/ سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ عن قول علي ـ رضي الله عنه ـ: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ما معنى ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78، 79].
فإن كثيرًا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي.
/ثم المثبتة للقدر يحتجون بقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فيعارضهم قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، ونفاة القدر يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم: أن العبد يخلق جميع أعماله، ويعارضهم قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي، وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، وقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، وقوله تعالى: {وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9] ونحو ذلك، وهذا كثير.
وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره، فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا: هذا من عند الله، وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا: هذا من عندك ـ يا محمد ـ بسبب الدين الذي أمرتنا به، كما قال قوم فرعون لموسى، وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]،وكما قال الكفار لرسل عيسى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين،فبين/الله ـ سبحانه ـ أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)، وقد قال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [ هود: 2، 3].
فبين: أن من وحده واستغفره متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث: (يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار)، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ولهذا قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 42، 43]، أي: فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجىء البأس التضرع، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة؛ ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173- 175].
فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه: لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله، كما في الأثر: ( يقول الله: أنا الله، مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم).
أما قوله: لا يرجون عبد إلا ربه. فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران: 173].
فهؤلاء قالوا: حسبنا الله، أي: كافينا الله في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا: حسبنا في جلب النعماء، فهو ـ سبحانه ـ كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير، أليس الله بكاف عبده، ومن توكل على غير الله ورجاه، خذل من جهته وحرم، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]، وقال الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]،وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] كما قيل في تفسيرها: كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30].
ومما يوضح ذلك: أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله ـ سبحانه ـ هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن، وإن شاءه الناس.
وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب، فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب ـ وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ لكان الواجب ألا/ يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه، حتى يحصل المقصود.
فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده، لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات، والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك، فهو ـ مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل ـ فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكًا مطاعًا، ولابد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضى وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضى، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيًا، وإن سمى مقتضيًا وسمى سائر ما يعينه شروطًا، فهذا نزاع لفظي. وحينئذ فيقال: لابد من وجود المقتضى الشروط، وانتفاء الموانع، وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها، فهذا باطل.
/ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب، فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له: هذا أيضًا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو ـ سبحانه ـ خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يطلب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26-28].
/والصادر عنهم إما قول وإما عمل، فالقول لا يسبقونه به بل لا يقولون حتى يقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وعلينا أن نكون معه ومع رسله هكذا، فلا نقول في الدين حتى يقول، ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله ولا نعبده إلا بما أمر، وأعلى من هذا ألا نعمل إلا بما أمر، فلا تكون أعمالنا إلا واجبة أو مستحبة، وإذا كان هكذا في مثل هذه الأسباب فكيف بمن توكل أو رجا أسبابًا غير هذه من الكواكب أو غيرها، أو من أفعال الآدميين من الملوك والرؤساء والأصحاب والأصدقاء والمماليك والأتباع وغير ذلك؟!
ومما ينبغي أن يعلم: ما قاله طائفة من العلماء، قالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب: أن تكون أسبابًا، نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع.
وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلا، ولابد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء ومليكه، وأن السموات والأرض وما بينهما والأفلاك وماحوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلا بإحداث شيء/ من الحوادث، بل لابد من مشارك ومعاون وهو مع ذلك له معارضات وممانعات.
ومن أعظم ذلك [الفلك الأطلس التاسع] الذي يظن كثير من المتفلسفة الإلهيين والمنجمين وغيرهم أن حركته هي السبب في حدوث الحوادث كلها، وإليها انتهى علمهم بأسباب الحوادث، ثم هم إما أن يجعلوه معلولاً لواجب الوجود بتوسط عقل أو نفس أو بغير توسط ذلك، وإما أن ينكروا أن يكون معلولا ويجعلونه واجب الوجود بنفسه، فقولهم هذا من أعظم الأقوال فسادًا، وإن كانوا مع ذكائهم لا يهتدون لذلك، ولا يهتدي كثير من الناس للرد عليهم في ذلك.
وكل من نظر إلى السماء علم أن حركته ليست هي السبب في جميع الحركات العلوية، فإن كثيرًا ما يقال: إنه بحركته المشرقية يتحرك كل ما فيه من الأفلاك من المشرق إلى المغرب، لكن مع هذا لكل فلك حركة أخرى تخصه تخالف هذه الحركة فلك الثوابت وفلك الشمس والقمر وغيرهما من الخنس الجواري الكنس، وهذه الحركات المختلفة ليست عن تلك الحركة تخالفها، ولا أفلاكها معلولة عن ذلك الفلك التاسع.
فلو قدر أن الحوادث تكون بحركة الكواكب، وما يحدث من الأشكال المختلفة بالتثليث والتربيع والتسديس والقران وغير ذلك، فمن المعلوم أن تلك/ الأشكال المختلفة ليست معلولة عن حركة التاسع، بل حركة التاسع جزء السبب، كما أن حركة كل فلك جزء السبب، والشكل الفلكي حادث عن مجموع الحركتين، أو الحركات المختلفة، فإذا قدر أن التسعة اقترنت فلها سبع حركات بل أكثر من ذلك عندهم بحسب الأفلاك الأخر الزوائد المستدل عليها بالحركات المختلفة، كالأفلاك البدرية وغيرها مما تكون به استقامة الكواكب ورجوعها، وغير ذلك من حركاته، وإذا كان كذلك فمن جعل حركة التاسع هي السبب في جميع الحوادث، كان قوله مخالفًا لما هو معلوم عند هؤلاء الفلاسفة والمنجمين، وعند كل عاقل، ثم إذا قدر أنها سبب حركة جميع الأفلاك فليست مستقلة بإحداث شيء من السحب والرعود والبروق والأمطار والنبات وأحوال الحيوان والمعدن؛ لأن حركات هذه الأجسام ليست كلها عن حركات الأفلاك، بل فيها قوى وأسباب توجب لها حركات أخر، كما في كل فلك مبتدأ حركة ليست عن الفلك الآخر.
والحركات كلها: إما [طبيعية] وإما [إرادية] وإما [قسرية]، فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية هي التي لا إحساس للمتحرك بها كحركة التراب إلى أسفل، والإرادية هي التي للمتحرك بها حس كحركة الحيوان، فما كان من هذه متحركًا بطبع فيه أو إرادة، فمبدأ حركته منه، وما كان مقسورًا فقاسره من المخلوقات إنما يقسره لما فيه من الاستعداد لقبول قسره، وذلك معنى ليس /من القاسر، فحركات الأفلاك إذا اجتمعت ليست مستقلة بتحريك هذه الأجسام، وإن جاز أن تكون جزءًا للسبب، كما نشهد أن الشمس جزء سبب في نمو بعض الأجسام ورطوبتها ويبسها ونحو ذلك، ثم بتقدير أن تكون أسبابًا فلها موانع ومعارضات؛ إذ ما من سبب يقدر إلا وله مانع إرادي أو طبيعي، أو غير ذلك كالدعاء والصدقة والأعمال الصالحة، فإنها من أعظم الأسباب في دفع البلاء النازل من السماء، ولهذا أمرنا بذلك عند الكسوف وغيره من الآيات السماوية التي تكون سببًا للعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، وأمر صلى الله عليه وسلم عند الكسوف، بالصلاة والذكر والاستغفار والصدقة والعتاقة.
وإذا عرف أن كل واحد من الموجودات المشهودة، إذا نظرت إليها ـ واحدًا واحدًا ـ من الفلك التاسع وغيره، وجدته غير مستقل بإحداث شيء أصلا، بل لابد للحوادث من أسباب أخر، وإن كان هو جزء سبب، ولها معارضات أخر، علم بذلك أنه ليس في هذه الأمور ما يجوز أن يقال: هو المحدث للحوادث المشهودة، فضلاً عن أن يقال: هو المبدع للأجسام المتحركة حركة تخالف حركته، وتدفع موجبها، فإن الشيء لا يوجب ما يضاده ويخالفه، وإذا كان في الأجسام المتحركة، ما يخالف مقتضاه موجب الفلك التاسع ومقتضاه /ويضاده، امتنع أن يكون أحدهما علة الآخر، لأن المعلول لا يضاد علته، كما لا يجوز أن يكون فاعلا لها، كما أن الشيء لا يكون ضدًا لنفسه ولا فاعلاً لنفسه، فإن مضادته لنفسه توجب أن يكون وجوده تابعًا لوجوده، فيكون موجودًا معدومًا، وفعله لنفسه مع كون العلة متقدمة على المعلول يوجب أن تكون نفسه موجودة معدومة.
ومن المعلوم أن [الفلك التاسع] إذا لم تكن الحوادث والحركات التي عن قوى الأجسام منه، وإنما منه حركة عرضية لها، فألا تكون نفس الأجسام وقواها منه أولى وأحرى ! ويعلم بذلك أن المحرك للأفلاك وغيرها من الأجسام المشهودة والمبدع لهذه الأجسام بسبب آخر رب غيرها، هو الذي أبدعها على صورها المختلفة وحركها بالحركات المختلفة، وهو المطلوب.
ثم هذه الكواكب إذا كانت جزء السبب من بعض الحوادث، فإنما تكون جزء السبب في حال دون حال،فإنها في حال ظهورها على وجه الأرض يظهر نورها وأثرها،فإذا أفلت انقطع نورها وأثرها،فلا تبقى حينئذ سببًا ولا جزءًا من السبب؛ولهذا قال الخليل صلى الله عليه وسلم: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 67] فإنها في حال أفولها قد انقطع أثرها عنا بالكلية،فلم تبق شبهة يستند إليها المتعلق بها،والرب الذي يدعي ويسأل ويرجى ويتوكل عليه لابد أن يكون قيومًا يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255،آل عمران: 2]، فهذا وغيره من أنواع/النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه.
وأما كونه لا يخاف إلا ذنبه، فلما علم من أنه لا تصيبه مصيبة إلا بذنوبه، وهذا يعلم بآيات الآفاق والأنفس، وبما أخبر في كتابه كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وبينا سر ذلك بما لا يحتمله هذا الموضع.
وهذا تحقيق ما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فبين أن كل ما يجده العبد من الخير فليحمد الله عليه، فإن الله هو الذي أنعم به، وإن ما يجده من الشر فلا يلومن فيه إلا نفسه.
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، فقوله: (أبوء لك بنعمتك عليَّ) اعتراف وإقرار بالنعمة، وقوله: (وأبوء بذنبي) إقرار بالذنب؛ ولهذا قال من قال من السلف: إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث بالنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، لكن الشكر يكون بعد النعمة والتوكل والرجاء يكون قبل النعمة، كما قال الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17]، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)، فجمع بين حمده والاستعانة به والاستغفار له، فقد تبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، وهو ظلم وجهل، وهذه حال من دعا غير الله وتوكل عليه.
وأما قولهم: محو الأسباب أن تكون أسبابًا: نقص في العقل، فهو كذلك وهو طعن في الشرع أيضًا، فإن كثيرًا من أهل الكلام أنكروا الأسباب بالكلية وجعلوا وجودها كعدمها، كما أن أولئك الطبعيين جعلوها عللا مقتضية، وكما أن المعتزلة فرقوا بين أفعال الحيوان وغيرها، والأقوال الثلاثة باطلة؛ فإن الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، وقال تعالى:{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:164]، وقال تعالى :{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة:16]، وقال تعالى :{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]، وأمثال ذلك، فمن قال: يفعل عندها لا بها، فقد خالف لفظ القرآن مع أن الحس والعقل يشهد أنها أسباب، ويعلم الفرق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر، وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر.
وأما قولهم: الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل هو أيضًا قدح في العقل، فإن أفعال العباد من أقوى الأسباب لما نيط بها، فمن جعل/ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أو يجعل المتقين كالفجار، فهو من أعظم الناس جهلا وأشدهم كفرًا، بل ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب، فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من الشقاوات.
ومع هذا، فقد قال خير الخلق: (إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ولما قال لهم: (ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة، ومقعده من النار) قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل ؟ قال: (لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة).
وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال: ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل، فهو بمنزلة من يقول: ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن، وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر، وإن كان الأول ليس مثل هذا في الضلال؛ إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، لكن لا ريب أن ما جعل الله الدعاء سببًا له، فهو بمنزلة ما جعل العمل/ الصالح سببًا له، وهو قادر على أن يفعله ـ سبحانه ـ بدون هذا السبب، وقد يفعله بسبب آخر.
وكذلك من ترك الأسباب المشروعة المأمور بها أمر إيجاب أو استحباب من جلب المنافع أو دفع المضار قادح في الشرع خارج عن العقل، ومن هنا غلطوا في ترك الأسباب المأمور بها، وظنوا أن هذا من تمام التوكل، والتوكل مقرون بالعبادة في قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، والعبادة فعل المأمور، فمن ترك العبادة المأمور بها وتوكل، لم يكن أحسن حالا ممن عبده ولم يتوكل عليه، بل كلاهما عاص لله تاركًا لبعض ما أمر به.
والتوكل يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
فمن لم يفعل ما أمر به، لم يكن مستعينًا بالله على ذلك، فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها بترك التوكل في هذا الموضع أيضًا، وآخر يتوكل بلا فعل مأمور وهذا هو العجز المذموم، كما في سنن أبي داود: أن رجلين اختصما/ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال المقضي عليه: حسبى الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل: حسبى الله ونعم الوكيل)، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، اصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. قال بعض السلف ـ إما ابن مسعود وإما علقمة ـ: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
ولهذا قال آدم لموسى: (أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة فحج آدم موسى)؛لأن موسى قال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبًا؛ ولهذا احتج عليه آدم بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس، فليس مرادًا بالحديث؛ لأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب،/والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس.
وأيضًا، فإن آدم احتج بالقدر، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا، لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر، ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدى عليه واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول.
ومن ظن أن الإيمان بالقدر، أن الله خالق أفعال العباد كما يظنه المباحية المشركية، الذين يقرون بالقدر دون الأمر، والقدرية المجوسية الذين يقرون بالأمر دون القدر، أو ظن أن التكليف مع ذلك غير معقول، ولكن الشارع أطيع فيه لمحض المشيئة الإلهية، وأن الله يفعل، وجعل ذلك حجة له في الأفعال لم يتضمن أسبابًا مناسبة للأمر والنهي، بل أنكر ما اشتملت عليه الشريعة من المصالح والمحاسن والمقاصد التي للعباد في المعاش والمعاد، وجعل ذلك الشرع مجرد إضافة من غير أن يكون من العلة والمعلول مناسبة وملائمة، وأنكر أن تكون الأفعال على وجوه لأجلها كانت حسنة مأمورًا بها، وكانت سيئة منهيًا عنها احتجاجًا على ذلك بالقدر، وأنه مع كون الرب هو الخالق يمتنع هذا كله /فهو مخطئ ضال يعلم فساد قوله بالضرورة، وبما اتفق عليه العقلاء مع دلالة الكتاب والسنة والإجماع على فساد قوله.
فإن عامة بني آدم يؤمنون بالقدر، ويقولون: إنه لابد من عقوبة المعتدين حتى المجانين والبهائم، يؤدبون لكف عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة، وبعفو كمل الآدميين عن عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة فالعبد عليه أن يصبر، وينبغي له أن يرضي بما قدر من المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب ولا يحتج لها بالقدر، ويشكر ما قدر الله له من النعم والمواهب، فيجمع بين الشكر والصبر والاستغفار والإيمان بالقدر والشرع، والله أعلم.
فأجاب:
الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78، 79].
فإن كثيرًا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي.
/ثم المثبتة للقدر يحتجون بقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فيعارضهم قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، ونفاة القدر يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم: أن العبد يخلق جميع أعماله، ويعارضهم قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي، وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، وقوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، وقوله تعالى: {وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9] ونحو ذلك، وهذا كثير.
وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره، فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا: هذا من عند الله، وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا: هذا من عندك ـ يا محمد ـ بسبب الدين الذي أمرتنا به، كما قال قوم فرعون لموسى، وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]،وكما قال الكفار لرسل عيسى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين،فبين/الله ـ سبحانه ـ أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)، وقد قال تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [ هود: 2، 3].
فبين: أن من وحده واستغفره متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث: (يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار)، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ولهذا قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 42، 43]، أي: فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجىء البأس التضرع، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة؛ ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173- 175].
فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه: لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله، كما في الأثر: ( يقول الله: أنا الله، مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم).
أما قوله: لا يرجون عبد إلا ربه. فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12]، وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران: 173].
فهؤلاء قالوا: حسبنا الله، أي: كافينا الله في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا: حسبنا في جلب النعماء، فهو ـ سبحانه ـ كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير، أليس الله بكاف عبده، ومن توكل على غير الله ورجاه، خذل من جهته وحرم، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41]، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]، وقال الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18]، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]،وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] كما قيل في تفسيرها: كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30].
ومما يوضح ذلك: أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله ـ سبحانه ـ هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن، وإن شاءه الناس.
وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب، فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب ـ وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ لكان الواجب ألا/ يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه، حتى يحصل المقصود.
فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده، لم يحصل سببه، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات، والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك، فهو ـ مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل ـ فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكًا مطاعًا، ولابد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضى وعدم المانع، وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضى، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيًا، وإن سمى مقتضيًا وسمى سائر ما يعينه شروطًا، فهذا نزاع لفظي. وحينئذ فيقال: لابد من وجود المقتضى الشروط، وانتفاء الموانع، وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها، فهذا باطل.
/ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب، فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له: هذا أيضًا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو ـ سبحانه ـ خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يطلب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26-28].
/والصادر عنهم إما قول وإما عمل، فالقول لا يسبقونه به بل لا يقولون حتى يقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وعلينا أن نكون معه ومع رسله هكذا، فلا نقول في الدين حتى يقول، ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله ولا نعبده إلا بما أمر، وأعلى من هذا ألا نعمل إلا بما أمر، فلا تكون أعمالنا إلا واجبة أو مستحبة، وإذا كان هكذا في مثل هذه الأسباب فكيف بمن توكل أو رجا أسبابًا غير هذه من الكواكب أو غيرها، أو من أفعال الآدميين من الملوك والرؤساء والأصحاب والأصدقاء والمماليك والأتباع وغير ذلك؟!
ومما ينبغي أن يعلم: ما قاله طائفة من العلماء، قالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب: أن تكون أسبابًا، نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألف من موجب التوحيد والعقل والشرع.
وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلا، ولابد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء ومليكه، وأن السموات والأرض وما بينهما والأفلاك وماحوته لها خالق مدبر غيرها، وذلك أن كل ما يصدر عن فلك أو كوكب أو ملك أو غير ذلك، فإنك تجده ليس مستقلا بإحداث شيء/ من الحوادث، بل لابد من مشارك ومعاون وهو مع ذلك له معارضات وممانعات.
ومن أعظم ذلك [الفلك الأطلس التاسع] الذي يظن كثير من المتفلسفة الإلهيين والمنجمين وغيرهم أن حركته هي السبب في حدوث الحوادث كلها، وإليها انتهى علمهم بأسباب الحوادث، ثم هم إما أن يجعلوه معلولاً لواجب الوجود بتوسط عقل أو نفس أو بغير توسط ذلك، وإما أن ينكروا أن يكون معلولا ويجعلونه واجب الوجود بنفسه، فقولهم هذا من أعظم الأقوال فسادًا، وإن كانوا مع ذكائهم لا يهتدون لذلك، ولا يهتدي كثير من الناس للرد عليهم في ذلك.
وكل من نظر إلى السماء علم أن حركته ليست هي السبب في جميع الحركات العلوية، فإن كثيرًا ما يقال: إنه بحركته المشرقية يتحرك كل ما فيه من الأفلاك من المشرق إلى المغرب، لكن مع هذا لكل فلك حركة أخرى تخصه تخالف هذه الحركة فلك الثوابت وفلك الشمس والقمر وغيرهما من الخنس الجواري الكنس، وهذه الحركات المختلفة ليست عن تلك الحركة تخالفها، ولا أفلاكها معلولة عن ذلك الفلك التاسع.
فلو قدر أن الحوادث تكون بحركة الكواكب، وما يحدث من الأشكال المختلفة بالتثليث والتربيع والتسديس والقران وغير ذلك، فمن المعلوم أن تلك/ الأشكال المختلفة ليست معلولة عن حركة التاسع، بل حركة التاسع جزء السبب، كما أن حركة كل فلك جزء السبب، والشكل الفلكي حادث عن مجموع الحركتين، أو الحركات المختلفة، فإذا قدر أن التسعة اقترنت فلها سبع حركات بل أكثر من ذلك عندهم بحسب الأفلاك الأخر الزوائد المستدل عليها بالحركات المختلفة، كالأفلاك البدرية وغيرها مما تكون به استقامة الكواكب ورجوعها، وغير ذلك من حركاته، وإذا كان كذلك فمن جعل حركة التاسع هي السبب في جميع الحوادث، كان قوله مخالفًا لما هو معلوم عند هؤلاء الفلاسفة والمنجمين، وعند كل عاقل، ثم إذا قدر أنها سبب حركة جميع الأفلاك فليست مستقلة بإحداث شيء من السحب والرعود والبروق والأمطار والنبات وأحوال الحيوان والمعدن؛ لأن حركات هذه الأجسام ليست كلها عن حركات الأفلاك، بل فيها قوى وأسباب توجب لها حركات أخر، كما في كل فلك مبتدأ حركة ليست عن الفلك الآخر.
والحركات كلها: إما [طبيعية] وإما [إرادية] وإما [قسرية]، فالقسرية تابعة للقاسر، والطبيعية هي التي لا إحساس للمتحرك بها كحركة التراب إلى أسفل، والإرادية هي التي للمتحرك بها حس كحركة الحيوان، فما كان من هذه متحركًا بطبع فيه أو إرادة، فمبدأ حركته منه، وما كان مقسورًا فقاسره من المخلوقات إنما يقسره لما فيه من الاستعداد لقبول قسره، وذلك معنى ليس /من القاسر، فحركات الأفلاك إذا اجتمعت ليست مستقلة بتحريك هذه الأجسام، وإن جاز أن تكون جزءًا للسبب، كما نشهد أن الشمس جزء سبب في نمو بعض الأجسام ورطوبتها ويبسها ونحو ذلك، ثم بتقدير أن تكون أسبابًا فلها موانع ومعارضات؛ إذ ما من سبب يقدر إلا وله مانع إرادي أو طبيعي، أو غير ذلك كالدعاء والصدقة والأعمال الصالحة، فإنها من أعظم الأسباب في دفع البلاء النازل من السماء، ولهذا أمرنا بذلك عند الكسوف وغيره من الآيات السماوية التي تكون سببًا للعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، وأمر صلى الله عليه وسلم عند الكسوف، بالصلاة والذكر والاستغفار والصدقة والعتاقة.
وإذا عرف أن كل واحد من الموجودات المشهودة، إذا نظرت إليها ـ واحدًا واحدًا ـ من الفلك التاسع وغيره، وجدته غير مستقل بإحداث شيء أصلا، بل لابد للحوادث من أسباب أخر، وإن كان هو جزء سبب، ولها معارضات أخر، علم بذلك أنه ليس في هذه الأمور ما يجوز أن يقال: هو المحدث للحوادث المشهودة، فضلاً عن أن يقال: هو المبدع للأجسام المتحركة حركة تخالف حركته، وتدفع موجبها، فإن الشيء لا يوجب ما يضاده ويخالفه، وإذا كان في الأجسام المتحركة، ما يخالف مقتضاه موجب الفلك التاسع ومقتضاه /ويضاده، امتنع أن يكون أحدهما علة الآخر، لأن المعلول لا يضاد علته، كما لا يجوز أن يكون فاعلا لها، كما أن الشيء لا يكون ضدًا لنفسه ولا فاعلاً لنفسه، فإن مضادته لنفسه توجب أن يكون وجوده تابعًا لوجوده، فيكون موجودًا معدومًا، وفعله لنفسه مع كون العلة متقدمة على المعلول يوجب أن تكون نفسه موجودة معدومة.
ومن المعلوم أن [الفلك التاسع] إذا لم تكن الحوادث والحركات التي عن قوى الأجسام منه، وإنما منه حركة عرضية لها، فألا تكون نفس الأجسام وقواها منه أولى وأحرى ! ويعلم بذلك أن المحرك للأفلاك وغيرها من الأجسام المشهودة والمبدع لهذه الأجسام بسبب آخر رب غيرها، هو الذي أبدعها على صورها المختلفة وحركها بالحركات المختلفة، وهو المطلوب.
ثم هذه الكواكب إذا كانت جزء السبب من بعض الحوادث، فإنما تكون جزء السبب في حال دون حال،فإنها في حال ظهورها على وجه الأرض يظهر نورها وأثرها،فإذا أفلت انقطع نورها وأثرها،فلا تبقى حينئذ سببًا ولا جزءًا من السبب؛ولهذا قال الخليل صلى الله عليه وسلم: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 67] فإنها في حال أفولها قد انقطع أثرها عنا بالكلية،فلم تبق شبهة يستند إليها المتعلق بها،والرب الذي يدعي ويسأل ويرجى ويتوكل عليه لابد أن يكون قيومًا يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255،آل عمران: 2]، فهذا وغيره من أنواع/النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه.
وأما كونه لا يخاف إلا ذنبه، فلما علم من أنه لا تصيبه مصيبة إلا بذنوبه، وهذا يعلم بآيات الآفاق والأنفس، وبما أخبر في كتابه كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وبينا سر ذلك بما لا يحتمله هذا الموضع.
وهذا تحقيق ما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فبين أن كل ما يجده العبد من الخير فليحمد الله عليه، فإن الله هو الذي أنعم به، وإن ما يجده من الشر فلا يلومن فيه إلا نفسه.
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، فقوله: (أبوء لك بنعمتك عليَّ) اعتراف وإقرار بالنعمة، وقوله: (وأبوء بذنبي) إقرار بالذنب؛ ولهذا قال من قال من السلف: إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث بالنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، لكن الشكر يكون بعد النعمة والتوكل والرجاء يكون قبل النعمة، كما قال الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17]، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)، فجمع بين حمده والاستعانة به والاستغفار له، فقد تبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، وهو ظلم وجهل، وهذه حال من دعا غير الله وتوكل عليه.
وأما قولهم: محو الأسباب أن تكون أسبابًا: نقص في العقل، فهو كذلك وهو طعن في الشرع أيضًا، فإن كثيرًا من أهل الكلام أنكروا الأسباب بالكلية وجعلوا وجودها كعدمها، كما أن أولئك الطبعيين جعلوها عللا مقتضية، وكما أن المعتزلة فرقوا بين أفعال الحيوان وغيرها، والأقوال الثلاثة باطلة؛ فإن الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، وقال تعالى:{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:164]، وقال تعالى :{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة:16]، وقال تعالى :{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]، وأمثال ذلك، فمن قال: يفعل عندها لا بها، فقد خالف لفظ القرآن مع أن الحس والعقل يشهد أنها أسباب، ويعلم الفرق بين الجبهة وبين العين في اختصاص أحدهما بقوة ليست في الآخر، وبين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر.
وأما قولهم: الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل هو أيضًا قدح في العقل، فإن أفعال العباد من أقوى الأسباب لما نيط بها، فمن جعل/ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أو يجعل المتقين كالفجار، فهو من أعظم الناس جهلا وأشدهم كفرًا، بل ما أمر الله به من العبادات والدعوات والعلوم والأعمال من أعظم الأسباب، فيما نيط بها من العبادات، وكذلك ما نهى عنه من الكفر والفسوق والعصيان هي من أعظم الأسباب لما علق بها من الشقاوات.
ومع هذا، فقد قال خير الخلق: (إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ولما قال لهم: (ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة، ومقعده من النار) قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل ؟ قال: (لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة).
وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال: ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل، فهو بمنزلة من يقول: ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن، وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر، وإن كان الأول ليس مثل هذا في الضلال؛ إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، لكن لا ريب أن ما جعل الله الدعاء سببًا له، فهو بمنزلة ما جعل العمل/ الصالح سببًا له، وهو قادر على أن يفعله ـ سبحانه ـ بدون هذا السبب، وقد يفعله بسبب آخر.
وكذلك من ترك الأسباب المشروعة المأمور بها أمر إيجاب أو استحباب من جلب المنافع أو دفع المضار قادح في الشرع خارج عن العقل، ومن هنا غلطوا في ترك الأسباب المأمور بها، وظنوا أن هذا من تمام التوكل، والتوكل مقرون بالعبادة في قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، والعبادة فعل المأمور، فمن ترك العبادة المأمور بها وتوكل، لم يكن أحسن حالا ممن عبده ولم يتوكل عليه، بل كلاهما عاص لله تاركًا لبعض ما أمر به.
والتوكل يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
فمن لم يفعل ما أمر به، لم يكن مستعينًا بالله على ذلك، فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها بترك التوكل في هذا الموضع أيضًا، وآخر يتوكل بلا فعل مأمور وهذا هو العجز المذموم، كما في سنن أبي داود: أن رجلين اختصما/ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال المقضي عليه: حسبى الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل: حسبى الله ونعم الوكيل)، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، اصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. قال بعض السلف ـ إما ابن مسعود وإما علقمة ـ: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
ولهذا قال آدم لموسى: (أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة فحج آدم موسى)؛لأن موسى قال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبًا؛ ولهذا احتج عليه آدم بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس، فليس مرادًا بالحديث؛ لأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب،/والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس.
وأيضًا، فإن آدم احتج بالقدر، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا، لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر، ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدى عليه واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول.
ومن ظن أن الإيمان بالقدر، أن الله خالق أفعال العباد كما يظنه المباحية المشركية، الذين يقرون بالقدر دون الأمر، والقدرية المجوسية الذين يقرون بالأمر دون القدر، أو ظن أن التكليف مع ذلك غير معقول، ولكن الشارع أطيع فيه لمحض المشيئة الإلهية، وأن الله يفعل، وجعل ذلك حجة له في الأفعال لم يتضمن أسبابًا مناسبة للأمر والنهي، بل أنكر ما اشتملت عليه الشريعة من المصالح والمحاسن والمقاصد التي للعباد في المعاش والمعاد، وجعل ذلك الشرع مجرد إضافة من غير أن يكون من العلة والمعلول مناسبة وملائمة، وأنكر أن تكون الأفعال على وجوه لأجلها كانت حسنة مأمورًا بها، وكانت سيئة منهيًا عنها احتجاجًا على ذلك بالقدر، وأنه مع كون الرب هو الخالق يمتنع هذا كله /فهو مخطئ ضال يعلم فساد قوله بالضرورة، وبما اتفق عليه العقلاء مع دلالة الكتاب والسنة والإجماع على فساد قوله.
فإن عامة بني آدم يؤمنون بالقدر، ويقولون: إنه لابد من عقوبة المعتدين حتى المجانين والبهائم، يؤدبون لكف عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة، وبعفو كمل الآدميين عن عدوانهم، وإن كانت أفعالهم مقدرة فالعبد عليه أن يصبر، وينبغي له أن يرضي بما قدر من المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب ولا يحتج لها بالقدر، ويشكر ما قدر الله له من النعم والمواهب، فيجمع بين الشكر والصبر والاستغفار والإيمان بالقدر والشرع، والله أعلم.
عدد المشاهدات *:
490670
490670
عدد مرات التنزيل *:
265921
265921
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013