باب المواقيت
المواقيت: جمع ميقات، والميقات: ما حدّ ووقّت للعبادة، من زمان ومكان، والتوقيت: التحديد، ولهذا يذكر في هذا الباب ما حده الشارع للإحرام من الأماكن
(عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل المدينة ذا الحُلَيْفَة) بضم الحاء المهملة وبعد اللام مثناة تحتية وفاء: تصغير حلفة، والحلفة: وواحدة الحلفاء نبت في الماء. وهي مكان معروف بينه وبين مكة عشر مراحل، وهي من المدينة على فرسخ، وبها المسجد الذي أحرم منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم والبئر تسمى الآن "بئر علي"، وهي أبعد المواقيت إلى مكة (ولأهل الشام الجُحْفَة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة ففاء سميت بذلك لأن السيل اجتحف أهلها إلى الجبل الذي هنالك، وهي من مكة على ثلاث مراحل، وتسمى "مهيعة" كانت قرية قديمة، وهي الآن خراب، ولذا يحرمون الآن من رابغ قبلها لوجود الماء بها للاغتسال (ولأهل نجد قَرْن المنازل) بفتح القاف وسكون الراء، ويقال له: "قرن الثعالب" بينه وبين مكة مرحلتان (ولأهل اليمن يلملم) بينه وبين مكة مرحلتان (هنّ) أي المواقيت (لهنّ) أي البلدان المذكورة والمراد لأهلها ووقع في بعض الروايات "هنّ لهم"، وفي رواية للبخاري "هنّ لأهلهنّ" (ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك) المذكور من المواقيت (فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة) يحرمون (من مكة) بحج أو عمرة (متفق عليه).
فهذه المواقيت التي عينها صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لمن ذكره من أهل الآفاق، وهي أيضاً مواقيت لمن أتى عليها، وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصداً لإتيان مكة لأحد النسكين، فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلاً إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها، ولا يتركه حتى يصل الجحفة، فإن أخر أساء ولزمه دم هذا عند الجمهور.
وقالت المالكية: إنه يجوز له التأخير إلى ميقاته، وإن كان الأفضل له خلافه، قالوا: والحديث محتمل فإن قوله "هنّ لهنّ" ظاهره العموم لمن كان من أهل تلك الأقطار، سواء ورد على ميقاته أو ورد على ميقات آخر فإن له العدول إلى ميقاته، كما لو ورد الشامي على ذي الحليفة فإنه لا يلزمه الإحرام منها بل يحرم من الجحفة.
وعموم قوله: "ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ" يدل على أنه يتعين على الشامي في مثالنا: أن يحرم من ذي الحليفة لأنه من غير أهلهنّ.
قال ابن دقيق العيد: قوله: "ولأهل الشام الجحفة" يشمل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمرّ وقوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهنّ" يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره، فههنا عمومان قد تعارضا انتهى ملخصاً.
قال المصنف: ويحصل الانفكاك بأن قوله: "هنّ لهنّ"، مفسر لقوله مثلاً: "وقت لأهل المدينة ذا الحليفة" وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها، ومن سلك طريق ميقاتهم فمرّ على ميقاتهم انتهى. قلت: وإن صح ما قد روي من حديث عروة "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة" تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة. ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مرّ بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته، وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض.
ودل قوله: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" على أن من كان بين الميقات ومكة فميقاته حيث أنشأ الإحرام، إما من أهله ووطنه، أو من غيره.
وقوله: "حتى أهل مكة من مكة" دل على أن أهل مكة يحرمون من مكة، وأنها ميقاتهم، سواء كان من أهلها أو من المجاورين أو الواردين إليها، أحرم بحج أو عمرة.
وفي قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" ما يدل أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام، وقد دخل ابن عمر بغير إحرام، ولأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج، والعمرة ــــ عند من أوجبها ــــ إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، ومن قال: إنه لا يجوز مجاوزة الميقات إلا بالإحرام إلا من استثنى من أهل الحاجات كالحطابين فإن له في ذلك آثاراً عن السلف ولا تقوم بها حجة.
فمن دخل مريداً مكة لا ينوي نسكاً من حج ولا عمرة وجاوز ميقاته بغير إحرام، فإن بدا له إراده أحد النسكين أحرم من حيث أراد ولا يلزمه أن يعود إلى ميقاته.
واعلم أن قوله: "حتى أهل مكة من مكة" يدل أن ميقات عمرة أهل مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم، ميقاته مكة ولكن قال المحب الطبري: إنه لا يعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة، وجوابه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم جعلها ميقاتاً لها بهذا الحديث، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: "يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر" وقال أيضاً: "من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم" فآثار موقوفة لا تقاوم المرفوع، وأما ما ثبت من أمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لعائشة بالخروج إلى التنعيم بعمرة فلم يرد إلا تطييب قلبها بدخولها إلى مكة معتمرة كصواحباتها، لأنها أحرمت بالعمرة معه ثم حاضت فدخلت مكة ولم تطف بالبيت كما طفن، كما يدل له قولها قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال: "انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه". الحديث، فإنه محتمل أنها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة ويدل أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة ومع الاحتمال لا يقاوم حديث الكتاب، وقد قال طاوس: لا أدري الذي يعتمرون من التنعيم يؤجرون أو يعذبون، قيل له: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف كان أعظم أجراً من أن يمشي في غير ممشى، إلا أن كلامه في تفضيل الطواف على العمرة.
قال أحمد: العمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف، ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف، وعند أصحاب أحمد أن المكي إذا أحرم للعمرة من مكة كانت عمرة صحيحة قالوا: ويلزمه دم لما ترك من الإحرام من الميقات. قلت: ويأتيك أن إلزامه الدم لا دليل عليه.
عدد المشاهدات *:
547490
547490
عدد مرات التنزيل *:
0
0
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013