اختر السورة


برنامج تلاوة القرآن الكريم
برنامج مراجعة القرآن الكريم
برنامج استظهار القرآن الكريم
يوم الجمعة 19 رمضان 1445 هجرية
? ?? ?????? ?????? ???? ????? ?????????? ??????? ?? ?????? ?????? ???? ????? ???????? ????????????? ?????? ????? ?????? ???? ?????? . ????? ?????? ????? ??????? ???? ?????? . ????? ?????? ????? ?????? ???? ?????? ? ????? ?????? ????? ?????? ???? ??????? ??? ???????? ???? ??? ???? ????

مواقع إسلامية

جمعية خيركم
منتدى الأصدقاء
مدونة إبراهيم
مدونة المهاجر

بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
اللهم صل و سلم على نبيك محمد و على آله و صحبه أجمعين

صدقة

لحظة من فضلك



المواد المختارة

المدرسة العلمية :


Safha Test

بسم الله الرحمن الرحيم     السلام عليكم و رحمة الله و بركاته    مرحبا بك أخي الكريم مجددا في موقعك المفضل     المحجة البيضاء     موقع الحبر الترجمان الزاهد الورع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما    
مجموع فتاوى ابن تيمية
المجلد الثامن
كتاب القدر
فصل: في قدرة الله تعالى و مشيئته‏
فصــل في قدرة الرب عز وجل ـ الجزء الثاني ـ
مجموع فتاوى ابن تيمية

والتوحيد أول الدين وآخره، فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، وقال‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله‏)‏ ، وقال لمعاذ‏:‏ ‏(‏إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)‏، وختم الأمر بالتوحيد فقال في الصحيح ـ من رواية مسلم ـ عن عثمان‏:‏ ‏(‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏، وفي الحديث الصحيح من رواية مسلم عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله‏)‏، وفي السنن من حديث معاذ‏:‏ ‏(‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏، وفي المسند‏(‏إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد /حين الموت إلا وجد روحه لها روحًا‏)‏، وهي الكلمة التي عرضها على عمه عند الموت
فهو ـ سبحانه ـ جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، فيتذكر الآيات المثبتة للعلم والإيمان، فإذا عرف آلاء الله شكره على آلائه، وكلاهما متلازمان، فالآيات والآلاء متلازمان، ما كان من الآلاء فهو من الآيات، وما كان من الآيات فهو من الآلاء، وكذلك الشكر والتذكر متلازمان، فإن الشاكر إنما يشكر بحمده، وطاعته، وفعل ما أمر به، وذلك إنما يكون بتذكر ما تدل عليه آياته من أسمائه وممادحه، ومن أمره ونهيه، فيثنى عليه بالخير، ويطاع في الأمر هذا هو الشكر، ولابد فيهما من التذكر، والمتذكر إذا تذكر آياته عرف ما فيها من النعمة والإحسان، فآياته تعم المخلوقات كلها، وهي خير ونعم وإحسان‏.‏
فكل ما خلقه ـ سبحانه ـ فهو نعمة على عباده، وهو خير، وهو ـ سبحانه ـ بيده الخير، والخير بيديه، وفي دعاء القنوت‏(‏ونثني عليك الخير كله‏)‏، وفي دعاء الاستفتاح‏:‏ ‏(‏والخير بيديك، والشر ليس إليك‏)‏
وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة، كما قال‏:‏ ‏{‏صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏، وهو ـ سبحانه ـ غني عن العالمين، فالحكمة تتضمن شيئين‏:‏
أحدهما‏:‏ حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها
/والثاني‏:‏ إلى عباده، هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها، وهذا في المأمورات وفي المخلوقات
أما في المأمورات، فإن الطاعة هو يحبها ويرضاها، ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يعرفه الناس، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه، فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه، ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة، وذلك مما يفرح به العبد المطيع، فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍُ‏.‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏.‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏.‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 1-13‏]‏
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها، وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار، وقد قال في أول السورة‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏، فهو يحب ذلك، ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى، وفيه رحمة للعباد، وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا/ والآخرة، هكذا سائر ما أمر به، وكذلك ما خلقه خلقه لحكمة تعود إليه يحبها، وخلقه لرحمة بالعباد ينتفعون بها
والناس لما تكلموا في علة الخلق وحكمته؛ تكلم كل قوم بحسب علمهم، فأصابوا وجهًا من الحق، وخفى عليهم وجوه أخرى
وهكذا عامة ما تنازع فيه الناس، يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشىء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق، فهم جاؤوا بالصدق وصدقوا به فلا يختلفون
ولأهل الكلام هنا ثلاثة أقوال لثلاث طوائف مشهورة، وقد وافق كل طائفة ناس من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد‏:‏
القول الأول‏:‏ قول من نفى الحكمة وقالوا‏:‏ هذا يفضي إلى الحاجة، فقالوا‏:‏ يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا له القدرة والمشيئة، وإنه يفعل ما يشاء‏.‏ وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة، وهذا قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يَعْلَى وابن الزاغوني والجُوَيْني/والباجي ونحوهم، وهذا القول في الأصل قول جَهْم ابن صفوان ومن اتبعه من المجبرة
والفلاسفة لهم قول أبعد من هذا، وهو‏:‏ أن ما يقع من عذاب النفوس وغير ذلك من الضرر لا يمكن دفعه، فإنهم يقولون‏:‏ إنه موجب بذاته، وكل ما يقع هو من لوازم ذاته‏.‏ ولو قالوا‏:‏ إنه موجب بمشيئته وقدرته لما يفعله لكانوا قد أصابوا، وقد قالوا ـ أيضًا ـ‏:‏ الشر يقع في العالم مغلوبًا مع الخير في الوجود، وهذا صحيح؛ لكن هذا يستلزم أن يكون الخالق قد خلق لحكمة معلومة تسلم ولا تعد، وإلا فمع انتفاء هذين يبقى الكلام ضائعًا، ففي قول كل طائفة نوع من الحق ونوع من الباطل، فهذه أربعة أقوال
والقول الخامس، قول الأئمة، وهو أن له حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة
والقول الثاني ـ أي‏:‏ من الثلاثة التي لأهل الكلام ـ‏:‏ أنه يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهو نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق، ولم يأمر إلا لذلك، وهذا قول المعتزلة وغيرهم، ثم من هؤلاء من تكلم في تفصيل الحكمة، فأنكر القدر، ووضع لربه شرعًا بالتعديل والتجويز، وهذا قول القدرية‏.‏ ومنهم من أقر بالقدر وقال‏:‏ لله حكمة خفيت علينا‏.‏ وهذا قول ابن عقيل/ وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات حكمة ترجع إلى المخلوق لكن يقرون مع ذلك بالقدر
والقول الثالث‏:‏ قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقالوا‏:‏ خلقهم ليعبدوه ويحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، وهم من خلقه لذلك، وهم من وجد منه ذلك فهو مخلوق لذلك، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقًا له‏.‏ قالوا‏:‏ وهذه حكمة مقصودة وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد، ثم قالوا‏:‏ خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق بل يتضرر به، فتناقضوا، ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وهي معرفة عباده المؤمنين به، وحمدهم له، وثناؤهم عليه، وتمجيدهم له، وهذا واقع من المؤمنين‏.‏
قالوا‏:‏ وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد وإن تضمن ضررًا لبعض الناس‏.‏ قالوا‏:‏ وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهاد ومصالح‏.‏ وهذا القول اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، ذكره في كتابه ‏[‏أصول الدين‏]‏ الذي صنفه على كتاب محمد بن الهَيْصَم الكَرّامِيّ‏.‏
قالوا‏:‏ وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف‏.‏ قالوا‏:‏ والمراد /بذلك من وجدت منه العبادة، فهو مخلوق لها، ومن لم توجد منه فليس مخلوقًا لها‏.‏ وعن سعيد بن المسَيَّب قال‏:‏ ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، وكذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة ـ وهذا قول خاص بأهل طاعته ـ قال الضحاك‏:‏ هي للمؤمنين، وهذا قول الكَرَّامِيَّة، كما ذكره محمد بن الهيصم، قال‏:‏ ويدل عليه قوله قبل ذلك‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏54‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ أي‏:‏ هؤلاء المؤمنين الذين تنفعهم الذكرى‏.‏
قالوا‏:‏ وهي غاية مقصودة واقعة، فإن العبادة وقعت من المؤمنين، وهذا القول اختيار أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى وغيرهما ممن يقول‏:‏إنه لا يفعل لعلة، قالوا ـ واللفظ للقاضي أبي يعلى ـ‏:‏ هذا بمعنى الخصوص لا العموم؛ لأن البُلْه والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس ،وكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله‏:‏‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏، فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة‏.‏
قلت‏:‏قول هؤلاء الكرامية ومن وافقهم،وإن كان أرجح من قول الجهمية والمعتزلة، فيما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور، ولما تدل عليه الآية، فإن قصد العموم ظاهر في الآية، وبين بيانًا لا يحتمل النقيض ؛ إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة، فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له،/ ولم يذكر الإنس والجن عمومًا، ولم تذكر الملائكة، مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن‏.‏
وأيضًا، فإن سياق الآية يقتضي أن هذا ذم وتوبيخ لمن لم يعبد الله منهم؛ لأن الله خلقه لشىء فلم يفعل ما خلق له؛ ولهذا عقبها بقوله‏:‏ ‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات ‏:‏57‏]‏، فإثبات العبادة ونفي هذا يبين أنه خلقهم للعبادة، ولم يرد منهم ما يريده السادة من عبيدهم من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، ولهذا قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا‏}‏ أي‏:‏ نصيباً ‏{‏مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏59‏]‏ أى‏:‏ المتقدمين من الكفار، أي‏:‏ نصيبًا من العذاب، وهذا وعيد لمن لم يعبده من الإنس والجن، فذكر هذا الوعيد عقيب هذه الآية ـ من أولها إلى آخرها ـ يتضمن وعيد من لم يعبده‏.‏
وذكر عقابه لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى في أولها‏:‏ ‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏.‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏1، 6‏]‏،ثم ذكر قوله‏:‏‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏.‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8، 9‏]‏، ثم ذكر وعيد الآخرة بقوله‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏.‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ‏.‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ‏.‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏1، 13‏]‏، ثم ذكر وعده للمؤمنين فقال‏:‏‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏.‏ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏.‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏.‏ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏15-23‏]‏، ثم ذكر قصص من آمن فنفعه إيمانه، ومن كفر فعذبه بكفره، فذكر قصة إبراهيم ولوط وقومه وعذابهم،/ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏.‏ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 37، 38‏]‏، أي‏:‏ في قصة موسى آية ـ أيضًا ـ هذا قول الأكثرين، ومنهم من لم يذكر غيره كأبي الفرج، وقيل‏:‏ هو عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ‏}‏ ، ‏{‏وَفِي مُوسَى‏}‏ وهو ضعيف؛ لأن قصة فرعون وعاد هي من جنس قوم لوط، فيها ذكر الأنبياء ومن اتبعهم ومن خالفهم، يدل بها على إثبات النبوة، وعاقبة المطيعين والعصاة‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الْأَرْضِ‏}‏ ، ‏{‏وَفِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ ، فتلك آيات على الصانع جل جلاله، وقد تقدمت؛ ولأنه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمثل هذا الكلام الكثير، مع أن قبله لا يصلح العطف عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَفِي عَادٍ‏}‏ ، ‏{‏وَفِي ثَمُودَ ّ‏}‏، ثم ذكر أنه بني السماء بأيد، وفرش الأرض، وخلق من كل شىء زوجين لعلكم تذكرون، فلما بين الآيات الدالة على ما يجب من الإيمان وعبادته، أمر بذلك، فقال‏:‏ ‏{‏فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏.‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ الآية ‏[‏الذاريات‏:‏5، 51‏]‏، ثم بين أن هؤلاء المكذبين من جنس من قبلهم ليتأسى الرسول والمؤمنون ويصبروا على ما ينالهم من أذى الكفار، فقال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏.‏ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات ‏:‏52، 53‏]‏‏.‏
فهذا كله يتضمن أمر الإنس والجن بعبادته وطاعته وطاعة رسله، واستحقاق من يفعل العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏.‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56، 57‏]‏؛ كان هذا مناسبًا لما تقدم، مؤتلفًا معه، أي‏:‏ هؤلاء الذين أمرتهم، إنما خلقتهم لعبادتي ما أريد منهم غير ذلك، لا رزقًا ولا طعامًا‏.‏
فإذا قيل‏:‏ لم يرد بذلك إلا المؤمنين، كان هذا مناقضًا لما تقدم ـ يعني في السورة ـ وصار هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه، وغايته يقول‏:‏ أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك، ولو خلقتني لها لكنت عابدًا، وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك، وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك، وأكذب رسلك، وأعبد الشيطان وأطيعه، وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له، فلا ذنب لي، ولا أستحق العقوبة، فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول، وكلام الله منزه عن هذا، وهم إنما قالوا هذا؛ لأن الله ـ تعالى ـ فعال لما يريد، قالوا‏:‏ فلو كان أراد منهم أن يطيعوه؛ لجعلهم مطيعين، كما جعل المؤمنين‏.‏
والقدرية يقولون‏:‏ لم يرد من هؤلاء ولا هؤلاء إلا الطاعة، لكن هو لم يجعل لا هؤلاء ولا هؤلاء مطيعين، بل الإرادة بمعنى الأمر يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم‏.‏
وأولئك علموا فساد قول القدرية من جهة أن الله خالق كل شىء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما شاءه، ولا يكون في ملكه شىء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما دل على ذلك السمع/ والعقل، وهذا مذهب الصحابة قاطبة، وأئمة المسلمين وجمهورهم، وهو مذهب أهل السنة؛ فلأجل هذا عدل أولئك في تفسير الآية إلى الخصوص، فإنهم لم يمكنهم الجمع بين الإيمان بالقدر، وبين أن يكون خلقهم لعبادته، فلم تقع منهم العبادة له، وقالوا‏:‏ من ذرأه لجهنم لم يخلقه لعبادته، فمن قال‏:‏ خلق الخلق ليعبده المؤمنون منهم، سلك هذا المسلك‏.‏
وأما نفاة الحكمة، كالأشعري وأتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي يعلي وغيرهم، فهؤلاء أصلهم‏:‏ أن الله لا يخلق شيئًا لشىء، فلم يخلق أحدًا لا لعبادة ولا لغيرها، وعندهم ليس في القرآن لام كي، لكن قد يقولون‏:‏ في القرآن لام العاقبة، كقوله‏:‏ ‏{‏فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏8‏]‏، وكذلك يقولون في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏ يعنون‏:‏ كان عاقبة هؤلاء جهنم، وعاقبة المؤمنين العبادة، من غير أن يكون الخالق قصد أن يخلقهم لا لهذا ولا لهذا، ولكن أراد خلق كل ما خلقه، لا لشىء آخر، فهذا قولهم، وهو ضعيف لوجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن لام العاقبة التي لم يقصد فيها الفعل لأجل العاقبة، إنما تكون من جاهل أو عاجز، فالجاهل كقوله‏:‏‏{‏فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏}‏ لم يعلم فرعون بهذه العاقبة، والعاجز كقولهم‏:‏ لِدُوا للموت، وابنوا للخراب، فإنهم يعلمون هذه العاقبة، لكنهم عاجزون عن دفعها، والله ـ تعالى ـ عليم قدير، فلا يقال‏:‏ إن فعله كفعل الجاهل العاجز‏.‏
/الثاني‏:‏ أن الله أراد هذه الغاية بالاتفاق، فالعبادة التي خلق الخلق لأجلها هي مرادة له بالاتفاق،وهم يسلمون أن الله أرادها، وحيث تكون اللام للعاقبة لا يكون الفاعل أراد العاقبة، وهؤلاء يقولون‏:‏ خلقهم وأراد أفعالهم، وأراد عقابهم عليها، فكل ما وقع فهو مراد له ولكنه عندهم لا يفعل مرادًا لمراد أصلاً؛ لأن الفعل للعلة يستلزم الحاجة، وهذا ضعيف بين الضعف، وأهل الخصوص قالوا مثل هذا الجواب‏.‏
وطائفة أخرى قالوا‏:‏ هي على العموم لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقهم له، من السعادة والشقاوة، هذا جواب زيد بن أسلم وطائفة، وهذا القول الثاني في تفسير الآية‏.‏
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، عن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ قال‏:‏ جَبَلَهُم على الشقاوة والسعادة، وقال وَهْبُ بن مُنَبه‏:‏ جبلهم على الطاعة، وجبلهم على المعصية، وهذا يشبه قول من قال في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏، أي ‏:‏على ما كتب له من سعادة وشقاوة، كما قال ذلك طائفة؛ منهم‏:‏ ابن المبارك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وقد قيل لمالك‏:‏ أهل القدر يحتجون علينا بهذا الحديث، فقال‏:‏ احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله‏:‏ ‏(‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏)‏، وهذا الجواب يصلح أن يجاب به من أنكر العلم، كما كان على ذلك طائفة من القدماء وهم المعروفون بالقدرية في لغة مالك‏.‏
/إلى أن قال‏:‏ ومن فسر هذه الآية بأن المراد بـ ‏{‏يَعْبُدُونِ‏}‏‏:‏ هو ما جبلهم عليه، وما قدره عليهم من السعادة والشقاوة، وإن ذلك هو معنى الحديث، فإن هؤلاء جعلوا معني ‏{‏يَعْبُدُونِ‏}‏ بمعنى‏:‏ يستسلمون لمشيئتي وقدرتي، فيكونون مُعَبَّدِينَ مُذَلَّلِين؛كي يجرى عليهم حكمي ومشيئتي لا يخرجون عن قضائي وقدري، فهذا معنى صحيح في نفسه، وإن كانت القدرية تنكره، فبإنكارهم لذلك صاروا من أهل البدع، بل الله خالق كل شىء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجرٌ من شر ما ذرأ وبرأ، وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده‏)‏‏.‏
فكلماته التامة هي التي كون بها الأشياء كما قال تعالى ‏:‏‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، لا يجاوزها بر ولا فاجر، ولا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، وهذا المعنى قد دل عليه القرآن في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 111‏]‏، ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏7‏]‏، وقوله في السحر‏:‏‏{‏وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏12‏]‏، ‏{‏فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
ولكن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه وحاموا حوله،من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره /وحكمه، فالمخلوقات كلها داخلة في هذا، لا يشذ منها شىء عن هذا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏.‏ وَأَنْ اعْبُدُونِي‏}‏الآية ‏[‏يس‏:‏6، 61‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏36‏]‏، ‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏17‏]‏، ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏3‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏18‏]‏‏.‏
فهذا ـ ونحوه ـ كثير في القرآن‏.‏ لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدون الله، بل يعبدون الشيطان وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله ـ تعالي ـ كما أخبر الله بذلك‏.‏ فكيف يقال‏:‏ إن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جاريًا عليهم‏؟‏ والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله، وبين أن يعبدهم هو وينفذ فيهم مشيئته، وتكون عبادتهم لغيره‏:‏ للشيطان وللأصنام من المقدور‏.‏
وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين‏:‏ أنا كافر برب يعصى، فيجعل كل ما يقع طاعة، كما جعله هؤلاء عبادة لله ـ تعالى ـ لكونهم تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس‏:‏ إن كان عصى الأمر، فقد أطاع المشيئة ،لكن هؤلاء مباحية، يسقطون الأمر‏.‏
/وأما زيد بن أسلم، ووهب بن منبه، ونحوهم، فحاشاهم من مثل هذا، فإنهم كانوا من أعظم الناس تعظيمًا للأمر والنهي، والوعد والوعيد ،ولكن قصدوا الرد على المكذبين بالقدر، القائلين‏:‏ بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهؤلاء حقيقة قولهم‏:‏ أنه لا يقدر على تعبيدهم، وتصريفهم تحت مشيئته، فأرادوا إبطال قول هؤلاء، ونعم ما أرادوا ‏!‏لكن الكلام فيما أريد بالآية‏.‏
وقول أولئك الإباحية يشبه قول من قال‏:‏ إن العارف إذا شهد المشيئة سقط عنه الملام، وأنه إذا شهد الحكم ـ يعني المشيئة ـ لم يستحسن ولم يستقبح سببه، ونحو هذا من أقوال هؤلاء الذين تشبه أقوالهم أقوال المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، كما قد بسط الكلام عليه، وبين أن إثبات القدر السابق حق، لكن ذلك هو الذي يصير العبد إليه، ليس هو الذي فطر عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِهِ أو يُنصرَانِه أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتِجُ البهيمة بهيمة جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جَدْعَاء‏؟‏ ‏)‏‏.‏ فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ضربه ‏:‏أن البهيمة تولد سليمة ثم تُجْدَع، والجَدْع كان مقدرًا عليها، كذلك العبد يولد على الفطرة سليمًا، ثم يفسد بالتَّهَوّدِ والتنصير، وذلك كان مكتوبًا أن يكون‏.‏
وصاحب هذا القول إنما قاله ليبين ما خلقوا له، وقد قصد هذا طائفة/ فسروا العبادة بأمر واقع عام، وليست هي العبادة المأمور بها على ألسن الرسل، ففي تفسير ابن أبي طلحة المضاف إلى ابن عباس‏:‏ إلا ليقروا بالعبودية طوعًا وكرهًا، وهذه العبودية كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏83‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏15‏]‏، وفسرت طائفة الكره بأنه جريان حكم القدر، فيكون كالقول قبله، والصحيح أنه انقيادهم لحكمه القدري بغير اختيارهم، كاستسلامهم عند المصائب، وانقيادهم لما يكرهون من أحكامه الشرعية، فكل أحد لابد له من انقياده لحكمه القدري والشرعي، فهذا معنى صحيح، قد بسط في غير هذا الموضع، لكن ليس هو العبادة‏.‏
وكذلك قال بعضهم‏:‏ إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، قالوا‏:‏ ومعنى العبادة في اللغة‏:‏ التذلل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ـ تعالى ـ متذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق‏.‏
وقد ذكر أبو الفرج قول ابن عباس هذا، قال‏:‏ وبيان هذا قوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏87‏]‏، وهذه الآية توافق من قال‏:‏ إلا ليعرفون ـ كما سيأتي ـ وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم لم يقروا بذلك كرهًا، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له فإنه يكون كرهًا، وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه، وبذلوه طوعًا ‏.‏
/وقيل‏:‏ قول رابع‏:‏ روى ابن أبي حاتم عن زائدة عن السُّدِّي‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ قال‏:‏ خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومن العبادة عبادة لا تنفع ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏ هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع شركهم، وهذا المعنى صحيح، لكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله لا يعبد، ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانع عبادة لله مع الشرك بالله، ولكن يقال كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏16‏]‏ فإيمانهم بالخالق مقرون بشركهم به، وأما العبادة ففي الحديث‏:‏ ‏(‏ يقول الله‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك ‏)‏، فعبادة المشركين وإن جعلوا بعضها لله لا يقبل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله ـ سبحانه ـ ومثل هذا قول من قال‏:‏ إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء، دون النعمة والرخاء، بيانه في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏65‏]‏‏.‏
وقيل‏:‏ قول خامس‏:‏ ذكره ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، قال‏:‏ ليعرفون، قال‏:‏ وروى عن قتادة، وذكره البغوي عن مجاهد‏.‏ قال‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ إلا ليعرفون‏.‏ قال‏:‏ وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، ودليله قوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏38‏]‏، فيقال‏:‏ هذا المعنى صحيح، وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضى أن/ خلقهم شرط في معرفتهم، لا يقتضى أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها، و هذا من جنس قول السدى، فإن هذا الإقرار العام هم مشركون فيه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏172‏]‏، لكن ليس هذا هو العبادة‏.‏
فهذه الأقوال الأربعة، قول من عرف أن الآية عامة، فأراد أن يفسرها بعبادة تعم الإنس والجن، واعتقد أنه إن فسرها بالعبادة المعروفة، وهي الطاعة لله والطاعة لرسله، لزم أن تكون واقعة منهم، ولم تقع، فأراد أن يفسرها بعبادة واقعة، وظن أنه إذا فسرها بعبادة لم تقع لزمه قول القدرية، وأنه خلقهم لعبادته فعصوه بغير مشيئته وغير قدرته، ففروا من قول القدرية وهم معذورون في هذا الفرار، لكن فسرها بما لم يرد بها، كما يصيب كثير من الناس في الآيات التي يحتج أهل البدع بظاهرها، كاحتجاج الرافضة بقوله‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ على مسح ظهر القدمين، فترى المخالفين لهم يذكرون أقوالاً ضعيفة، هذا يقول‏:‏ مجرورًا بالمجاورة، كقوله‏:‏ جُحْر ضَبّ خَرِب، ونحو هذا من الأقوال الضعيفة، وكذلك ما قالوه في قوله‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى‏)‏ وأمثال ذلك‏.‏
والقول السادس ـ وإن كان أبو الفرج لم يذكر فيها إلا أربعة أقوال ـ وهو الذي عليه جمهور المسلمين‏:‏ أن الله خلقهم لعبادته وهو فعل ما أمروا به؛ ولهذا يوجد المسلمون قديمًا وحديثًا يحتجون بهذه الآية على هذا/المعنى، حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم، كما في حكاية إبراهيم بن أدهم‏:‏ ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؛ وفي حديث إسرائيلي‏:‏ يابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكَفَّلتُ برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شىء، وإن فُتَّكَ فاتك كل شىء وأنا أحب إليك من كل شىء‏.‏ وهذا هو المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، وغيره من السلف، فذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي‏.‏
قالوا‏:‏ ويؤيده قوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، وهذا اختيار الزجاج وغيره، وهذا هو المعروف عن مجاهد بالإسناد الثابت، قال ابن أبي حاتم‏:‏ ثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أسامة عن شِبْل، عن ابن أبي نجِيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏‏:‏ لآمرهم وأنهاهم، كذلك روى عن الرَّبِيع بن أنس قال‏:‏ ما خلقتهما إلا للعبادة‏.‏
ويدل على هذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏36‏]‏، يعنى‏:‏ لا يؤمر ولا ينهى، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏77‏]‏، أي‏:‏ لولا عبادتكم، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏147‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏13، 131‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏.‏ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ الآيات ‏[‏يس‏:‏6، 61‏]‏ /وما بعدها، وقالت الجن لما سمعوا القرآن‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏.‏ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏3، 31‏]‏ ، وما بعدها، وقالت الجن‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا‏}‏ الآية ‏[‏الجن‏:‏14‏]‏ وما بعدها‏.‏
وقد قال في القرآن في غير موضع‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏21‏]‏، ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏1‏]‏، فقد أمرهم بما خلقهم له وأرسل الرسل إلى الإنس والجن، ومحمد أرسل إلى الثقلين، وقرأ القرآن على الجن، وقد روى أنه لما قرأ عليهم سورة الرحمن وجعل يقرأ‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏13‏]‏ يقولون‏:‏ ولا بشىء من آلائك ربنا نُكَذِّب فلك الحمد‏.‏ فهذا هو المعنى الذي قصد بالآية قطعًا، وهو الذي تفهمه جماهير المسلمين، ويحتجون بالآية عليه، ويعترفون بأنه الله خلقهم ليعبدوه، لا ليضيعوا حقه، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏‏(‏ فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك‏؟‏‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم،قال‏:‏‏(‏ فإن حقهم عليه ألا يعذبهم ‏)‏، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏‏.‏
/ثم للناس على هذا القول قولان‏:‏
قول أهل السنة المثبتة للقدر، وقول نفاته، فصارت الأقوال في الآية سبعة، وفي الحكمة خمسة‏.‏
فأما أهل السنة المثبتون للقدر فيقولون‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونٍِِِِ}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، لا يستلزم وقوع العبادة منهم، كما قال أصحاب هذه الأقوال المتقدمة، ولا يستلزم نفي المقدور أن يكون في ملكه ما لا يشاء أو يشاء مالا يكون، كما قالت القدرية، فهؤلاء يقولون‏:‏ لم يقع ما خلقهم له لكونه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، أولئك قالوا‏:‏ إذا كان ما يشاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فما لم يقع لم يشأه، فما لم يقع من العبادة لم يشأها، وهذا معنى صحيح، ثم قالوا‏:‏ وما خلقهم له فلابد أن يشاء أن يخلقه، فلما لم يشأه أن يخلق هذا لم يخلقهم له‏.‏
فالطائفتان أصل غلطهم ظنهم أن ما خلقهم له يشاء وقوعه، وأولئك يقولون‏:‏ يشاء أن يخلقه، وهؤلاء يقولون‏:‏ يشاء وقوعه منهم، بمعنى‏:‏ يأمرهم به، وما عندهم أن له مشيئة في أفعال العباد غير الأمر، وهم يعصون أمره؛ فلهذا قالوا‏:‏ يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، كما يقولون‏:‏ يفعلون ما نهاهم عنه، ويتركون ما أمرهم به، وهذا المعنى صحيح إذا أريد الأمر الشرعي؛ لكن القدرية النفاة لا يقولون‏:‏ إنه شاء إلا بمعنى أمر، فعندهم ما ليس طاعة من أفعال العباد ما لا/ يشاؤه فإنه لا يخلقه عندهم، وإذا لم يخلقه لم يشأه، فإنه ما شاء أن يخلقه خلقه باتفاق المسلمين‏.‏
والقدرية لا تنازع في هذا، لا ينازعون في أنه ما شاء أن يفعله هو فعله، وأنه قادر على أن يفعل ما يشاء أن يفعله، لكن عندهم أن أفعال العباد لا تدخل في خلقه، ولا في قدرته، ولا في مشيئته، ولا في مشيئته أن يفعل، لكن المشيئة المتعلقة بها بمعنى الأمر فقط، فيقولون‏:‏ خلقهم لعبادته أن يفعلوها هم، وقد أمرهم بها، فإذا لم يفعلوها كان ذلك بمنزلة عصيان أمره‏.‏
وأما المثبتون للقدر فيقولون‏:‏ إنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، و هو ـ سبحانه ـ خالق كل شىء‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118‏]‏، ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏253‏]‏، ‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏112‏]‏ وأمثال ذلك، فإذا خلقهم للعبادة المأمور بها ولم يفعلوها لم يكن قد شاء أن تكون ؛ إذ لو شاء أن تكون لكونها، لكن أمرهم بها، وأحب أن يفعلوها، ورضى أن يفعلوها، وأراد أن يفعلوها، إرادة شرعية تضمنها أمره بالعبادة‏.‏
ومن هنا يتبين معنى الآية، فإن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، يشبه قوله‏:‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏97‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ‏}‏ الآية ‏[‏الطلاق‏:‏12‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهٌِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ فهو لم يرسله إلا ليطاع، ثم قد يطاع وقد يعصى‏.‏
وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، ومثل هذا كثير في القرآن، يبين أنه فعل ما فعل ليكبروه وليعدلوا، ولا يظلموا، وليعلموا ما هو متصف به، وغيره مما أمر الله به العباد، وأحبه لهم ورضيه منهم، وفيه سعادتهم وكمالهم وصلاحهم وفلاحهم إذا فعلوه، ثم منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعله‏.‏
وهو ـ سبحانه ـ لم يقل‏:‏ إنه فعل الأول ليفعل هو الثاني، ولا ليفعل بهم الثاني، فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة، ويمتنع أن يفعل أمرًا ليفعل أمرًا ثانيًا ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونون هم الفاعلين له فيحصل بفعلهم سعادتهم، وما يحبه ويرضاه لهم، فيحصل ما يحبه هو وما يحبونه هم، كما تقدم أن كل ما خلقه وأمر به غايته محبوبة لله ولعباده، وفيه حكمة له، وفيه رحمة لعباده‏.‏
فهذا الذي خلقهم له لو فعلوه لكان فيه ما يحبه وما يحبونه، ولكن لم يفعلوه فاستحقوا ما يستحقه العاصي المخالف لأمره، التارك فعل ما خلق لأجله من/ عذاب الدنيا والآخرة، وهو ـ سبحانه ـ قد شاء أن تكون العبادة ممن فعلها، فجعلهم عابدين مسلمين بمشيئته وهداه لهم، وتحبيبه إليهم الإيمان، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏7‏]‏، فهؤلاء أراد العبادة منهم خلقًا وأمرًا أمرهم بها، وخلقًا جعلهم فاعلين‏.‏
والصنف الثاني لم يشأ هو أن يخلقهم عابدين، وإن كان قد أمرهم بالعبادة، والله سبحانه أعلم‏.‏

عدد المشاهدات *:
345511
عدد مرات التنزيل *:
248665
حجم الخط :

* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة

- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013

مجموع فتاوى ابن تيمية

روابط تنزيل : فصــل في قدرة الرب عز وجل ـ الجزء الثاني ـ
 هذا رابط   لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
أرسل إلى صديق
. بريدك الإلكتروني :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
. بريد صديقك :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
اضغط هنا لتنزيل البرنامج / المادةاضغط هنا لتنزيل   فصــل في قدرة الرب عز وجل ـ الجزء الثاني ـ
اضغط هنا للطباعة طباعة
 هذا رابط   فصــل في قدرة الرب عز وجل ـ الجزء الثاني ـ  لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
يمكنكم استخدام جميع روابط المحجة البيضاء في مواقعكم بالمجان
مجموع فتاوى ابن تيمية


@designer
1