الأموال التى كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يقسِمُها ثلاثة: الزكاةُ، والغنائم، والفىء فأما الزكاة والغنائم، فقد تقدم حكمها، وبيَّنا أنه لم يكن يُستوعِبُ الأصنافَ الثمانية، وأنه كان رُبما وضعها فى واحد.
وأما حُكمه فى الفىء، فثبت فى الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قسم يومَ حُنين فى المؤلفة قلوبُهم من الفىء، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئاً، فَعَتِبُوا عليه، فقال لهم: ((ألاَ تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ والبَعِيرِ، وتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم تَقُودُونَهُ إلى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لما تنقلبونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ)) وقد تقدَّم ذكرُ القصة وفوائدها فى موضعها.
والقصة هنا أن اللَّه سبحانه أباح لرسولهِ من الحكم فى مال الفىء ما لم يُبحه لغيره، وفى ((الصحيح)) عنه صلى الله عليه وسلم: ((إنى لأَعْطِى أَقْوَاماً، وَأَدْعُ غَيْرَهُم، والَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إلىَّ مِنَ الَّذِى أُعْطى)) وفى (الصحيح) عنه: ((إنِّى لأَعْطى أَقْوَاماً أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وجَزَعَهُمْ، وأَكِلُ أَقْوَاماً إلى مَا جَعَلَ اللَّهُ فى قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنى والخَيْرِ، مِنْهم عَمْرُو بْن تَغٌلِب)). قال عمرو بن تغلب: فما أُحِبُّ أن لى بكلمةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمرَ النَّعَمِ.وفى ((الصحيح)): أن علياً بعث إليه بِذُهَيْبَةً من اليمن، فقَسمها أرباعاً، فأعطى الأقرعَ بنَ حابس، وأعطى زيدَ الخيل، وأعطى عَلْقَمَةَ بنَ عُلاثة وعُيَيْنَةَ بنَ حِصن، فقام إليه رجلٌ غائرُ العينين، ناتىءُ الجبهة، كثُّ اللِّحية، محلوقُ الرأس، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك أو لست أحقَّ أهلِ الأرض أن يتقىَ الله))؟، الحديث.
وفى ((السنن)): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع سهم ذى القُربى فى بنى هاشم، وفى بنى المطلب، وتَرَكَ بنى نوفل، ونبى عبدِ شمس، فانطلق جُبير بن مُطعم، وعثمانُ ابن عفان إليه، فقالا: يا رسولَ اللَّهِ، لا نُنْكِرُ فضلَ بنى هاشم لموضعهم منك، فما بالُ إخوانِنا بنى عبد المطلب، أعطيتَهم وتركتنا، وإنما نحنُ وهم بمنزلةً واحدة، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا وبَنُوا المُطَّلِبِ لا نَفْتَرِقُ فى جَاهِليَّةً وَلاَ إسْلامٍ، إنَّما نَحْنُ وَهُمْ شَىءٌ واحدٌِ)) وشَبَكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وذكر بعضُ الناس بأن هذا الحكمَ خاص بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم، وأن سهمَ ذوى القُربى يُصرف بعدَه فى بنى عبد شمس، ونبى نوفل، كما يُصرف فى بنى هاشم، وبنى المطلب، قال: لأن عبد شمس، وهاشما، والمطلب، ونوفلاً إخوة، وهُم أولادُ عبد مناف. ويقال: إن عبدَ شمس، وهاشما توأمان.
والصواب: استمرارُ هذا الحكم النبوى، وأنَّ سهمَ ذوى القربى لبنى هاشم ونبى المطلب حيث خصَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهم، وقولُ هذا القائل: إن هذا خاصُ بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم باطل، فإنه بيَّن مواضِعَ الخُمس الذى جعله الله لذوى القُربى، فلا يُتعدَّى به تلك المواضع، ولا يُقصر عنها، ولكن لم يكن يقسِمُه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم، ولا كان يقسِمُه قِسمَة الميراث للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، بل كان يَصرفُه فيهم بحسب المصلحة والحاجة، فيزوِّجُ منه عزبَهم، ويقضِى منه عن غارِمهم، ويُعطى منه فقيرَهم كفايته.
وفى ((سنن أبى داود)): عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: ((ولاَّنى رسول الله خُمْسَ الخمس، فوضعتُه مواضِعَه حياةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياةَ أبى بكر رضى الله عنه، وحياةَ عمر رضى الله عنه)).
وقد استدِلَّ به على أنه كان يُصْرَفُ فى مصارفه الخمسةِ، ولا يقوى هذا الاستدلال، إذ غايةُ ما فيه أنه صرفه فى مصارفه التى كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصرِفُه فيها، ولم يَعُدها إلي سواها، فأين تعميمُ الأصناف الخمسة به؟، والذى يدل عليه هدىُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأحكامُه أنه كان يجعل مصارِفَ الخمس كمصارِفِ الزكاة، ولا يخرجُ بها عن الأصناف المذكورة لا أنه يقسِمُه بينهم كقِسمة الميراث، ومن تأمل سيرته وهديَه حقَّ التأمل لم يشك فى ذلك.
وفى ((الصحيحين)): عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: كانَتْ أموالُ بنى النضير مما أفاء اللَّهُ على رسوله مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، فكانت لِرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يُنفِقُ منها على أهله نفقةَ سنة، وفى لفظ: ((يحبِسُ لأهله قوت سنتهم، ويجعلُ ما بقى فى الكراع والسلاح عُدة فى سبيل الله)).
وفى ((السنن)): عن عوف بن مالك رضى الله عنه، قال: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفىء، قسمه مِن يومه، فأعطى الآهِل حَظَّيْنِ، وأعطى العَزَب حظاً.فهذا تفصيل منه للآهِلِ بحسب المصلحة والحاجة، وإن لم تكن زوجُه من ذوى القربى.
وقد اختلف الفقهاءُ فى الفىء، هل كان مِلكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكاً له؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره.
والذى تدل عليه سنتُه وهديه، أنه كان يتصرَّف فيه بالأمر، فيضعه حيثُ أمره الله، ويقسِمُه على من أُمِرَ بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرَّف فيه تصرُّفَ المالك بشهوته وإرادته، يُعطى من أحبَّ، ويمنعُ من أحبَّ، وإنما كان يتصرَّف فيه تصرُّفَ العبدِ المأمور يُنفِّذُ ما أمره به سيده ومولاه، فيعطى من أمر بإعطائه، ويمنع من أُمِرَ بمنعه، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا فقال: ((واللَّهِ إنِّى لا أُعطِى أحداً ولا أمنعهُ، إما أنا قاسِمٌ أَضَعُ حِيْثُ أُمِرْتُ))، فكان عطاؤه ومنعُه وقسمُه بمجرد الأمر، فإن الله سبحانه خيَّره بين أن يكونَ عبداً رسولاً، وبين أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً.
والفرقُ بينهما أن العبدَ الرسولَ لا يتصرَّفُ إلا بأمر سيِّده ومُرْسِله، والمَلِكُ الرسولُ له أن يُعطِىَ مَن يشاء، ويمنعُ من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان: {هذا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] أى: أعطِ مَن شئتَ، وامنع من شئت، لا نحاسِبُك ؛ وهذه المرتبة هى التى عُرَضَتْ على نبينا صلى الله عليه وسلم، فَرغِبَ عنها إلى ما هو أعلى منها، وهى مرتبةُ العبودية المحضة التى تَصرُّفُ صاحبها فيها مقصورٌ على أمرِ السيد فى كُلِّ دقيق وجليل.
والمقصود: أن تصرفه فى الفىء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين، ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقةَ سنتهم، ويجعل الباقى فى الكُراع والسِّلاح عدة فى سبيل الله عز وجل، وهذا النوعُ مِن الأموال هو السهمُ الذى وقع بعده فيه مِن النزاع ما وقع إلى اليوم.
فأما الزكاوات والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها معينة لأهلها لا يَشُركُهم غيرُهم فيها، فلم يُشكل على ولاة الأمر بعدَه مِن أمرها ما أشكل عليهم مِن الفىء، ولم يقع فيها مِن النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكالُ أمره عليهم، لما طلبت فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها مِن تركته، وظنت أنه يُورث عنه ما كان ملكاً له كسائر المالكين، وخفى عليها رضى الله عنها حقيقةُ الملك الذى ليس مما يُورث عنه، بل هو صدقة بعده، ولما علِمَ ذلك خليفتهُ الراشدُ البار الصِّدِّيق، ومَن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوه ما خلفه من الفىء ميراثاً يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى على والعباس يعملان فيه عملَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنازعا فيه، وترافعا إلى أبى بكر الصديق، وعمر، ولم يَقسم أحد منهما ذلك ميراثاً، ولا مكَّنا منه عباساً وعليَّا، وقد قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللّهِ ولِلرّسُولِ وَلذِى القُرْبى وَاليَتَامَى والمَسَاكِين وابْنِ السَّبِيلِ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغَنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخَذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ ورِضْوَاناً ويَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ والإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ} [الحشر: 7-9] إلى قوله: {والَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، إلى آخر الآية. فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته لِمَن ذُكِرَ فى هذِهِ الآيات، ولم يَخُصَّ منه خمسة بالمذكورين، بل عمَّمَ وأطلق واستوعب.
ويُصرف على المصارف الخاصة، وهم أهلُ الخمس، ثم على المصارف العامة، وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين. فالذى عمل به هو وخلفاؤه الراشدون، هو المرادُ من هذه الآيات، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه: ما أحدٌ أحقَّ بهذا المالِ مِن أحد، وما أنا أحقَّ به من أحد، والله ما مِن المسلمين أحد إلا وله فى هذا المال نصيب إلا عبد مملوك، ولكنا على منَازِلنا مِن كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجلُ وبلاؤُه فى الإسلام، والرجل وقِدَمُه فى الإسلام، والرجل وغَناؤه فى الإسلام، والرجل وحاجتُه، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظُّه مِن هذا المال، وهو يَرعى مكانه. فهؤلاء المسمَّوْن فى آية الفىء هم المسمَّون فى آية الخمس، ولم يدخُل المهاجرون والأنصارُ وأتباعُهم فى آية الخمسِ، لأنهم المستحقون لجملة الفىء، وأهلُ الخمس لهم استحقاقان: استحقاقٌ خاص مِن الخمس، واستحقاقٌ عام من جملة الفىء، فإنهم داخلون فى النَّصِيبَيْنِ.
وكما أن قِسمته من جملة الفىء بين مَن جعل له ليس قسمة الأملاك التى يشترك فيها المالكون ؛ كقِسمةِ المواريث والوصايا والأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة والنفع والغَناء فى الإسلام والبلاء فيه، فكذلك قِسمة الخمسِ فى أهله، فإن مخرجَهما واحد فى كتاب الله، والتنصيصُ على الأصناف الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم. وأنهم لا يُخرجون من أهل الفىء بحال، وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم، كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم، كما أن الفىء العام فى آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإسلام، كمالك، والإمام أحمد وغيرهما، أن الرافضة لا حقَّ لهم فى الفىء لأنهم ليسوا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون:{رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وهذا مذهبُ أهل المدينة، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل القرآن، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين.
وقد اختلف الناسُ فى آية الزكاةِ وآيةِ الخمس، فقال الشافعى: تجب قسمةُ الزكاة والخمس على الأصناف كلِّها، ويُعطى مِن كل صنف مَن يطلق عليه اسم الجمع.
وقال مالك رحمه الله وأهلُ المدينة: بل يُعطى فى الأصناف المذكورة فيهما، ولا يعدوهم إلى غيرهم، ولا تجب قسمةُ الزكاة ولا الفىء فى جميعهم.
وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة: بقول مالك رحمهم الله فى آية الزكاة، وبقول الشافعى رحمه الله فى آية الخمس.
ومن تأمل النصوصَ، وعَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وجده يدل على قول أهل المدينة، فإن الله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفىء، وعيَّنهم اهتماماً بشأنهم، وتقديماً لهم، ولما كانت الغنائمُ خاصة بأهلها لا يشركهم فيها سواهم، نصَّ على خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفىء لا يختصُ بأحد دون أحد، جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم، فسوَّى بينَ الخمسِ وبين الفىء فى المصرِف، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصِرفُ سهم الله وسهمَه فى مصالح الإسلام، وأربعةَ أخماس الخمس فى أهلها مقدماً لِلأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج، فيزوج منه عزابَهم، ويقضى منه ديونهم، ويُعين ذا الحاجة منهم، ويُعطى عزبهم حظاً، ومتزوجَهم حظَّين، ولم يكن هو ولا أحدٌ من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوى القربى، ويقسمون أربعة أخماس الفىء بينهم على السوية، ولا على التفضيل، كما لم يكونوا يفعلون ذلك فى الزكاة، فهذا هديُه وسيرتُه، وهو فصلُ الخطاب، ومحضُ الصواب.
وأما حُكمه فى الفىء، فثبت فى الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قسم يومَ حُنين فى المؤلفة قلوبُهم من الفىء، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئاً، فَعَتِبُوا عليه، فقال لهم: ((ألاَ تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ والبَعِيرِ، وتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم تَقُودُونَهُ إلى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لما تنقلبونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ)) وقد تقدَّم ذكرُ القصة وفوائدها فى موضعها.
والقصة هنا أن اللَّه سبحانه أباح لرسولهِ من الحكم فى مال الفىء ما لم يُبحه لغيره، وفى ((الصحيح)) عنه صلى الله عليه وسلم: ((إنى لأَعْطِى أَقْوَاماً، وَأَدْعُ غَيْرَهُم، والَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إلىَّ مِنَ الَّذِى أُعْطى)) وفى (الصحيح) عنه: ((إنِّى لأَعْطى أَقْوَاماً أَخَافُ ظَلَعَهُمْ وجَزَعَهُمْ، وأَكِلُ أَقْوَاماً إلى مَا جَعَلَ اللَّهُ فى قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنى والخَيْرِ، مِنْهم عَمْرُو بْن تَغٌلِب)). قال عمرو بن تغلب: فما أُحِبُّ أن لى بكلمةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمرَ النَّعَمِ.وفى ((الصحيح)): أن علياً بعث إليه بِذُهَيْبَةً من اليمن، فقَسمها أرباعاً، فأعطى الأقرعَ بنَ حابس، وأعطى زيدَ الخيل، وأعطى عَلْقَمَةَ بنَ عُلاثة وعُيَيْنَةَ بنَ حِصن، فقام إليه رجلٌ غائرُ العينين، ناتىءُ الجبهة، كثُّ اللِّحية، محلوقُ الرأس، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك أو لست أحقَّ أهلِ الأرض أن يتقىَ الله))؟، الحديث.
وفى ((السنن)): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع سهم ذى القُربى فى بنى هاشم، وفى بنى المطلب، وتَرَكَ بنى نوفل، ونبى عبدِ شمس، فانطلق جُبير بن مُطعم، وعثمانُ ابن عفان إليه، فقالا: يا رسولَ اللَّهِ، لا نُنْكِرُ فضلَ بنى هاشم لموضعهم منك، فما بالُ إخوانِنا بنى عبد المطلب، أعطيتَهم وتركتنا، وإنما نحنُ وهم بمنزلةً واحدة، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا وبَنُوا المُطَّلِبِ لا نَفْتَرِقُ فى جَاهِليَّةً وَلاَ إسْلامٍ، إنَّما نَحْنُ وَهُمْ شَىءٌ واحدٌِ)) وشَبَكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وذكر بعضُ الناس بأن هذا الحكمَ خاص بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم، وأن سهمَ ذوى القُربى يُصرف بعدَه فى بنى عبد شمس، ونبى نوفل، كما يُصرف فى بنى هاشم، وبنى المطلب، قال: لأن عبد شمس، وهاشما، والمطلب، ونوفلاً إخوة، وهُم أولادُ عبد مناف. ويقال: إن عبدَ شمس، وهاشما توأمان.
والصواب: استمرارُ هذا الحكم النبوى، وأنَّ سهمَ ذوى القربى لبنى هاشم ونبى المطلب حيث خصَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهم، وقولُ هذا القائل: إن هذا خاصُ بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم باطل، فإنه بيَّن مواضِعَ الخُمس الذى جعله الله لذوى القُربى، فلا يُتعدَّى به تلك المواضع، ولا يُقصر عنها، ولكن لم يكن يقسِمُه بينهم على السواء بين أغنيائهم وفقرائهم، ولا كان يقسِمُه قِسمَة الميراث للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، بل كان يَصرفُه فيهم بحسب المصلحة والحاجة، فيزوِّجُ منه عزبَهم، ويقضِى منه عن غارِمهم، ويُعطى منه فقيرَهم كفايته.
وفى ((سنن أبى داود)): عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: ((ولاَّنى رسول الله خُمْسَ الخمس، فوضعتُه مواضِعَه حياةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياةَ أبى بكر رضى الله عنه، وحياةَ عمر رضى الله عنه)).
وقد استدِلَّ به على أنه كان يُصْرَفُ فى مصارفه الخمسةِ، ولا يقوى هذا الاستدلال، إذ غايةُ ما فيه أنه صرفه فى مصارفه التى كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصرِفُه فيها، ولم يَعُدها إلي سواها، فأين تعميمُ الأصناف الخمسة به؟، والذى يدل عليه هدىُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأحكامُه أنه كان يجعل مصارِفَ الخمس كمصارِفِ الزكاة، ولا يخرجُ بها عن الأصناف المذكورة لا أنه يقسِمُه بينهم كقِسمة الميراث، ومن تأمل سيرته وهديَه حقَّ التأمل لم يشك فى ذلك.
وفى ((الصحيحين)): عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: كانَتْ أموالُ بنى النضير مما أفاء اللَّهُ على رسوله مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، فكانت لِرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يُنفِقُ منها على أهله نفقةَ سنة، وفى لفظ: ((يحبِسُ لأهله قوت سنتهم، ويجعلُ ما بقى فى الكراع والسلاح عُدة فى سبيل الله)).
وفى ((السنن)): عن عوف بن مالك رضى الله عنه، قال: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفىء، قسمه مِن يومه، فأعطى الآهِل حَظَّيْنِ، وأعطى العَزَب حظاً.فهذا تفصيل منه للآهِلِ بحسب المصلحة والحاجة، وإن لم تكن زوجُه من ذوى القربى.
وقد اختلف الفقهاءُ فى الفىء، هل كان مِلكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتصرف فيه كيف يشاء، أو لم يكن ملكاً له؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره.
والذى تدل عليه سنتُه وهديه، أنه كان يتصرَّف فيه بالأمر، فيضعه حيثُ أمره الله، ويقسِمُه على من أُمِرَ بقسمته عليهم، فلم يكن يتصرَّف فيه تصرُّفَ المالك بشهوته وإرادته، يُعطى من أحبَّ، ويمنعُ من أحبَّ، وإنما كان يتصرَّف فيه تصرُّفَ العبدِ المأمور يُنفِّذُ ما أمره به سيده ومولاه، فيعطى من أمر بإعطائه، ويمنع من أُمِرَ بمنعه، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا فقال: ((واللَّهِ إنِّى لا أُعطِى أحداً ولا أمنعهُ، إما أنا قاسِمٌ أَضَعُ حِيْثُ أُمِرْتُ))، فكان عطاؤه ومنعُه وقسمُه بمجرد الأمر، فإن الله سبحانه خيَّره بين أن يكونَ عبداً رسولاً، وبين أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً.
والفرقُ بينهما أن العبدَ الرسولَ لا يتصرَّفُ إلا بأمر سيِّده ومُرْسِله، والمَلِكُ الرسولُ له أن يُعطِىَ مَن يشاء، ويمنعُ من يشاء كما قال تعالى للملك الرسول سليمان: {هذا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] أى: أعطِ مَن شئتَ، وامنع من شئت، لا نحاسِبُك ؛ وهذه المرتبة هى التى عُرَضَتْ على نبينا صلى الله عليه وسلم، فَرغِبَ عنها إلى ما هو أعلى منها، وهى مرتبةُ العبودية المحضة التى تَصرُّفُ صاحبها فيها مقصورٌ على أمرِ السيد فى كُلِّ دقيق وجليل.
والمقصود: أن تصرفه فى الفىء بهذه المثابة، فهو ملك يُخالف حكم غيره من المالكين، ولهذا كان ينفق مما أفاء الله عليه مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه بخيل ولا ركاب على نفسه وأهله نفقةَ سنتهم، ويجعل الباقى فى الكُراع والسِّلاح عدة فى سبيل الله عز وجل، وهذا النوعُ مِن الأموال هو السهمُ الذى وقع بعده فيه مِن النزاع ما وقع إلى اليوم.
فأما الزكاوات والغنائم، وقسمة المواريث، فإنها معينة لأهلها لا يَشُركُهم غيرُهم فيها، فلم يُشكل على ولاة الأمر بعدَه مِن أمرها ما أشكل عليهم مِن الفىء، ولم يقع فيها مِن النزاع ما وقع فيه، ولولا إشكالُ أمره عليهم، لما طلبت فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها مِن تركته، وظنت أنه يُورث عنه ما كان ملكاً له كسائر المالكين، وخفى عليها رضى الله عنها حقيقةُ الملك الذى ليس مما يُورث عنه، بل هو صدقة بعده، ولما علِمَ ذلك خليفتهُ الراشدُ البار الصِّدِّيق، ومَن بعده من الخلفاء الراشدين لم يجعلوه ما خلفه من الفىء ميراثاً يُقسم بين ورثته، بل دفعوه إلى على والعباس يعملان فيه عملَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنازعا فيه، وترافعا إلى أبى بكر الصديق، وعمر، ولم يَقسم أحد منهما ذلك ميراثاً، ولا مكَّنا منه عباساً وعليَّا، وقد قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَللّهِ ولِلرّسُولِ وَلذِى القُرْبى وَاليَتَامَى والمَسَاكِين وابْنِ السَّبِيلِ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغَنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخَذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ ورِضْوَاناً ويَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ والإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ} [الحشر: 7-9] إلى قوله: {والَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، إلى آخر الآية. فأخبر سبحانه أن ما أفاء على رسوله بجملته لِمَن ذُكِرَ فى هذِهِ الآيات، ولم يَخُصَّ منه خمسة بالمذكورين، بل عمَّمَ وأطلق واستوعب.
ويُصرف على المصارف الخاصة، وهم أهلُ الخمس، ثم على المصارف العامة، وهم المهاجرون والأنصار وأتباعهم إلى يوم الدين. فالذى عمل به هو وخلفاؤه الراشدون، هو المرادُ من هذه الآيات، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما رواه أحمد رحمه الله وغيره عنه: ما أحدٌ أحقَّ بهذا المالِ مِن أحد، وما أنا أحقَّ به من أحد، والله ما مِن المسلمين أحد إلا وله فى هذا المال نصيب إلا عبد مملوك، ولكنا على منَازِلنا مِن كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجلُ وبلاؤُه فى الإسلام، والرجل وقِدَمُه فى الإسلام، والرجل وغَناؤه فى الإسلام، والرجل وحاجتُه، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظُّه مِن هذا المال، وهو يَرعى مكانه. فهؤلاء المسمَّوْن فى آية الفىء هم المسمَّون فى آية الخمس، ولم يدخُل المهاجرون والأنصارُ وأتباعُهم فى آية الخمسِ، لأنهم المستحقون لجملة الفىء، وأهلُ الخمس لهم استحقاقان: استحقاقٌ خاص مِن الخمس، واستحقاقٌ عام من جملة الفىء، فإنهم داخلون فى النَّصِيبَيْنِ.
وكما أن قِسمته من جملة الفىء بين مَن جعل له ليس قسمة الأملاك التى يشترك فيها المالكون ؛ كقِسمةِ المواريث والوصايا والأملاك المطلقة، بل بحسب الحاجة والنفع والغَناء فى الإسلام والبلاء فيه، فكذلك قِسمة الخمسِ فى أهله، فإن مخرجَهما واحد فى كتاب الله، والتنصيصُ على الأصناف الخمسة يُفيد تحقيق إدخالهم. وأنهم لا يُخرجون من أهل الفىء بحال، وأن الخمس لا يعدوهم إلى غيرهم، كأصناف الزكاة لا تعدوهم إلى غيرهم، كما أن الفىء العام فى آية الحشر للمذكورين فيها لا يتعداهم إلى غيرهم، ولهذا أفتى أئمة الإسلام، كمالك، والإمام أحمد وغيرهما، أن الرافضة لا حقَّ لهم فى الفىء لأنهم ليسوا من المهاجرين، ولا من الأنصار، ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون:{رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وهذا مذهبُ أهل المدينة، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل القرآن، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين.
وقد اختلف الناسُ فى آية الزكاةِ وآيةِ الخمس، فقال الشافعى: تجب قسمةُ الزكاة والخمس على الأصناف كلِّها، ويُعطى مِن كل صنف مَن يطلق عليه اسم الجمع.
وقال مالك رحمه الله وأهلُ المدينة: بل يُعطى فى الأصناف المذكورة فيهما، ولا يعدوهم إلى غيرهم، ولا تجب قسمةُ الزكاة ولا الفىء فى جميعهم.
وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة: بقول مالك رحمهم الله فى آية الزكاة، وبقول الشافعى رحمه الله فى آية الخمس.
ومن تأمل النصوصَ، وعَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وجده يدل على قول أهل المدينة، فإن الله سبحانه جعل أهل الخمس هم أهل الفىء، وعيَّنهم اهتماماً بشأنهم، وتقديماً لهم، ولما كانت الغنائمُ خاصة بأهلها لا يشركهم فيها سواهم، نصَّ على خمسها لأهل الخمس، ولما كان الفىء لا يختصُ بأحد دون أحد، جعل جملته لهم، وللمهاجرين والأنصار وتابعيهم، فسوَّى بينَ الخمسِ وبين الفىء فى المصرِف، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصِرفُ سهم الله وسهمَه فى مصالح الإسلام، وأربعةَ أخماس الخمس فى أهلها مقدماً لِلأهم فالأهم، والأحوج فالأحوج، فيزوج منه عزابَهم، ويقضى منه ديونهم، ويُعين ذا الحاجة منهم، ويُعطى عزبهم حظاً، ومتزوجَهم حظَّين، ولم يكن هو ولا أحدٌ من خلفائه يجمعون اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وذوى القربى، ويقسمون أربعة أخماس الفىء بينهم على السوية، ولا على التفضيل، كما لم يكونوا يفعلون ذلك فى الزكاة، فهذا هديُه وسيرتُه، وهو فصلُ الخطاب، ومحضُ الصواب.
عدد المشاهدات *:
631409
631409
عدد مرات التنزيل *:
109837
109837
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 21 ماي 2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 20/02/2015