الفصل الأول
قتال أهل الردة
وما عدا جهاد المشركين من قتال ينقسم ثلاثة أقسام: قتال أهل الردة. وقتال أهل البغي. وقتال المحاربين. فأما القسم الأول في قتال أهل الردة فهو أن يرتد قوم حكم بإسلامهم سواء ولدوا على فطرة الإسلام أو أسلموا عن كفر، فلكلا الفريقين في حكم الردة سواء، فإذا ارتدوا عن الإسلام إلى أي دين انتقلوا إليه مما يجوز أن يقر أهله عليه كاليهودية والنصرانية، أو لا يجوز أن يقر أهله عليه كالزندقة والوثنية لم يجز أن يقر من ارتد إليه، لأن الإقرار بالحق يوجب التزام أحكامه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".
فإذا كان ممن وجب قتلهم بما ارتد عنه من دين الحق إلى غيره من الأديان لم يخل حالهم من أحد أمرين. أما أن يكونوا في دار الإسلام شذاذاً وأفراداً لم يتحيزوا بدار يتميزون بها عن المسلمين فلا حاجة بنا إلى قتالهم لدخولهم تحت القدرة ويكشف عن سبب ردتهم، فإن ذكروا شبهة في الدين أوضحت لهم بالحجج والأدلة حتى يتبين لهم الحق وأخذوا بالتوبة مما دخلوا فيه من الباطل، فإن تابوا قبلت توبتهم من كل ردة وعادوا إلى حكم الإسلام كما كانوا. وقال مالك: لا أقبل توبة من ارتد إلى ما يستر به من الزندقة إلا أن يبتدئها من نفسه، وأقبل توبة غيره من المرتدين، وعليهم بعد التوبة قضاء ما تركوه من الصلاة والصيام في زمان الردة لاعترافهم بوجوبه قبل الردة. وقال أبو حنيفة: لا قضاء عليهم كمن أسلم عن كفر، ومن كان من المرتدين قد حج في الإسلام قبل الردة لم يبطل حجه بها ولم يلزمه قضاؤه بعد التوبة. وقال أبو حنيفة قد بطل بالردة ولزمه القضاء بعد التوبة، ومن أقام على ردته ولم يتب وجب قتله رجلاً كان أو امرأة. وقال أبو حنيفة: لا أقتل المرأة بالردة: وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالردة امرأة كانت تكنى أم رومان ولا يجوز إقرار المرتد على ردته بجزية ولا عهد، ولا تؤكل ذبيحته، ولا تنكح منه إمرأة.
واختلف الفقهاء في قتلهم هل يعجل في الحال أو يؤجلون فيه ثلاثة أيام على قولين أحدهما تعجيل قتلهم في الحال لئلا يؤخر لله عز وجل حق. والثاني ينظرون ثلاثة أيام لعلهم يستدركونه بالتوبة، وقد أنذر علي عليه السلام المستورد العجلي بالتوبة ثلاثة ثم قتله بعدها، ويقتل صبراً بالسيف. وقال ابن سريج من أصحاب الشافعي يضرب الخشب حتى يموت، لأنه أبطأ قتلاً من السيف الموحي وربما استدرك به التوبة، وإذا قتل لم يغسل ولم يصل عليه. ووري مقبوراً لا يدفن في مقابر المسلمين لخروجه بالردة عنهم ولا في مقابر المشركين لما تقدم له من حرمة الإسلام المباينة لهم، ويكون ماله فيئاً في بيت مال المسلمين مصروفاً في أهل الفيء لأنه لا يرثه عنه وارث من مسلم ولا كافر. وقال أبو حنيفة يورث عنه ما اكتسبه قبل الردة ويكون ما اكتسبه بعد الردة فيئاً. وقال أبو يوسف يورث عنه ما اكتسب قبل الردة وبعدها فإذا لحق المرتد بدار الحرب كان ما له في دار الإسلام موقوفاً عليه فإن عاد إلى الإسلام أعيد عليه، وأن هلك على الردة صار فيئاً. وقال أبو حنيفة أحكم بموته إذا صار إلى دار الحرب وأقسم ماله بين ورثته، فإن عاد إلى دار الإسلام استرجعت ما بقي في أيديهم من ماله ولم أغرمهم ما استهلكوه فهذا حكم المرتدين إذا لم ينحازوا إلى دار وكانوا شذاذاً بين المسلمين والحالة الثانية أن ينحازوا إلى دار ينفردون بها عن المسلمين حتى يصيروا فيها ممتنين فيجب قتالهم على الردة بعد مناظرتهم على الإسلام وإيضاح دلائله، ويجري على قتالهم بعد الإنذار والإعذار حكم قتال أهل الحرب في قتالهم غرة وبياناً ومصافتهم في الحرب جهاراً وقتالهم مقبلين ومدبرين ومن أسر منهم جاز قتله صبراً إن لم يتب، ولا يجوز أن يسترق عند الشافعي رحمه الله وإذا ظهر عليهم لم تسب ذراريهم وسواء من ولد منهم في الإسلام أو بعد الردة، وقيل إن من ولد منهم بعد الردة جاز سبيه. وقال أبو حنيفة يجوز سبي من ارتد من نسائهم إذا لحقن بدار الحرب، وإذا غنمت أموالهم لم تقسم في الغانمين وكان مال من قتل منها فيئاً ومال الإحياء موقوفاً، إن أسلموا رد عليهم، وإن هلكوا على ردتهم صار فيئاً، وما أشكل أربابه من الأموال الغنومة صار فيئاً إذا وقع الإياس من معرفتهم، وما استهلكه المسلمون عليه في نائرة الحرب لم يضمن إذا أسلموا، وما استهلكوا من أموال المسلمين في غير نائرة الحرب مضمون عليهم.
واختلف في ضمنان ما استهلكوه في نائرة الحرب على قولين: أحدهما يضمنونه، لأن معصيتهم بالردة لا تسقط عنهم غرم الأموال المضمونة. والثاني لا ضمان عليهم فيما استهلكوه من دم ومال. قد أصاب أهل الردة على عهد أبي بكر رضي الله عنه نفوساً وأوالاً عرف مستهلكوها فقال عمر رضي الله عنه يدون قتلانا ولا ندى قتلاهم فقال أبو بكر لا يدون قتلانا ولا ندى قتلاهم فجرت بذلك سيرته وسيرة من بعده وقد أسلم طليحة بعد أن سبي وكان قد قتل وسبى فأقره عمر رضي الله عنه بعد إسلامه ولم يأخذه بدم ولا مال، ووفد أبو شجرة بن عبد العزى وكان من أهل الردة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقسم الصدقات فقال أعطني فإني ذو حاجة فقال من أنت? فقال أبو شجرة فقال أي عدو الله ألست تقول من الطويل:
ورويت رمحي من كتيبة خالد
***
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم جعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى ولي راجعاً إلى قومه وهو يقول من البسيط:
ضن علينا أبو حفـص بـنـائلـه
***
وكل متخـبـط يومـاً لـه ورق
ما زال يضربني حتى حدثـت لـه
***
وحال من دون بعض البغية الشفق
لما رهبت أبا حفص وشرطـتـه
***
والشيخ يقرع أحياناً فينـحـمـق
فلم يعرض له عمر رضي الله عنه بسوى التعزيز لاستطالته بعد الإسلام، ولدار الردة حكم تفارق به دار الإسلام ودار الحرب.
فأما ما تفارق به دار الإسلام فمن أربعة أوجه: أحدهما أنه لا يجوز أن يهادنوا على الموادعة في ديارهم ويجوز أن يهادن أهل الحرب. والثاني أنه لا يجوز أن يصالحوا على مال يقرون به على ردتهم، ويجوز أن يصالح أهل الحرب. والثالث أنه لا يجوز استرقاقهم ولا سبي نسائهم، ويجوز أن يسترق أهل الحرب وتسبى نساؤهم والرابع أنه لا يملك الغانمون أموالهم، ويملكون ما غنموه من مال أهل الحرب. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه. قد صارت ديارهم بالردة دار حرب ويسبون ويغنمون وتكون أرضهم فيئا وهم عنده كعبدة الأوثان من العرب.
وأما ما تفارق به دار الإسلام فمن أربعة أوجه: أحدها وجوب قتالهم مقبلين ومدبرين كالمشركين والثاني إباحة إمائهم أسرى وممتنعين والثالث تصير أموالهم فيئاً لكافة المسلمين. والرابع بطلان مناكحتهم بمضي العدة وإن اتفقوا على الردة. وقال أبو حنيفة: تبطل مناكحتهم بارتداد أحد الزوجين، ولا تبطل بارتدادهما معاً، ومن ادعيت عليه الردة فأنكرها كان قوله مقبولاً بغير يمينه، ولو قامت عليه البينة بالردة لم يصر مسلماً بالإنكار حتى يتلفظ بالشهادتين، وإذا امتنع قوم من أداء الزكاة إلى الإمام العادل مع الاعتراف بوجوبها كانوا من بغاة المسلمين، يقاتلون على المنع منه، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يقاتلون، وقد قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة مع تمسكهم بالإسلام حتى قالوا والله ما كفرنا بعد إيماننا ولكن شححنا على أموالنا فقال عمر رضي الله عنه علام تقاتلهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأولادهم إلا بحقها".
قال أبو بكر هذه من حقها: أرأيت لو سألوا ترك الصلاة ؟ أرأيت لو سألوا ترك الصيام؟ أرأيت لو سألوا ترك الحج؟ فإذا لا تبقى عروة من عرى الإسلام إلا انحلت، والله لو منعوني عناقاً وعقالاً مما أعطوه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه فقال عمر رضي الله عنه فشرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر رضي الله عنه، وقد أبان عن إسلامهم قول زعيمهم حارثة بن سراقة في شعره من الطويل:
ألا فاصطحبينا قبل نائرة الفـجـر
***
لعل المنـايا قـريب ولا نـدري
أطعنا رسول الله ما كان بـينـنـا
***
فيا عجباً ما بال ملك أبي بـكـر
فإن الذي سألوكم فمـنـعـتـمـو
***
لكالتمر أو أحلى إليهم من التمـر
سنمنعكم ما كـان فـينـا بـقـية
***
كرام على العزاء في ساعة العسر
الفصل الثاني
في قتال أهل البغي
وإذا بغت طائفة من المسلمين وخالفوا رأي الجماعة وانفردوا بمذهب ابتدعوه، فإن لم يخرجوا به عن المظاهرة بطاعة الإمام ولا تحيزوا بدار اعتزلوا فيها وكانوا أفراداً متفرقين تنالهم القدرة وتمتد إليهم اليد تركوا ولم يحاربوا وأجريت عليهم أحكام العدل فيما يجب لهم وعليهم من الحقوق والحدود، وقد عرض قوم من الخوارج لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه لمخالفة رأيه. وقال أحدهم وهو يخطب على منبره لا حكم إلا لله فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، فإن تظاهروا باعتقادهم وهم على اختلاطهم إلى اعتقاد الحق وموافقة الجماعة، وجاز للإمام أن يعزر منهم من تظاهر بالفساد أدباً وزجراً ولم يتجاوزه إلى قتل ولا حد.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس".
فإن اعتزلت هذه الفئة الباغية أهل العدل وتحيزت بدار تميزت فيها عن مخالطة الجماعة فإن لم تمتنع عن حق ولم تخرج عن طاعة لم يحاربوا ما أقاموا على الطاعة وتأدية الحقوق.
قد اعتزلت طائفة من الخوارج علياً عليه السلام بالنهر وإن فولى عليهم عاملاً أقاموا على طاعته زماناً وهو لهم موادع إلى أن قتلوه فأنفذ إليهم أن سلموا إلى قاتله فأبوا وقالوا كلنا قتله قال فاستسلموا إلي أقتل منكم وسار إليهم فضل أكثرهم. وإن امتنعت هذه الطائفة الباغية من طاعة الإمام ومنعوا ما عليهم من الحقوق وتفردوا باجتباء الأموال وتنفيذ الأحكام، فإن فعلوا ذلك ولم ينصبوا لأنفسهم إماماً ولا قدموا عليهم زعيماً كان ما اجتبوه من الأموال غصباً لا تبرأ منه ذمة، وما نفذوه من الأحكام مردداً لا يثبت به حق، وإن فعلوا ذلك وقد نصبوا لأنفسهم إماماً اجتبوا بقوله الأموال ونفذوا بأمره الأحكام لم يتعرض لأحكامهم بالرد ولا لما اجتبوه بقوله الأموال ونفذوا بأمره الأحكام لم يتعرض لأحكامهم بالرد ولا لما اجتبوه المطالبة وحوربوا في الحالين على سواء لينزعوا عن المباينة ويفيئوا إلى الطاعة قال الله تبارك وتعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".
وفي قوله: "فإن بغت إحداهما على الأخرى". وجهان: أحدهما بغت بالتعدي في القتال والثاني بغت بالعدول عن الصلح، وقوله "فقاتلوا التي تبغي" تبغي بالسيف ردعاً عن البغي وزجراً عن المخالفة.
وفي قوله تعالى: "حتى تفيء إلى أمر الله". وجهان: أحدهما حتى ترجع إلى الصلح الذي أمر الله تعالى به وهو قول سعيد بن جبير. والثاني إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله فيما لهم وعليهم وهذا قول قتادة.
"فإن فاءت" أي رجعت عن البغي "فأصلحوا بينهما بالعدل". فيه وجهان: أحدهما بالحق. والثاني بكتاب الله تعالى، فإذا قلد الإمام أميراً على قتال الممتنعتين من البغاة قدم قبل القتال إنذارهم وإعذارهم، ثم قاتلهم إذا أصروا على البغي كفاحاً لا يهجم غرة وبياتاً.
ويخالف قتالهم قتال المشركين والمرتدين من ثمانية أوجه: أحدها أن يقصد بالقتال ردعهم ولا يعتمد به قتلهم، ويجوز أن يعتمد قتل المشركين والمرتدين. والثاني أن يقاتهلم مقبلين، ويكف عنهم مدبرين، ويجوز قتال أهل الردة والحرب مقبلين مدبرين، والثالث أن لا يجهز على جريحهم وإن جاز الإجهاز على جرحى المشركين والمرتدين. أمر علي عليه السلام مناديه أن ينادي يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح. والرابع: أن لا يقتل أسراهم وإن قتل أسرى المشركين والمرتدين. ويعتبر أحوال من في الأسر منهم، فمن أمنت رجعته إلى القتال أطلق، ومن لم تؤمن منه الرجعة حبس إلى انجلاء الحرب ثم يطلق ولم يجز أن يحبس بعدها. أطلق الحجاج أسيراً من أصحاب قطري بن الفجاءة لمعرفة كانت بينهما فقال له قطري عد إلى قتال عدو الله الحجاج، فقال هيهات غل يداً مطلقها واسترق رقبة معتنقها، وأنشأ يقول من الكامل:
أأقاتل الحجاج عن سلطـانـه
***
بيد تقر بـأنـهـا مـولاتـه
إني إذا لأخو الـزيادة والـذي
***
شهدت بأقبح فعله غـدراتـه
ماذا أقـول إذا بـرزت إزاءه
***
في الصف واحتجت له فعلاته
أأقول جار علـي لا إنـي إذا
***
لا حق من جارت عليه ولاته
وتحدث الأقوام أن صـنائعـاً
***
غرست لدي فحنظت نخلاتـه
والخامس: أن لا يغم أموالهم ولا يسبى ذراريهم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت دار الشرك ما فيها".
والسادس. أن لا يستعان لقتالهم بمشرك معاهد ولا ذمي وإن جاز أن يستعلن بهم على فعال أهل الحرب والردة. والسابع: أن لا يهادنهم إلى مدة ولا يوادعهم على مال، فإن هادنهم إلى مدة لم يلزمه، فإن ضعف عن قتالهم انتظر بهم القوة عليهم، وإن وادعهم على مال بطلت المودة ونظر في المال، فإن كان من فيئهم أو من صدقاتهم لم يرده عليهم وصرف الصدقات في أهلها والفيء في مستحقيه، وإن كان من خالص أموالهم لم يجز أن يملكه عليهم ووجب رده إليهم، والثامن أن ينصب عليهم العرادات، ولا يحرق عليهم المساكن ولا يقطع عليه النخيل والأشجار لأنها دار إسلام تمنع ما فيها وإن بغى أهلها، فإن أحاطوا بأهل العدل وخافوا منهم الاصطلام جاز أن يدفعوا عن أنفسهم ما استطاعوا من اعتماد قتلهم ونصب العرادات عليهم، فإن المسلم إذا أريدت نفسه جاز له الدفع عنها بقتل من أرادها إذا كان لا يندفع بغير القتل، ولا يجوز أن يستمتع بدوابهم ولا سلاحهم، ولا يستعان به في قتالهم ويرفع اليد عنه في وقت القتال وبعده. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز أن يستعان على قتالهم بدوابهم وسلاحهم ما كانت الحرب قائمة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه".
فإذا انجلت الحرب ومع أهل العدل لهم أموال ردت عليهم، وما تلف منها في غير قتال فهو مضمون على متلفه، وما أتلفوه في نائرة الحرب من نفس ومال فهو هدر، وما أتلفوه على أهل العدل في غير نائرة الحرب من نفس ومال فهو مضمون عليهم، وما أتلفوه في نائرة الحرب ففي وجوب ضمانه عليهم قولان: أحدهما يكون هدرا ًلا يضمن والثاني يكون مضموناً عليهم لأن المعصية لا تبطل حقاً ولا تسقط غرماً، فتضمن النفوس بالقود في العمد والدية في الخطأ. ويغسل قتلى أهل البغي ويصلى عليهم، ومنع أبو حنيفة من الصلاة عليهم عقوبة لهم، وليس على ميت في الدنيا عقوبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فرض على أمتي غسل موتاها والصلاة عليهم".
وأما قتلى أهل العدل في معركة الحرب في غسلهم والصلاة عليهم فقولان: أحدهما لا يغسلون ولا يصلى عليهم تكريماً وتشريفاً كالشهداء في قتال المشركين.
والثاني: يغسلون ويصلى عليهم وإن قتلوا بغياً. وقد صلى المسلمون على عمرو عثمان رضي الله عنهما، وصلى بعد ذلك علي عليه السلام وإن قتلوا ظلماً وبغياً، ولا يرث باغ قتل عادلاً، ولا عادل قتل باغياً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث".
وقال أبو حنيفة، أورث العادل من الباغي لأنه محق ولا أورث الباغي من العادل لأنه مبطل. قال أبو يوسف: أورث كل واحد منهما من صاحبة لأنه متأول في قتله، وإذا مر تجار أهل الذمة بعشارة أهل البغي فعشر أموالهم ثم قدر عليهم عشروا ولم يجزهم المأخوذ منهم بخلاف المأخوذ من الزكوات، لأنهم مروا بهم مختارين، والزكوات مأخوذة من المقيمين المكرهين وإذا أتى أهل البغي قبل القدرة عليهم حدوداً ففي إقامتها عليهم بعد القدرة وجهان.
الفصل الثالث
في قتال من امتنع من المحاربين وقطاع الطرق
وإذا اجتمعت طائفة من أهل الفساد على شهر السلاح وقطع الطريق وأخذ الأموال وقتل النفوس ومنع السابلة فهم المحاربون الذين قال الله تعالى فيهم: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض".
فاختلف الفقهاء في حكم هذه الآية على ثلاثة مذاهب: أحدها أن الإمام ومن استنابه على قتالهم من الولاة بالخيار بين أن يقتل ولا يصلب، وبين أن يقتل ويصلب وبين أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وبين أن ينفيهم من الأرض، وهذا قول سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي: والمذهب الثاني: أن من كان منهم ذا رأي وتدبير قتله ولم يعف عنه، ومن كان ذا بطش وقوة قطع يده ورجله من خلاف ومن لم يكن منهم ذا رأي ولا بطش عزره وحبسه، هذا قول مالك بن أنس وطائفة من فقهاء المدينة بجعلها مرتبة باختلاف صفاتهم لا باختلاف أفعالهم والمذهب الثالث: أنها مرتبة باختلاف أفعالهم لا باختلاف صفاتهم، فمن قتل وأخذ المال: قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال: قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل: قطعت يده ورجله من خلاف، ومن كثر وهيب ولم يقتل يأخذ المال عزر ولم يقتل ولم يقطع وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنفية: إن قتلوا وأخذوا المال فالإمام بالخيار بين قتلهم ثم صلبهم وبين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ثم قتلهم، ومن كان معهم مهيباً مكثراً فحكمه كحكمهم، وأما قوله تعالى: "أو ينفوا في الأرض".
فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أقاويل: أحدها أنه إبعادهم من بلاد الإسلام: إلى بلاد الشرك، وهذا قول مالك بن أنس والحسن وقتادة والزهري. والثاني: أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى وهذا قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله وسعيد بن جبير، والثالث أنه الحبس وهو قول أبي حنيفة ومالك. والرابع وهو أن يطلبوا لإقامة الحدود عليهم فيبعدوا وهذا قول ابن عباس والشافعي: وأما قوله تعالى: "إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم".
ففيه لأهل التأويل ستة أقاويل: أحدها: أنه وارد في المحاربين المفسدين من أهل الكفر إذا تابوا من شركهم بالإسلام، وأما المسلمون فلا تسقط التوبة عنهم حداً ولاحقاً، وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم، وأما التائب بغير أمان فلا تؤثر توبته في سقوط حد ولا حق وهذا قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والشعبي، والثالث: أنه وارد فيمن تاب من المسلمين بعد لحوقه بدار الحرب ثم عاد قبل القدرة وهو قول عروة بن الزبير رضي الله عنه، والرابع: أنه وارد فيمن كان في دار الإسلام في منعة وتاب قبل القدرة عليه سقطت عقوبته وإن لم يكن في منعه لم تسقط وهذا قول ابن عمر وربيعة والحكم بن عيينة رضي الله عنهم. والخامس: أن توبته قبل القدرة عليه وإن لم يكن في منعه تضع عنه جميع حدود الله سبحانه ولا تسقط عنه حقوق الآدميين وهذا قول الشافعي. والسادس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه جميع الحدود والحقوق إلا الدماء وهذا قول مالك بن أنس فهذا حكم الآية واختلاف أهل التأويل فيها. ثم نقول في المحاربين إنهم إذا كانوا على امتناعهم مقيمين قوتلوا كقتال أهل البغي في عامة أحوالهم ويخالفه من خمسة أوجه: أحدها أنهم يجوز قالهم مقبلين ومدبرين لاستيفاء الحقوق منهم، ولا يجوز اتباع من ولي من أهل البغي. والثاني أنه يجوز أن يعمد في الحرب إلى قتل من قتل منهم ولا يجوز أن يعمد إلى قتل أهل البغي، والثالث أنهم يؤاخذون بما استهلكوه من دم ومال في الحرب وغيرها بخلاف أهل البغي. والرابع أنه يجوز حبس من أسر منهم لاستبراء حاله وإن لم يجز حبس أحد من أهل البغي، والخامس أن ما اجتبوه من خراج وأخذوه من صدقات فهو كالمأخوذ غصباً ونهباً لا يسقط عن أهل الخراج والصدقات حقاً فيكون غرمه عليهم مستحقاً، وإذا كان المولى على قتالهم مقصور الولاية على محاربتهم فليس له بعد القدرة أن يقيم عليهم حداً، ولا أن يستوفي منهم حقاً ويلزمه محاربته فليس له بعد القدرة أن يقيم عليهم حداً، ولا أن يستوفي منهم حقاً ويلزمه حملهم إلى الإمام ليأمر بإقامة الحدود عليهم واستيفاء الحقوق منهم، وإن كانت ولايته عامة على قتالهم واستيفاء الحدود والحقوق منهم فلا بدأن يكون من أهل العلم والعدالة لينفذ حكمه فيما يقيمه من حد ويستوفيه من حق، وإذا كان كذلك كشف عن أحوالهم من أحد وجهين: إما بإقرارهم طوعاً من غير ضرب ولا إكراه، وإما بقيام البينة العادلة على من أنكر، فإذا علم من أحد هذين الوجهين ما فعله كل واحد منهم من جرائمه نظر، فمن كان منهم قد قتل وأخذ المال قتله وصلبه بعد القتل. وقال مالك يصلب حياً ثم يطعنه بالرمح حتى يموت وهذا القتل محتوم ولا يجوز العفو عنه، وإن عفا عنه ولي الدم كان عفوه لغواً ويصلب ثلاثة أيام لا يتجاوزها ثم يحطه بعدها، ومن قتل منهم ولم يأخذا المال قتله ولم يصلبه وغسله وصلى عليه. وقال مالك يصلى عليه غير من حكم بقتله؛ ومن أخذ منهم المال ولم يقتل قطع يده ورجله من خلاف فكان قطع يده اليمنى لسرقته وقطع رجله اليسرى لمجاهرته، ومن جرح منهم ولم يقتل ولم يأخذ المال اقتص منهم الجراح إن كان في مثلها قصاص، وفي إحتام القصاص في الجروح وجهان: أحدهما أنه محتوم ولا يجوز العفو عنه كالقتل والثاني هو إلى خيار مستحقة تجب بمطالبته ويسقط بعفوه، وإن كان الجرح مما لا قصاص فيه وجبت دية المجروح إن طلب بها وتسقط إن عفا عنها، ومن كان منهم مهيباً أو مكثراً لم يباشر قتلاً ولا جرحاً ولا أخذ مال عزر أدباً وزجراً وجاز حبسه لأن الحبس أحد التعزيرين، ولا يجوز به ذلك؛ لا قطع ولا قتل. وجوز أبو حنيفة ذلك فيه إلحاقاً بحكم المباشرين معه، فإن تابوا عن جرائمهم بعد القدرة عليهم سقطت عنهم المآثم دون المظالم وأخذوا بما وجب عليهم من الحدود والحقوق؛ فإن تابوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم مع المآثم حدود الله سبحانه ولم تسقط عنهم حقوق الآدميين؛ فمن كان منهم قد قتل فالخيار إلى الولي في القصاص منه أو العفو عنه ويسقط بالتوبة إحتام قتله؛ ومن كان منهم قد أخذ المال سقط عنه القطع ولم يسقط عنه الغرم إلا بالعفو، ويجري على المحاربين وقطاع الطرق في الأمصار حكم قطاعه في الصحارى والأسفار؛ وهم وإن لم يكونوا بالجراءة في الأمصار أغلظ جرماً لم يكونوا أخف حكماً وقال أبو حنيفة يختصون بهذا الحكم في الصحارى حيث لا يدرك الغوث أما في الأمصار أو خارجها بحيث يدرك الغوث فلا يجري عليهم حكم الجرأة في الأمصار؛ وإذا أدعو التوبة قبل القدرة عليهم فإن لم تقترن بالدعوى أمارات تدل على التوبة لم تقبل دعواهم لها لما في سقوطها من حد قد وجب. وإن اقترن بدعواهم أمارات تدل على التوبة ففي قبولها منهم بغير بينة وجهان محتملان: أحدهما تقبل ليكون ذلك شبهة تسقط بها الحدود.ارى حيث لا يدرك الغوث أما في الأمصار أو خارجها بحيث يدرك الغوث فلا يجري عليهم حكم الجرأة في الأمصار؛ وإذا أدعو التوبة قبل القدرة عليهم فإن لم تقترن بالدعوى أمارات تدل على التوبة لم تقبل دعواهم لها لما في سقوطها من حد قد وجب. وإن اقترن بدعواهم أمارات تدل على التوبة ففي قبولها منهم بغير بينة وجهان محتملان: أحدهما تقبل ليكون ذلك شبهة تسقط بها الحدود.
والثاني لا تقبل إلا بينة عادلة تشهد لهم بالتوبة قبل القدرة عليهم لأنها حدود قد وجبت، والشبهة ما اقترنت بالفعل لا ما تأخرت عنه.
عدد المشاهدات *:
12174
12174
عدد مرات التنزيل *:
0
0
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 19/02/2014 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 19/02/2014