا صلي خلف الخلفاء الراشدين يذهب في ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها. وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم.
فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم في الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره، فكيف يقصدون أن يسافروا إليه؟ أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة في المسجد؟ ومن قال: إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين، ثم إذا نقله يكون قائله قد خالف أقوال العلماء كما خالف فاعله فعل الأمة، وخالف سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه وعلماء أمته. قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. و(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي).
وعلماء المسلمين قد ذكروا في مناسكهم استحباب السفر إلى مسجده، وذكروا زيارة قبره المكرم، وما علمت أحداً من المسلمين قال: إنه من لم يقصد إلا زيارة القبر يكون سفره مستحباً، ولو قالوا ذلك في قبر غيره، لكن هذا لم يقصده بعض الناس ممن لا يكون عارفا بالشريعة وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وغايته أن يعذر بجهله، / ويعفو اللّه عنه.وأما من يعرف ما أمر اللّه به ورسوله، وما نهى اللّه عنه ورسوله، فهؤلاء كلهم ليس فيهم من أمر بالسفر لمجرد زيارة قبر، لا نبي ولا غير نبي، بل صرح أكابرهم بتحريم مثل هذا السفر من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم. وإنما قال: إنه مباح غير محرم طائفة من متأخري أصحاب الشافعي وأحمد.
وتنازعوا حينئذ فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، هل يقصر الصلاة؟ على قولين، كما ذكر في جواب الفتيا. وبعضهم فرق بين قبور الأنبياء وغيرهم، وقال: إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم، كما هو مذهب مالك وأصحابه وقول المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد. فهؤلاء عندهم أن العاصي بسفره لا يقصر الصلاة. فعلى قولهم لا تقصر الصلاة، لكن الذين يسافرون لا يعلمون أن هذا محرم، ومن علم أنه محرم لم يفعله، فإنه لا غرض لمسلم أن يتقرب إلى اللّه بالمحرم. وحينئذ فسفرهم الذي لم يعلموا أنه محرم إذا قصروا فيه الصلاة كان ذلك جائزاً ولا إعادة عليهم، كما لو سافر الرجل لطلب العلم أو سماع الحديث من شخص فوجده كذابا أو جاهلا، فإن قصر الصلاة في مثل هذا السفر جائز.
وقد ذكر أصحاب أحمد في السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل تقصر فيها الصلاة؟ أربعة أقوال: قيل: لا يقصر مطلقا. وقيل: يقصر مطلقا ./ وقيل: لا يقصر إلا إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. وقيل: لا يقصر إلا إلى قبره المكرم وقبور الأنبياء دون قبور الصالحين، والذين استثنوا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم لقولهم وجهان:
أحدهما ـ وهو الصحيح ـ: أن السفر المشروع إليه هو السفر إلى مسجده، وهذا السفر تقصر فيه الصلاة بإجماع المسلمين. وهؤلاء راعوا مطلق السفر، ولم يفصلوا بين قصد وقصد؛ إذ كان عامة المسلمين لابد أن يصلوا في مسجده، فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل. وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي. فمن نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوفي بنذره، وإن نذر قبر غيره فوجهان. وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده؛ إذ كان كل مسلم لابد إذا أتي الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده، فهما عندهم متلازمان. ثم من هؤلاء من يقول: المسلم لابد أن يقصد في ابتداء السفر الصلاة في مسجده، فالسفر المأمور به لازم، وهؤلاء لم يسافروا لمجرد القبر. ومنهم من قال: بل السفر لمجرد قصد القبر جائز، وظن هؤلاء أن الاستثناء ليس لخصوصه بل لكونه نبيا فقال: تقصر الصلاة في السفر إلى قبور الأنبياء دون غيرهم.
وحقيقة الأمر: أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر، / فكل من سافر إلى قبره المكرم لابد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة في مسجده. وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضاً، إذا لم يعلم أنه منهى عنه. وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر، ثم إنه لابد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك. وما فعله وهو منهى عنه ولم يعلم أنه منهى عنه لا يعاقب عليه، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر، بخلاف السفر إلى قبر غيره، فإنه ليس عنده شيء يشرع السفر إليه، لكن قد يفعل هذا طاعة يثاب عليها ويغفر له ما جهل أنه محرم.
والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهى عنها مطلقا، بخلاف مسجده، فإن الصلاة فيه بألف صلاة؛ فإنه أسس على التقوي، وكان حرمته في حياته صلى الله عليه وسلم وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار، والعبادة فيه إذ ذاك أفضل وأعظم مما بقي بعد إدخال الحجرة فيه، فإنها إنما أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة في إمارة الوليد بن عبد الملك، وهو تولي سنة بضع وثمانين من الهجرة النبوية، كما تقدم.
وظن بعضهم أن الاستثناء لكونه نبيا، فعدي ذلك فقالوا: يسافر / إلى سائر قبور الأنبياء كذلك.
ولهذا تنازع الناس: هل يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة. فذهب جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ـ في أحد قوليه ـ إلى أنه لا يحلف بالنبي، ولا تنعقد اليمين، كما لا يحلف بشيء من المخلوقات، ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث، فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لا تحلفوا إلا باللّه). وقال: (من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت). وفي السنن: (من حلف بغير اللّه فقد أشرك). وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه يجب الإيمان به خصوصا، ويجب ذكره في الشهادتين والأذان. فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره. وقال ابن عقيل: بل هذا لكونه نبيا. وطرد ذلك في سائر الأنبياء، مع أن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ.
والنهي عن ذلك نهى تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، كما تقدم، حتى إن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما يقول أحدهم: لأن أحلف باللّه كاذباً أحب اليمن أن / أحلف بغير اللّه صادقاً. وفي لفظ: لأن أحلف باللّه كاذباً أحب إلى من أن أضاهي. فالحلف بغير اللّه شرك، والشرك أعظم من الكذب. وغاية الكذب أن يشبه بالشرك. كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك باللّه) قالها مرتين أو ثلاثاً. وقرأ قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30، 31]، وهذا المنهى عنه، بل المحرم ـ الذي هو أعظم من اليمين الفاجرة عند الصحابة رضوان اللّه عليهم ـ قد ظن طائفة من أهل العلم أنه مشروع غير منهى عنه؛ ولهذا نظائر كثيرة، لكن قال اللّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، وما أمر اللّه ورسوله به فهو الحق.
وهو صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله، وعـن الصلاة عنـد طلـوع الشمس وغـروبها، وعن اتخاذ القبـور مساجـد، واتخاذ قبره عيدًا، ونهى عـن السفر إلى غـير المساجـد الثلاثة، وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين للّه. وعبادة اللّه وحده لا شريك له. فهذا كله محافظة /على توحيد اللّه عز وجل، وأن يكون الدين كله للّه، فلا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعي إلا هو، ولا يتقي إلا هو، ولا يصلي ولا يصام إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يحج إلا إلى بيته. فالحج الواجب ليس إلا إلى أفضل بيوته. وأقدمها، وهو المسجد الحرام. والسفر المستحب ليس إلا إلى مسجدين لكونهما بناهما نبيان.فالمسجد النبوي مسجد المدينة أسسه على التقوي خاتم المرسلين، ومسجد إيليا قد كان مسجداً قبل سليمان. ففي الصحيحين عن أبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ قلت: يا رسول اللّه، أي مسجد وضع أولاً؟ قال: (المسجد الحرام). قال: قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصي). قلت: كم بينهما ؟ قال: (أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه لك مسجد). وفي لفظ البخاري: (فإن فيه الفضل). وهذه سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كان يصلي حيث أدركته الصلاة. فالمسجد الأقصي كان من عهد إبراهيم ـ عليه السلام ـ لكن سليمان ـ عليه السلام ـ بناه بناء عظيما. فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس.
فلما كانت الأنبياء ـ عليهم السلام ـ تقصد الصـلاة في هـذين المسجدين شرع السفر إليهما للصلاة فيهما والعبادة، اقتداء بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ وتأسيا بهم. كما أن إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ /لما بني البيت وأمره اللّه تعالى أن يؤذن في الناس بحجه، فكانوا يسافرون إليه من زمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولم يكن ذلك فرضا على الناس في أصح القولين، كما لم يكن ذلك مفروضاً في أول الإسلام، وإنما فرضه اللّه على محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما نزلت سورة [آل عمران]. وفي البقرة أمر بإتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما؛ ولهذا كان التطوع بهما يوجب إتمامهما عند عامة العلماء. وقيل: إن الأمر بالإتمام إيجاب لهما ابتداء، والأول هو الصحيح. فكذلك المسجد الأقصي ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم بني كلا منهما رسول كريم، ودعا الناس إلى السفر إليهما للعبادة فيهما. ولم يبن أحد من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ مسجداً ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة. ولكن كـان لهم مساجـد يصـلون فيها، ولم يدعوا الناس إلى السفـر إليها، كما كـان إبراهيم ـ عليه السلام ـ يصلي في موضعـه، وإنما دعا الناس إلى حج البيت. ولا دعا نبي من الأنبياء إلى السـفر إلى قبره ولا بيته ولا مقامه ولا غير ذلك من آثاره، بل هم دعوا إلى عبادة اللّه وحـده لا شـريك لـه، قـال تعالى لمـا ذكرهـم: {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 88 - 90].
عدد المشاهدات *:
477715
477715
عدد مرات التنزيل *:
264621
264621
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013