هذا أول الكلام في النذور. والنذر لغة: التزام خير أو شر، وفي الشرع التزام المكلف شئاً لم يكن عليه منجزاً أو معلقاً، واختلف العلماء في هذا النهي، فقيل: هو على ظاهره، وقيل: بل متأوّل.
قال ابن الأثير في النهاية: تكرّر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال لحكمه وإسقاط للزوم الوفاء به، إذا كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجرِ لهم في العاجل نفعاً؛ ولا يصرف عنهم ضراً ولا يردّ قضاء فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئاً لم يقدّره الله تعالى لكم، أو تصرفون به عنكم ما قدّر عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم ا هــــ.
وقال المازري بعد نقل معناه عن بعض أصحابه: وهذا عندي بعيد عن ظاهر الحديث. قال: ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقرب مستثقلاً لها لما صارت عليه ضربة لازب، فلا ينشط العقل نشاط مطلق الاختيار، أو لأن الناذر يصير القربة كالعوض عن الذي نذر لأجله فلا تكون خالصة ويدل عليه قوله: "إنه لا يأتي بخير". وقال القاضي عياض: إن المعنى أنه يغالب القدر، والنهي لخشية أن يقع في ظن بعض الجهلة ذلك. وقوله: "لا يأتي بخير" معناه أن عقباه لا تحمد. وقد يتعذر الوفاء به وأن لا يكون سبباً لخير لم يقدر فيكون مباحاً.
وذهب أكثر الشافعية ــــ ونقل عن المالكية ــــ إلى أن النذر مكروه لثبوت النهي. واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضرراً بما التزم. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية أنها كراهة تحريم، ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم من الصحابة. وقال ابن المبارك: يكره النذر في الطاعة والمعصية، فإن نذر بالطاعة ووفى به كان له أجر. وذهب النووي في شرح المهذب إلى أن النذر مستحب، وقال المصنف: وأنا أتعجب ممن أطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت النهي الصريح فأقل درجاته أن يكون مكروهاً.
قال ابن العربي: النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يردّ القدر لكنه من القدر، وقد ندب إلى الدعاء ونهى عن النذر لأن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والخضوع والتضرع، والنذر فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول، وترك العمل إلى حين الضرورة ا هــــ.
قلت: القول بتحريم النذر هو الذي دل عليه الحديث، ويزيد تأكيداً تعليله بأنه لا يأتي بخير، فإنه يصير إخراج المال فيه من باب إضاعة المال، وإضاعة المال محرمة، فيحرم النذر بالمال كما هو ظاهر قوله: "وإنما يستخرج به من البخيل". وأما النذر بالصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ونحوها من الطاعات فلا تدخل في النهي، ويدل له ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يوفون بالنذر} قال: كانوا ينذرون طاعات من الصلاة والصيام وسائر ما افترض الله عليهم. وهو وإن كان أثراً فهو يقوّيه ما ذكر في سبب نزول الآية.
هذا وأما النذور المعروفة في هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام في تحريمها. لأن الناذر يعتقد في صاحب القبر أنه ينفع ويضر، ويجلب الخير ويدفع الشر، ويعافي الأليم، ويشفي السقيم، وهذا هو الذي كاني فعله عباد الأوثان بعينه، فيحرم كما يحرم النذر على الوثن. ويحرم قبضه، لأنه تقرير على الشرك. ويجب النهي عنه وإبانة أنه من أعظم المحرّمات، وأنه الذي كان يفعله عبّاد الأصنام، لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وصارت تعقد اللواءات لقباض النذور على الأموات، ويجعل للقادمين إلى محل الميت الضيافات. وينحر في بابه النحائر من الأنعام. وهذا هو بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أشبعنا الكلام في هذا في رسالة "تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد".
والحديث ظاهر في النهي عن النذر مطلقاً، ما ينذر به ابتداء كمن ينذر أن يخرج من ماله كذا، وما يتقرّب به معلقاً، كأن يقول: إن قدم زيد تصدّقت بكذا.
عدد المشاهدات *:
548391
548391
عدد مرات التنزيل *:
0
0
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013