ثم ان الباطنية لهم فى اصطياد الاغنام ودعوتهم الى بدعتهم حيل على مراتب سموها التفرس والتأنيس والتشكيك والتعليق والربط والتدليس والتأسيس والمواثيق بالايمان والعهود وآخرها الخلع والسلخ.
فاما التفرس فانهم قالوا من شرط الداعى الى بدعتهم ان يكون قويا على التلبيس وعارفا بوجوه تأويل الظواهر ليردها الى الباطن ويكون مع ذلك مخبرا بين من يجوز من يطمع فيه وفى اغوائه وبين من لا مطمع فيه ولهذا قالوا فى وصاياهم للدعاة الى بدعتهم لا تتكلموا فى بيت فيه سراج بعنون بالسراج من يعرف علم الكلام ووجوه النظر والمقاييس وقالوا ايضا لدعاتهم لا تطرحوا بذركم فى ارض سبخة وارادوا بذلك منع دعاتهم عن اظهار بدعتهم عند من لا يؤثر فيهم بدعتهم كما لا يؤثر البذر فى الارض السبخة شيئا وسموا قلوب اتباعهم الاغنام ارضا زاكية لانها تقبل بدعتهم وهذا المثل بالعكس اولى وذلك ان القلوب الزاكية هى القابلة للدين القويم والصراط المستقيم وهى التى لا تصدأ بشبه اهل الضلال كالذهب الابريز الذى لا يصدأ فى الماء ولا يبلى فى التراب ولا ينقص فى النار والارض السبخة كقلوب الباطنية وسائر الزنادقة الذين لا يزجرهم عقل ولا يردعهم شرع منهم ارجاس أنجاس أموات غير أحياء : ان هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا ، قد قسم لهم الحظ من الرزق من قسم رزق الخنازير فى مراعيها وأباح طعمه العنب فى براريها : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
وقالوا ايضا من شرط الداعى الى مذهبهم ان يكون عارفا بالوجوه التي تدعى بها الاصناف فليست دعوة الاصناف من وجه واحد بل لكل صنف من الناس وجهه يدعى منه الى مذهب الباطن.
فمن رآه الداعى مائلا الى العبادات حمله على الزهد والعبادة ثم سأله عن معانى العبادات وعلل الفرائض وشككه فيها.
ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له العبادة باله وحماقته وانما الفطنة فى نيل اللذات وتمثل له بقول الشاعر:
من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسور
ومن رآه شكا فى دينه او فى المعاد والثواب والعقاب صرح له بنفى ذلك وحمله على استباحة المحرمات واستروح معه الى قول الشاعر الماجن:
أأترك لذة الصهباء صرفا لما وعدوه من لحم وخمر
حياة ثم موت ثم نشر حديث خرافة يا ام عمرو
ومن رآه من غلاة الرافضة كالسبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية لم يحتج معه الى تأويل الآيات والاخبار لانهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم.
ومن رآه من الرافضة زيديا او اماميا مائلا الى الطعن فى اخبار الصحابة دخل عليه من جهة شتم الصحابة وزين له بغض بنى تيم لأن ابا بكر منهم وبغض بنى عدى لان عمر بن الخطاب كان منهم وحثه على بغض بنى أمية لانه كان منهم عثمان ومعاوية وربما استروح الباطنى فى عصرنا هذا الى قول اسماعيل بن عباد:
دخول النار فى حب الوصى وفى تفضيل أولاد النبى
أحب الى من جنات عدن اخلدها بتيم أو عدى
قال عبد القاهر قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه:
أتطمع فى دخول جنات عدن وأنت عدو تيم أو عدى
وهم تركوك أشقى من ثمود وهم تركوك أفضح من دعى
وفى نار الجحيم غدا ستصلى اذا عاداك صديق النبي
ومن رآه الداعى مائلا الى أبى بكر وعمر مدحهما عنده وقال لهما حظ فى تأويل الشرعية ولهذا استصحب النبى أبا بكر الى الغار ثم الى المدينة وأفضى اليه فى الغار تأويل شريعته فاذا سأله الموالى لأبى بكر وعمر عن التأويل المذكور لأبى بكر وعمر اخذ عليه العهود والمواثيق فى كتمان ما يظهره له ثم ذكر له على التدريج بعض التأويلات فان قبلها منه اظهر له الباقى وان لم يقبل منه التأويل الاول ربطه فى الباقى وكتمه عنه وشك الغر من أجل ذلك فى اركان الشريعة.
والذين يروج عليهم مذهب الباطنية أصناف احدها العامة الذين قتلت بصائرهم بأصول العلم والنظر كالنبط والاكراد وأولاد المجوس.
والصنف الثانى الشعوبية الذين يرون تفضيل العجم على العرب ويتمنون عود الملك الى العجم.
والصنف الثالث اغنام بنى ربيعة من اجل غيظهم على مضر لخروج النبى منهم ولهذا قال عبد الله بن خازم السلمى فى خطبته بخراسان ان ربيعة لم تزل غضابا على الله مذ بعث نبيه من مضر ومن أجل حسد ربيعة لمضر بايعت بنو حنيفة مسيلمة الكذاب طمعا فى ان يكون فى بنى ربيعة نبى كما كان من بنى مضر نبى فاذا استأنس الاعجمى الغر او الربعى الحاسد المطز يقول الباطنى له قومك أحق بالملك من مضر سأله عن السبب فى عود الملك الى قومه فاذا سأله عن ذلك قال له ان الشريعة المضرية لها نهاية وقد دنا انقضاؤها وبعد انقضائها يعود الملك اليكم ثم ذكر له تأويل إنكار شريعة الاسلام على التدريج فاذا قبل ذلك منه صار ملحدا خرسا واستثقل العبادات واستطاب استحلال المحرمات فهذا بيان درجة التفرس منهم.
ودرجة التأنيس قربية من درجة التفرس عندهم وهى تزيين ما عليه الانسان من مذهبه فى عينه ثم سؤاله بعد ذلك عن تأويل ما هو عليه وتشكيكه اياه فى اصول دينه فاذا سأله المدعو عن ذلك قال علم ذلك عند الامام ووصل بذلك منه الى درجة التشكيك حتى صار المدعو الى اعتقاد ان المراد بالظواهر والسنن غير مقتضاها فى اللغة وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات وترك العبادات.
والربط عندهم تعليق نفس المدعو بطلب تأويل اركان الشريعة فإما ان يقبل منهم تأويلها على وجه يؤول الى رفعها وإما ان يبقى على الشك والحيرة فيها.
ودرجة التدليس منهم قولهم للغر الجاهل بأصول النظر والاستدلال ان الظواهر عذاب وباطنها فيه الرحمة وذكر له قوله فى القرآن : فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، فاذا سألهم الغر عن تأويل باطن الباب قالوا جرت سنة الله تعالى فى أخذ العهد والميثاق على رسله ولذلك قال : واذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، وذكروا له قوله : ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ، فاذا حلف الغر لهم بالايمان المغلظة وبالطلاق والعتق وبسبيل الاموال فقد ربطوه بها وذكروا له من تأويل الظواهر ما يؤدى الى رفعها بزعمهم فان قبل الاحمق ذلك منهم دخل فى دين الزنادقة باطلا واستتر بالاسلام ظاهرا وان نفر الحالف عن اعتقاد تأويلات الباطنية الزنادقة كتمها عليهم لانه قد حلف لهم على كتمان ما اظهروه لهم من اسرارهم واذا قبلها منهم فقد حلفوه وسلخوه عن دين الاسلام وقالوا له حينئذ ان الظاهر كالقشر والباطن كاللب واللب خير من القشر.
قال عبد القاهر حكى له بعض من كان دخل فى دعوة الباطنية ثم وفقه الله تعالى لرشده وهداه الى حل ايمانهم أنهم لما وثقوا منه بايمانه قالوا له ان المسمين بالانبياء كنوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخاريق احبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم.
قال هذا الحاكى لى ثم ناقض الذى كشف لى هذا السر بان قال له ينبغى أن تعلم أن محمد بن اسماعيل بن جعفر هو الذى نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له : إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى ، قال فقلت سخنت عينك تدعونى الى الكفر برب قديم الخالق للعالم ثم تدعونى مع ذلك الى الاقرار بربوبية انسان مخلوق وتزعم انه كان قبل ولادته الها مرسلا لموسى فان كان موسى عندك رازقا فالذى زعمت انه ارسله اكذب فقال لى انك لا تفلح أبدا وندم على افشاء اسراره الى وتبت من بدعتهم.
فهذا بيان وجه حيلهم على اتباعهم وأما ايمانهم فان داعيهم يقول للحالف جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسله وما أخذ الله تعالى من النبيين من عهد وميثاق انك تستر ما تسمعه منى وما تعلمه من امرى ومن أمر الامام الذى هو صاحب زمانك وأمر أشياعه واتباعه فى هذا البلد وفى سائر البلدان وامر المطيعين له من الذكور والاناث فلا تظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا ولا تظهر شيئا يدل عليه من كتابة او اشارة إلا ما أذن لك فيه الامام صاحب الزمان او أذن لك فى اظهاره المأذون له فى دعوته فتعمل فى ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك وألزمته نفسك فى حالتى الرضاء والغضب والرغبة والرهبة قال نعم فاذا قال نعم قال له وجعلت على نفسك أن تمنعنى وجميع من اسميه لك مما تمنع منه نفسك بعهد الله تعالى وميثاقه عليك وذمته وذمة رسله وتنصحهم نصحا ظاهرا وباطنا وألا تخون الامام وأولياءه واهل دعوته فى أنفسهم ولا فى أموالهم وأنك لا تتأول فى هذه الايمان تأويلا ولا تعتقد ما يحلها وإنك إن فعلت شيئا من ذلك فانت برىء من الله ورسله وملائكته ومن جميع ما أنزل الله تعالى من كتبه وانك ان خالفت فى شىء مما ذكرناه لك فلله عليك ان تحج الى بيته مائة حجة ماشيا نذرا واجبا وكل ما تملكه فى الوقت الذى أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين وكل مملوك يكون فى ملكك يوم تخالف فيه او بعده يكون حرا وكل امرأة لك الآن او يوم مخالفتك او تتزوجها بعد ذلك تكون طالقا منك ثلاث طلقات والله تعالى الشاهد على نيتك وعقد ضميرك فيما حلفت به فاذا قال نعم قال له كفى بالله شهيدا بيننا وبينك فاذا حلف الغر بهذه الايمان ظن انه لا يمكن حلها ولن يعلم الغر انه ليس لايمانهم عندهم مقدار ولا حرمة وانهم لا يرون فيها ولا فى حلها إثما ولا كفارة ولا عارا ولا عقابا فى الآخرة وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة وهم لا يقرون بإله قديم بل يقرون بحدوث العالم ولا يثبتون كتابا منزلا من السماء ولا رسولا ينزل عليه الوحي من السماء وكيف يكون لايمان المسلمين عندهم حرمة ومن دينهم أن الله الرحمن الرحيم انما هو زعيمهم الذي يدعو اليه ومن مال منهم الى دين المجوس زعم أن الإله نور بازائه شيطان قد غلبه ونازعه فى ملكه وكيف يكون لنذر الحج والعمرة عندهم مقدار وهم لا يرون للكعبة مقدارا ويسخرون بمن يحج ويعتمر وكيف يكون للطلاق عندهم حرمة وهم يستحلون كل امرأة من غير عقد فهذا بيان حكم الايمان عندهم
فأما حكم الايمان عند المسلمين فإنا نقول كل يمين يحلف بها الحالف ابتداء بطوع نفسه فهو على نيته وكل يمين يحلف بها عند قاض او سلطان يحلفه ينظر فيها فان كانت يمينا فى دعوى لمدع شيئا على الحالف المنكر وكان المدعى ظالما للمدعى عليه فيمن الحالف على نيته وان كان المدعى محقا والمنكر ظالما للمدعى فيمين المنكر على نية القاضى او السلطان الذي أحلفه ويكون الحالف خائنا فى يمينه.
واذا صحت هذه المقدمة فالباحث عن دين الباطنية اذا قصد اظهار بدعتهم للناس او اراد النقض عليهم معذور فى يمينه وتكون يمينه على نيته فاذا استثنى بقلبه مشيئة الله تعالى فيها لم ينعقد عليه ايمانه ولم يحنث فيها باظهاره أسرار الباطنية للناس ولم تطلق نساؤه ولا تعتق مماليكه ولا تلزمه صدقة بذلك وليس زعيم الباطنية عند المسلمين إماما ومن اظهر سره لم يظهر سر امام وانما اظهر سر كافر زنديق وقد جاء فى ذكر الحديث المأثور اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس فهذا بيان حيلتهم على الاغمار بالايمان.
فاما احتيالهم على الأغمار بالتشكيك فمن جهة أنهم يسألونهم عن مسائل من احكام الشريعة يوهمونهم فيها خلاف معانيها الظاهرة وربما سألوهم عن مسائل فى المحسوسات يوهمون ان فيها علوما لا يحيط بها إلا زعيمهم فمن مسائلهم قول الداعى منهم للغر لم صار للانسان أذنان ولسان واحد ولم صار للرجل ذكر واحد وخصيتان ولم صارت الأعصاب متصلة لدماغ والأوراد متصلة بالكبد والشرايين متصلة بالقلب ولم صار الانسان مخصوصا بنبات الشعر على جفنيه الأعلى والاسفل وسائر الحيوان ينبت الشعر على جفنه الأعلى دون الاسفل ولم صار ثدى الانسان على صدره وثدى البهائم على بطونها ولماذا لم يكن للفرس غدد ولا كرش ولا كعب وما الفرق بين الحيوان الذى يبيض ولا يلد ولا يبيض وبماذا يميز بين السمكة النهرية والسمكة البحرية ونحو هذا كثير يوهمون ان العلم بذلك عند زعيمهم.
ومن مسائلهم فى القرآن سؤالهم عن معاني حروف الهجاء فى أوائل السور كقوله الم وحم وطس وبس وطه وكهيعص وربما قالو ما معنى كل حرف من حروف الهجاء ولم صارت حروف الهجاء تسعة وعشرين حرفا ولم عجم بعضها بالنقط وخلا بعض من النقط ولم جاز وصل بعضها بما بعدها بحرف وربما للغر ما معنى قوله : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، ولم جعل الله تعالى أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة ؟ وما معنى قوله : عليها تسعة عشر ، ومافائدة هذا العدد ؟ وربما سألوا عن آيات أوهموا فيها التناقض، وزعموا انه لا يعرف تأويلها الا زعيمهم، كقوله : يومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، مع قوله فى موضع آخر : فوربك لنسألنهم أجمعين.
ومنها مسائلهم فى أحكام الفقه كقولهم لم صارت صلاة الصبح ركعتين والظهر اربعا والمغرب ثلاثا ولم صار فى كل ركعة ركوع واحد وسجدتان ولم كان الوضوء على اربعة اعضاء والتيمم على عضوين ولم وجب الغسل من المنى وهو عند اكثر المسلمين طاهر ولم يجب الغسل من البول مع نجاسته عند الجميع ولم أعادت الحائض ما تركت من الصيام ولم تعد ما تركت من الصلاة ولم كانت العقوبة فى السرقة بقطع اليد وفى الزنى بالجلد وهلا قطع الفرج الذى به زنى فى الزنى كما قطعت اليد التى بها سرق فى السرقة فاذا سمع الغر منهم هذه الاسئلة ورجع اليهم فى تأويلها قالوا له علمها عند امامنا وعند المأذون له فى كشف أسرارنا فاذا تقرر عند الغر ان امامهم او ما دونه هو العالم بتأويله اعتقد ان المراد بظواهر القرآن والسنة غير ظاهرها فاخرجوه بهذه الحيلة عن العمل باحكام الشريعة فاذا اعتاد ترك العبادة واستحل المحرمات كشفوا له القناع وقالوا له لو كان لنا اله قديم غنى عن كل شىء لم يكن له فائدة فى ركوع العباد وسجودهم ولا فى طوافهم حول بيت من حجر ولا فى سعى بين جبلين فاذا قبل منهم ذلك فقد انسلخ عن توحيد ربه وصار جاحدا له زنديقا.
قال عبد القاهر والكلام عليهم فى مسائلهم التي يسألون عنها عند قصدهم الى تشكيك الاغمار فى اصول الدين من وجهين:
أحدهما أن يقال لهم انكم لا تخلون من أحد أمرين اما أن تقروا بحدوث العالم وتثبتوا له صانعا قديما عالما حكيما يكون له تكليف عباده ما شاء كيف شاء وإما ان تنكروا ذلك وتقولوا بقدم العالم ونفى الصانع فان اعتقدتم قدم العالم ونفى الصانع فلا معنى لقولكم لم فرض الله كذا ولم حرم كذا ولم خلق كذا ولم جعل كذا على مقدار كذا اذا لم تقروا باله فرض شيئا أو حرمه او خلق شيئا او قدره ويصير الكلام بيننا وبينكم كالكلام بيننا وبين الدهرية فى حدوث العالم وإن أقررتم بحدوث العالم وتوحيد صانعه وأجزتم له تكليف عباده ما شاء من الاعمال كان جواز ذلك جوابا لكم عن قولكم لم فرض ولم حرم كذا لاقراركم بجواز ذلك منه إن أقررتم به ويجواز تكليفه وكذلك سؤالهم عن خاصية المحسوسات يبطل إن أقروا بصانع احدثها وان أنكرواالصانع فلا معنى لقولهم لم خلق الله ذلك مع انكارهم أن يكون لذلك صانع قديم.
والوجه الثانى من الكلام عليهم فيما سألوا عنه من عجائب خلق الحيوان ان يقال لهم كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك وقد ذكرته الاطباء والفلاسفة فى كتبهم وصنف ارسطا طاليس فى طبائع الحيوان كتابا وما ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئا إلا مسروقا من حكماء العرب الذين كانوا قبل زمان الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الاصناف الحميرية وقد ذكرت العرب فى اشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان ولم يكن فى زمانها باطنى ولا زعيم للباطنية وإنما أخذ ارسطاطاليس الفرق بين ما يلد وما يبيض من قول العرب فى أمثالها كل شرقاء ولود وكل صكاء بيوض ولهذا كان الخفاش من الطير ولودا لا يبوضا لان لها أذنا شرقاء وكل ذات أذن صكاء بيوض كالحية والضب والطيور البائضة.
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى وعبد الملك بن قريب الأصمعى أن العرب قالت بتحريمها فى الجاهلية أن كل حيوان لعينيه أهداب على الجفن الأعلى دون الاسفل لا الانسان فان اهدابه على الجفن الأعلى والاسفل وقالوا كل حيوان ألقى فى الماء يسبح فيه إلا الإنسان والقرد والفرس الاعسر فانه يغرق فيه إلا أن يتعلم الانسان السباحة.
وقالوا في الانسان انه اذا قطع رأسه وألقى فى الماء انتصب قائما فى وسط الماء وقالوا كل طائر كفه فى رجليه وكف الانسان والقرد فى اليد وكل ذى أربع ركبته فى يده وركبتا الانسان فى رجليه وقالوا ليس للفرس غدد ولا كرش ولا طحال ولا كعب وليس للبعير مرارة وليس للظليم مخ وكذلك طير الماء وحيتان البحر ليس لها ألسن ولا أدمغة وقد يكون حوت النهر ذا لسان ودماغ وقالوا ان السموك كلها لا رئة لها كذلك ولا تتنفس وقالت العرب من تجاربها ان الضأن تضع فى السنة مرة وتفرد ولا تتيم والماعز تضع فى السنة مرتين وتضع الواحدة والاثنتين والثلاثة والعدد والنماء والبركة فى الضأن اكثر منها فى الماعز وقالوا ايضا اذا رعت الضان نبتا وفصيلا نبت ولا ينبت ما يأكله الماعز لأن الضأن تقرضه بأسنانها والماعز تقلعه من أصله وقالوا ان الماعز اذا حملت انزلت اللبن اول الحمل الى الضرع والضائنية لا تنزل اللبن الا عند الولادة وقالوا إن اصوات الذكور من كل جنس أجهر من اصوات الاناث الا المعزى فان اصوات اناثها اجهر من اصوات ذكورها.
ومن امثال العرب فى الحيوان فهو لهم كل ثور افطس وكل بعير اعلم وكل ذى ناب افرج وقالوا بالتجربة ان الاسد لا يأكل شيئا حامضا ولا يدنو من النار ولا يدنو من الحامض وقالوا ان حمل الكلب ستون يوما فان وضعت حملها لأقل من ذلك لم تكد اولادها تعيش وقالوا ان اناث الكلاب يحضن لسبعة اشهر ثم ان الكلبة تحيض فى كل سبعة ايام وعلامة حيضها ورم اثغارها وقالوا فى الكلب انه لا يلقى من اسنانه شيئا الا الثامن وقالوا فى الذئب انه ينام باجدى عينيه ويحترس بالاخرى ولذلك قال فيه حميد بن ثور:
ينام باحدى مقلتيه ويتقى باخرى المنايا فهو يقظان نائم
والارنب تنام مفتوحة العينين وقالوا ليس في الحيوان ما لسانه مقلوب الا الفيل وليس في ذوات الاربع ماثديه على صدره الا الفيل وقالوا ان الفيل تضع لسبع سنين والحمار لسنة والبقرة في ذلك كالمرأة وقالوا في قضيب الارنب والثعلب انه عظم وقالوا كل ذى رجلين اذا انكسرت احداهما قام على الاخرى وعرج الا الظليم فانه اذا انكسرت احدى رجليه جثم في مكانه ولهذا قال الشاعر فى نفسه واخيه:
فانى واياه كرجلى نعامة على ما بنامن ذى غنى وذى فقر
يريد لا غنى لأحدهما عن صاحبه وقالوا في النعامة أنها تبيض من ثلاثين بيضة الى اربعين لكنها تخرج ثلاثين منها تحضن عليها كخيط ممدود على الاستواء وربما تركت بيضها وحضنت بيض غيرها ولهذا قال فيها ابن هرمة:
كتاركة بيضها بالعرا وملبسة بيض اخرى جناحا
وقالوا فى الفرج والفروج انهما يخلقان من البياض والصفرة غذاؤهما وقالوا فى القطا انها لا تضع الا فردا وفى العقاب انها تضع ثلاث بيضات فتخرج بيضتين وتطرح واحدة فيخرجها الطير المعروف بكاسى العظام ولهذا قيل فى المثل أبر من كاسى العظام وقالوا فى الضب انها تضع سبعين بيضة ولكنها ولكنها تأكل ما خرج من الحسولة عن البيض إلا الحسل الذى يعدو ويهرب منها ولهذا قالوا فى المثل أعق من ضب والضب لا يرد الماء ولهذا قالوا فى المثل اروى من ضب وقالوا في الضب إنه ذو ذكرين وللأنثى من الضباب فرجان من قبل وقالوا في الحية لها لسانان ولسانها اسود على اختلاف الوان قشرها والحيات كلها تكره ريح السذاب والبنفسج وتعجب بريح التفاح والبطيخ والجرو والخرذل واللبن والخمر وقالوا في الضفادع انها لا تصيح الا وفي افواهها الماء ولا تصيح في دجلة بحال وان صاحت في الفرات وسائر الانهار وقال الشاعر فى الضفدع:
يدخل في الاشداق ما ينضفه حتى ينق والنقيق يتلفه
يعنى ان نقيقها يدل عليها الحية فتصيدها فتأكلها وقالوا ان الضفادع لا عظام لها وقالوا في الجعل انه اذا دفن في الورد سكن كالميت فاذا اعيد الى الروث تحرك.
فهذا وما جرى مجراه من خواص الحيوانات وغيرها قد عرفته العرب في جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها الى زعماء الباطنية بل عرفوها قبل وجود الباطنية في الدنيا باحقاب كثيرة وفي هذا بيان كذب الباطنية في دعواها أن زعماءها مخصصون بمعرفة أسرار الاشياء وخواصها وقد بينا خروجهم عن جميع فرق الاسلام بما فيه كفاية والحمد لله على ذلك.
فاما التفرس فانهم قالوا من شرط الداعى الى بدعتهم ان يكون قويا على التلبيس وعارفا بوجوه تأويل الظواهر ليردها الى الباطن ويكون مع ذلك مخبرا بين من يجوز من يطمع فيه وفى اغوائه وبين من لا مطمع فيه ولهذا قالوا فى وصاياهم للدعاة الى بدعتهم لا تتكلموا فى بيت فيه سراج بعنون بالسراج من يعرف علم الكلام ووجوه النظر والمقاييس وقالوا ايضا لدعاتهم لا تطرحوا بذركم فى ارض سبخة وارادوا بذلك منع دعاتهم عن اظهار بدعتهم عند من لا يؤثر فيهم بدعتهم كما لا يؤثر البذر فى الارض السبخة شيئا وسموا قلوب اتباعهم الاغنام ارضا زاكية لانها تقبل بدعتهم وهذا المثل بالعكس اولى وذلك ان القلوب الزاكية هى القابلة للدين القويم والصراط المستقيم وهى التى لا تصدأ بشبه اهل الضلال كالذهب الابريز الذى لا يصدأ فى الماء ولا يبلى فى التراب ولا ينقص فى النار والارض السبخة كقلوب الباطنية وسائر الزنادقة الذين لا يزجرهم عقل ولا يردعهم شرع منهم ارجاس أنجاس أموات غير أحياء : ان هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا ، قد قسم لهم الحظ من الرزق من قسم رزق الخنازير فى مراعيها وأباح طعمه العنب فى براريها : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
وقالوا ايضا من شرط الداعى الى مذهبهم ان يكون عارفا بالوجوه التي تدعى بها الاصناف فليست دعوة الاصناف من وجه واحد بل لكل صنف من الناس وجهه يدعى منه الى مذهب الباطن.
فمن رآه الداعى مائلا الى العبادات حمله على الزهد والعبادة ثم سأله عن معانى العبادات وعلل الفرائض وشككه فيها.
ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له العبادة باله وحماقته وانما الفطنة فى نيل اللذات وتمثل له بقول الشاعر:
من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسور
ومن رآه شكا فى دينه او فى المعاد والثواب والعقاب صرح له بنفى ذلك وحمله على استباحة المحرمات واستروح معه الى قول الشاعر الماجن:
أأترك لذة الصهباء صرفا لما وعدوه من لحم وخمر
حياة ثم موت ثم نشر حديث خرافة يا ام عمرو
ومن رآه من غلاة الرافضة كالسبابية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية لم يحتج معه الى تأويل الآيات والاخبار لانهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم.
ومن رآه من الرافضة زيديا او اماميا مائلا الى الطعن فى اخبار الصحابة دخل عليه من جهة شتم الصحابة وزين له بغض بنى تيم لأن ابا بكر منهم وبغض بنى عدى لان عمر بن الخطاب كان منهم وحثه على بغض بنى أمية لانه كان منهم عثمان ومعاوية وربما استروح الباطنى فى عصرنا هذا الى قول اسماعيل بن عباد:
دخول النار فى حب الوصى وفى تفضيل أولاد النبى
أحب الى من جنات عدن اخلدها بتيم أو عدى
قال عبد القاهر قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه:
أتطمع فى دخول جنات عدن وأنت عدو تيم أو عدى
وهم تركوك أشقى من ثمود وهم تركوك أفضح من دعى
وفى نار الجحيم غدا ستصلى اذا عاداك صديق النبي
ومن رآه الداعى مائلا الى أبى بكر وعمر مدحهما عنده وقال لهما حظ فى تأويل الشرعية ولهذا استصحب النبى أبا بكر الى الغار ثم الى المدينة وأفضى اليه فى الغار تأويل شريعته فاذا سأله الموالى لأبى بكر وعمر عن التأويل المذكور لأبى بكر وعمر اخذ عليه العهود والمواثيق فى كتمان ما يظهره له ثم ذكر له على التدريج بعض التأويلات فان قبلها منه اظهر له الباقى وان لم يقبل منه التأويل الاول ربطه فى الباقى وكتمه عنه وشك الغر من أجل ذلك فى اركان الشريعة.
والذين يروج عليهم مذهب الباطنية أصناف احدها العامة الذين قتلت بصائرهم بأصول العلم والنظر كالنبط والاكراد وأولاد المجوس.
والصنف الثانى الشعوبية الذين يرون تفضيل العجم على العرب ويتمنون عود الملك الى العجم.
والصنف الثالث اغنام بنى ربيعة من اجل غيظهم على مضر لخروج النبى منهم ولهذا قال عبد الله بن خازم السلمى فى خطبته بخراسان ان ربيعة لم تزل غضابا على الله مذ بعث نبيه من مضر ومن أجل حسد ربيعة لمضر بايعت بنو حنيفة مسيلمة الكذاب طمعا فى ان يكون فى بنى ربيعة نبى كما كان من بنى مضر نبى فاذا استأنس الاعجمى الغر او الربعى الحاسد المطز يقول الباطنى له قومك أحق بالملك من مضر سأله عن السبب فى عود الملك الى قومه فاذا سأله عن ذلك قال له ان الشريعة المضرية لها نهاية وقد دنا انقضاؤها وبعد انقضائها يعود الملك اليكم ثم ذكر له تأويل إنكار شريعة الاسلام على التدريج فاذا قبل ذلك منه صار ملحدا خرسا واستثقل العبادات واستطاب استحلال المحرمات فهذا بيان درجة التفرس منهم.
ودرجة التأنيس قربية من درجة التفرس عندهم وهى تزيين ما عليه الانسان من مذهبه فى عينه ثم سؤاله بعد ذلك عن تأويل ما هو عليه وتشكيكه اياه فى اصول دينه فاذا سأله المدعو عن ذلك قال علم ذلك عند الامام ووصل بذلك منه الى درجة التشكيك حتى صار المدعو الى اعتقاد ان المراد بالظواهر والسنن غير مقتضاها فى اللغة وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات وترك العبادات.
والربط عندهم تعليق نفس المدعو بطلب تأويل اركان الشريعة فإما ان يقبل منهم تأويلها على وجه يؤول الى رفعها وإما ان يبقى على الشك والحيرة فيها.
ودرجة التدليس منهم قولهم للغر الجاهل بأصول النظر والاستدلال ان الظواهر عذاب وباطنها فيه الرحمة وذكر له قوله فى القرآن : فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، فاذا سألهم الغر عن تأويل باطن الباب قالوا جرت سنة الله تعالى فى أخذ العهد والميثاق على رسله ولذلك قال : واذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، وذكروا له قوله : ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ، فاذا حلف الغر لهم بالايمان المغلظة وبالطلاق والعتق وبسبيل الاموال فقد ربطوه بها وذكروا له من تأويل الظواهر ما يؤدى الى رفعها بزعمهم فان قبل الاحمق ذلك منهم دخل فى دين الزنادقة باطلا واستتر بالاسلام ظاهرا وان نفر الحالف عن اعتقاد تأويلات الباطنية الزنادقة كتمها عليهم لانه قد حلف لهم على كتمان ما اظهروه لهم من اسرارهم واذا قبلها منهم فقد حلفوه وسلخوه عن دين الاسلام وقالوا له حينئذ ان الظاهر كالقشر والباطن كاللب واللب خير من القشر.
قال عبد القاهر حكى له بعض من كان دخل فى دعوة الباطنية ثم وفقه الله تعالى لرشده وهداه الى حل ايمانهم أنهم لما وثقوا منه بايمانه قالوا له ان المسمين بالانبياء كنوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخاريق احبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم.
قال هذا الحاكى لى ثم ناقض الذى كشف لى هذا السر بان قال له ينبغى أن تعلم أن محمد بن اسماعيل بن جعفر هو الذى نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له : إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى ، قال فقلت سخنت عينك تدعونى الى الكفر برب قديم الخالق للعالم ثم تدعونى مع ذلك الى الاقرار بربوبية انسان مخلوق وتزعم انه كان قبل ولادته الها مرسلا لموسى فان كان موسى عندك رازقا فالذى زعمت انه ارسله اكذب فقال لى انك لا تفلح أبدا وندم على افشاء اسراره الى وتبت من بدعتهم.
فهذا بيان وجه حيلهم على اتباعهم وأما ايمانهم فان داعيهم يقول للحالف جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسله وما أخذ الله تعالى من النبيين من عهد وميثاق انك تستر ما تسمعه منى وما تعلمه من امرى ومن أمر الامام الذى هو صاحب زمانك وأمر أشياعه واتباعه فى هذا البلد وفى سائر البلدان وامر المطيعين له من الذكور والاناث فلا تظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا ولا تظهر شيئا يدل عليه من كتابة او اشارة إلا ما أذن لك فيه الامام صاحب الزمان او أذن لك فى اظهاره المأذون له فى دعوته فتعمل فى ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك وألزمته نفسك فى حالتى الرضاء والغضب والرغبة والرهبة قال نعم فاذا قال نعم قال له وجعلت على نفسك أن تمنعنى وجميع من اسميه لك مما تمنع منه نفسك بعهد الله تعالى وميثاقه عليك وذمته وذمة رسله وتنصحهم نصحا ظاهرا وباطنا وألا تخون الامام وأولياءه واهل دعوته فى أنفسهم ولا فى أموالهم وأنك لا تتأول فى هذه الايمان تأويلا ولا تعتقد ما يحلها وإنك إن فعلت شيئا من ذلك فانت برىء من الله ورسله وملائكته ومن جميع ما أنزل الله تعالى من كتبه وانك ان خالفت فى شىء مما ذكرناه لك فلله عليك ان تحج الى بيته مائة حجة ماشيا نذرا واجبا وكل ما تملكه فى الوقت الذى أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين وكل مملوك يكون فى ملكك يوم تخالف فيه او بعده يكون حرا وكل امرأة لك الآن او يوم مخالفتك او تتزوجها بعد ذلك تكون طالقا منك ثلاث طلقات والله تعالى الشاهد على نيتك وعقد ضميرك فيما حلفت به فاذا قال نعم قال له كفى بالله شهيدا بيننا وبينك فاذا حلف الغر بهذه الايمان ظن انه لا يمكن حلها ولن يعلم الغر انه ليس لايمانهم عندهم مقدار ولا حرمة وانهم لا يرون فيها ولا فى حلها إثما ولا كفارة ولا عارا ولا عقابا فى الآخرة وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة وهم لا يقرون بإله قديم بل يقرون بحدوث العالم ولا يثبتون كتابا منزلا من السماء ولا رسولا ينزل عليه الوحي من السماء وكيف يكون لايمان المسلمين عندهم حرمة ومن دينهم أن الله الرحمن الرحيم انما هو زعيمهم الذي يدعو اليه ومن مال منهم الى دين المجوس زعم أن الإله نور بازائه شيطان قد غلبه ونازعه فى ملكه وكيف يكون لنذر الحج والعمرة عندهم مقدار وهم لا يرون للكعبة مقدارا ويسخرون بمن يحج ويعتمر وكيف يكون للطلاق عندهم حرمة وهم يستحلون كل امرأة من غير عقد فهذا بيان حكم الايمان عندهم
فأما حكم الايمان عند المسلمين فإنا نقول كل يمين يحلف بها الحالف ابتداء بطوع نفسه فهو على نيته وكل يمين يحلف بها عند قاض او سلطان يحلفه ينظر فيها فان كانت يمينا فى دعوى لمدع شيئا على الحالف المنكر وكان المدعى ظالما للمدعى عليه فيمن الحالف على نيته وان كان المدعى محقا والمنكر ظالما للمدعى فيمين المنكر على نية القاضى او السلطان الذي أحلفه ويكون الحالف خائنا فى يمينه.
واذا صحت هذه المقدمة فالباحث عن دين الباطنية اذا قصد اظهار بدعتهم للناس او اراد النقض عليهم معذور فى يمينه وتكون يمينه على نيته فاذا استثنى بقلبه مشيئة الله تعالى فيها لم ينعقد عليه ايمانه ولم يحنث فيها باظهاره أسرار الباطنية للناس ولم تطلق نساؤه ولا تعتق مماليكه ولا تلزمه صدقة بذلك وليس زعيم الباطنية عند المسلمين إماما ومن اظهر سره لم يظهر سر امام وانما اظهر سر كافر زنديق وقد جاء فى ذكر الحديث المأثور اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس فهذا بيان حيلتهم على الاغمار بالايمان.
فاما احتيالهم على الأغمار بالتشكيك فمن جهة أنهم يسألونهم عن مسائل من احكام الشريعة يوهمونهم فيها خلاف معانيها الظاهرة وربما سألوهم عن مسائل فى المحسوسات يوهمون ان فيها علوما لا يحيط بها إلا زعيمهم فمن مسائلهم قول الداعى منهم للغر لم صار للانسان أذنان ولسان واحد ولم صار للرجل ذكر واحد وخصيتان ولم صارت الأعصاب متصلة لدماغ والأوراد متصلة بالكبد والشرايين متصلة بالقلب ولم صار الانسان مخصوصا بنبات الشعر على جفنيه الأعلى والاسفل وسائر الحيوان ينبت الشعر على جفنه الأعلى دون الاسفل ولم صار ثدى الانسان على صدره وثدى البهائم على بطونها ولماذا لم يكن للفرس غدد ولا كرش ولا كعب وما الفرق بين الحيوان الذى يبيض ولا يلد ولا يبيض وبماذا يميز بين السمكة النهرية والسمكة البحرية ونحو هذا كثير يوهمون ان العلم بذلك عند زعيمهم.
ومن مسائلهم فى القرآن سؤالهم عن معاني حروف الهجاء فى أوائل السور كقوله الم وحم وطس وبس وطه وكهيعص وربما قالو ما معنى كل حرف من حروف الهجاء ولم صارت حروف الهجاء تسعة وعشرين حرفا ولم عجم بعضها بالنقط وخلا بعض من النقط ولم جاز وصل بعضها بما بعدها بحرف وربما للغر ما معنى قوله : ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، ولم جعل الله تعالى أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة ؟ وما معنى قوله : عليها تسعة عشر ، ومافائدة هذا العدد ؟ وربما سألوا عن آيات أوهموا فيها التناقض، وزعموا انه لا يعرف تأويلها الا زعيمهم، كقوله : يومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، مع قوله فى موضع آخر : فوربك لنسألنهم أجمعين.
ومنها مسائلهم فى أحكام الفقه كقولهم لم صارت صلاة الصبح ركعتين والظهر اربعا والمغرب ثلاثا ولم صار فى كل ركعة ركوع واحد وسجدتان ولم كان الوضوء على اربعة اعضاء والتيمم على عضوين ولم وجب الغسل من المنى وهو عند اكثر المسلمين طاهر ولم يجب الغسل من البول مع نجاسته عند الجميع ولم أعادت الحائض ما تركت من الصيام ولم تعد ما تركت من الصلاة ولم كانت العقوبة فى السرقة بقطع اليد وفى الزنى بالجلد وهلا قطع الفرج الذى به زنى فى الزنى كما قطعت اليد التى بها سرق فى السرقة فاذا سمع الغر منهم هذه الاسئلة ورجع اليهم فى تأويلها قالوا له علمها عند امامنا وعند المأذون له فى كشف أسرارنا فاذا تقرر عند الغر ان امامهم او ما دونه هو العالم بتأويله اعتقد ان المراد بظواهر القرآن والسنة غير ظاهرها فاخرجوه بهذه الحيلة عن العمل باحكام الشريعة فاذا اعتاد ترك العبادة واستحل المحرمات كشفوا له القناع وقالوا له لو كان لنا اله قديم غنى عن كل شىء لم يكن له فائدة فى ركوع العباد وسجودهم ولا فى طوافهم حول بيت من حجر ولا فى سعى بين جبلين فاذا قبل منهم ذلك فقد انسلخ عن توحيد ربه وصار جاحدا له زنديقا.
قال عبد القاهر والكلام عليهم فى مسائلهم التي يسألون عنها عند قصدهم الى تشكيك الاغمار فى اصول الدين من وجهين:
أحدهما أن يقال لهم انكم لا تخلون من أحد أمرين اما أن تقروا بحدوث العالم وتثبتوا له صانعا قديما عالما حكيما يكون له تكليف عباده ما شاء كيف شاء وإما ان تنكروا ذلك وتقولوا بقدم العالم ونفى الصانع فان اعتقدتم قدم العالم ونفى الصانع فلا معنى لقولكم لم فرض الله كذا ولم حرم كذا ولم خلق كذا ولم جعل كذا على مقدار كذا اذا لم تقروا باله فرض شيئا أو حرمه او خلق شيئا او قدره ويصير الكلام بيننا وبينكم كالكلام بيننا وبين الدهرية فى حدوث العالم وإن أقررتم بحدوث العالم وتوحيد صانعه وأجزتم له تكليف عباده ما شاء من الاعمال كان جواز ذلك جوابا لكم عن قولكم لم فرض ولم حرم كذا لاقراركم بجواز ذلك منه إن أقررتم به ويجواز تكليفه وكذلك سؤالهم عن خاصية المحسوسات يبطل إن أقروا بصانع احدثها وان أنكرواالصانع فلا معنى لقولهم لم خلق الله ذلك مع انكارهم أن يكون لذلك صانع قديم.
والوجه الثانى من الكلام عليهم فيما سألوا عنه من عجائب خلق الحيوان ان يقال لهم كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك وقد ذكرته الاطباء والفلاسفة فى كتبهم وصنف ارسطا طاليس فى طبائع الحيوان كتابا وما ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئا إلا مسروقا من حكماء العرب الذين كانوا قبل زمان الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الاصناف الحميرية وقد ذكرت العرب فى اشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان ولم يكن فى زمانها باطنى ولا زعيم للباطنية وإنما أخذ ارسطاطاليس الفرق بين ما يلد وما يبيض من قول العرب فى أمثالها كل شرقاء ولود وكل صكاء بيوض ولهذا كان الخفاش من الطير ولودا لا يبوضا لان لها أذنا شرقاء وكل ذات أذن صكاء بيوض كالحية والضب والطيور البائضة.
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى وعبد الملك بن قريب الأصمعى أن العرب قالت بتحريمها فى الجاهلية أن كل حيوان لعينيه أهداب على الجفن الأعلى دون الاسفل لا الانسان فان اهدابه على الجفن الأعلى والاسفل وقالوا كل حيوان ألقى فى الماء يسبح فيه إلا الإنسان والقرد والفرس الاعسر فانه يغرق فيه إلا أن يتعلم الانسان السباحة.
وقالوا في الانسان انه اذا قطع رأسه وألقى فى الماء انتصب قائما فى وسط الماء وقالوا كل طائر كفه فى رجليه وكف الانسان والقرد فى اليد وكل ذى أربع ركبته فى يده وركبتا الانسان فى رجليه وقالوا ليس للفرس غدد ولا كرش ولا طحال ولا كعب وليس للبعير مرارة وليس للظليم مخ وكذلك طير الماء وحيتان البحر ليس لها ألسن ولا أدمغة وقد يكون حوت النهر ذا لسان ودماغ وقالوا ان السموك كلها لا رئة لها كذلك ولا تتنفس وقالت العرب من تجاربها ان الضأن تضع فى السنة مرة وتفرد ولا تتيم والماعز تضع فى السنة مرتين وتضع الواحدة والاثنتين والثلاثة والعدد والنماء والبركة فى الضأن اكثر منها فى الماعز وقالوا ايضا اذا رعت الضان نبتا وفصيلا نبت ولا ينبت ما يأكله الماعز لأن الضأن تقرضه بأسنانها والماعز تقلعه من أصله وقالوا ان الماعز اذا حملت انزلت اللبن اول الحمل الى الضرع والضائنية لا تنزل اللبن الا عند الولادة وقالوا إن اصوات الذكور من كل جنس أجهر من اصوات الاناث الا المعزى فان اصوات اناثها اجهر من اصوات ذكورها.
ومن امثال العرب فى الحيوان فهو لهم كل ثور افطس وكل بعير اعلم وكل ذى ناب افرج وقالوا بالتجربة ان الاسد لا يأكل شيئا حامضا ولا يدنو من النار ولا يدنو من الحامض وقالوا ان حمل الكلب ستون يوما فان وضعت حملها لأقل من ذلك لم تكد اولادها تعيش وقالوا ان اناث الكلاب يحضن لسبعة اشهر ثم ان الكلبة تحيض فى كل سبعة ايام وعلامة حيضها ورم اثغارها وقالوا فى الكلب انه لا يلقى من اسنانه شيئا الا الثامن وقالوا فى الذئب انه ينام باجدى عينيه ويحترس بالاخرى ولذلك قال فيه حميد بن ثور:
ينام باحدى مقلتيه ويتقى باخرى المنايا فهو يقظان نائم
والارنب تنام مفتوحة العينين وقالوا ليس في الحيوان ما لسانه مقلوب الا الفيل وليس في ذوات الاربع ماثديه على صدره الا الفيل وقالوا ان الفيل تضع لسبع سنين والحمار لسنة والبقرة في ذلك كالمرأة وقالوا في قضيب الارنب والثعلب انه عظم وقالوا كل ذى رجلين اذا انكسرت احداهما قام على الاخرى وعرج الا الظليم فانه اذا انكسرت احدى رجليه جثم في مكانه ولهذا قال الشاعر فى نفسه واخيه:
فانى واياه كرجلى نعامة على ما بنامن ذى غنى وذى فقر
يريد لا غنى لأحدهما عن صاحبه وقالوا في النعامة أنها تبيض من ثلاثين بيضة الى اربعين لكنها تخرج ثلاثين منها تحضن عليها كخيط ممدود على الاستواء وربما تركت بيضها وحضنت بيض غيرها ولهذا قال فيها ابن هرمة:
كتاركة بيضها بالعرا وملبسة بيض اخرى جناحا
وقالوا فى الفرج والفروج انهما يخلقان من البياض والصفرة غذاؤهما وقالوا فى القطا انها لا تضع الا فردا وفى العقاب انها تضع ثلاث بيضات فتخرج بيضتين وتطرح واحدة فيخرجها الطير المعروف بكاسى العظام ولهذا قيل فى المثل أبر من كاسى العظام وقالوا فى الضب انها تضع سبعين بيضة ولكنها ولكنها تأكل ما خرج من الحسولة عن البيض إلا الحسل الذى يعدو ويهرب منها ولهذا قالوا فى المثل أعق من ضب والضب لا يرد الماء ولهذا قالوا فى المثل اروى من ضب وقالوا في الضب إنه ذو ذكرين وللأنثى من الضباب فرجان من قبل وقالوا في الحية لها لسانان ولسانها اسود على اختلاف الوان قشرها والحيات كلها تكره ريح السذاب والبنفسج وتعجب بريح التفاح والبطيخ والجرو والخرذل واللبن والخمر وقالوا في الضفادع انها لا تصيح الا وفي افواهها الماء ولا تصيح في دجلة بحال وان صاحت في الفرات وسائر الانهار وقال الشاعر فى الضفدع:
يدخل في الاشداق ما ينضفه حتى ينق والنقيق يتلفه
يعنى ان نقيقها يدل عليها الحية فتصيدها فتأكلها وقالوا ان الضفادع لا عظام لها وقالوا في الجعل انه اذا دفن في الورد سكن كالميت فاذا اعيد الى الروث تحرك.
فهذا وما جرى مجراه من خواص الحيوانات وغيرها قد عرفته العرب في جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها الى زعماء الباطنية بل عرفوها قبل وجود الباطنية في الدنيا باحقاب كثيرة وفي هذا بيان كذب الباطنية في دعواها أن زعماءها مخصصون بمعرفة أسرار الاشياء وخواصها وقد بينا خروجهم عن جميع فرق الاسلام بما فيه كفاية والحمد لله على ذلك.
عدد المشاهدات *:
46346
46346
عدد مرات التنزيل *:
0
0
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013