وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة، لكن يكذب بعض الرسل؛ كالمسيح ومحمد، فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقًا، وكثير من الفلاسفة والباطنية، وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبًا صريحًا، ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة، بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول:إن غيرهم أعلم/ منهم، أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه، أو أن النبوة هي فَيْضٌ يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم، ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن، ونحو ذلك، فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض، وبما أوتوه دون بعض، ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء، وهؤلاء قد يكون أحدهم شرًا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ويقرون بقيام القيامة، ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له، ويقرون بالشرائع المتفق عليها، وأولئك يكذبون بهذا، وإنما يقرون ببعض شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرًا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة، ونحوهم، لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نَوْعَي الكفر؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم، وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرًا، كما يوجد ـ أيضًا ـ في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء؛ إذ كانوا في دولة المسلمين.
وأهل الكتاب كانوا منافقين، فيهم من النفاق بحسب ما فيهم/ من الكفر، والنفاق يتبعض، والكفر يتبعض، ويزيد وينقص، كما أن الإيمان يتبعض، ويزيد وينقص، قال الله تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، وقال:{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125]، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64]، وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، وقال: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا} [النساء:137]
وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون أنه يعلم بالعقل، مثل تثليث النصارى، ومثل تكذيب محمد، ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين، وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك، والقرآن مملوء من ذلك؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة، فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم.
/ وأولئك المتكلمون لما أَصَّلُوا لهم دينًا بما أحدثوه من الكلام، كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين، ولو كان ما قالوه حقًا لكان ذلك جزء من الدين، فكيف إذا كان باطلاً؟!
وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر؛ ولهذا قيل فيه: [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح] وخطابهم في مقامين:
أحدهما: تبديلهم لدين المسيح.
والثاني: تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم،واليهود خطابهم في تكذيب من بعد موسى إلى المسيح، ثم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم،كما ذكر الله ذلك في سورة البقرة في قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:87، 88]، ثم قال:{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، إلى أن ذكر أنهم أعرضوا /عن كتاب الله مطلقًا واتبعوا السحر، فقال:{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:101ـ 103].
والنصارى نَذُمُّهُم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه، وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها، ولا نحمدهم عليها؛ إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة، لكن إذا كان صاحبها قاصدًا للحق فقد يعفي عنه، فيبقي عمله ضائعًا لا فائدة فيه، وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه، فلا يعاقب ولا يثاب؛ ولهذا قال:{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]؛ فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب، والضال فَاتَهُ المقصود وهو الرحمة والثواب، ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك، بل يكون ملعونًا مطرودًا؛ ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نُفَيْل: أن اليهود قالوا له: لن تدخل في ديننا حتي تأخذ نصيبك من غضب الله. وقال له النصارى: حتي تأخذ نصيبك من لعنة الله.
وقال الضَّحَّاك وطائفة: إن جهنم طبقات، فالعليا لعصاة هذه الأمة، والتي تليها للنصارى، والتي تليها لليهود. فجعلوا اليهود تحت النصارى،/والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا: إنا نصارى، وشدة العداوة زيادة في الكفر. فاليهود أقوى كفرًا من النصارى، وإن كان النصارى أجهل وأضل، لكن أولئك يعاقبون على عملهم؛ إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادًا، فكانوا مغضوبًا عليهم، وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين، ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون، ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب؛ إذ كان اسم الضلال عامًا. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح في خطبة يوم الجمعة: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)، ولم يقل: وكل ضلالة في النار، بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده، وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له.
وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم.
/ وإذا اتقي الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله:{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وفي الصحيح أن الله قال: (قد فعلت) وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة، وأن الإجماع ـ إجماع الأمة ـ حق؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة، وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة.
والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين، وهذا لا نزاع فيه، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول، وهذا لا نزاع فيه، أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة، وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع.
وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقًا، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم، ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية.
/ والقول الثالث الوسط: أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدي، وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا ـ كما تقدم، لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول. وحينئذ نقول: الذم إما أن يكون لاحقًا لمشاقة الرسول فقط، أو باتباع غير سبيلهم فقط، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر، أو بكل منهما لكونه مستلزمًا للآخر. والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعًا لا فائدة فيه، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعًا، فـإن مشاقة الرسول موجبـة للوعيد مع قطع النظـر عمن اتبعه، ولحـوق الـذم بكل منهما ـ وإن انفرد عن الآخر ـ لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع.
بَقِي القسم الآخر، وهو أن كلاًّ من الوصفين يقتضي الوعيد؛ لأنه مستلزم للآخر، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام، فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار، ومثله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء:136]، فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره، فمن كفر بالله كفر/ بالجميع، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرًا بالله؛ إذ كذب رسله وكتبه، وكذلك إذا كفر بإلىوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرًا.
وكذلك قولـه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، ذمهم على الوصفين، وكل منهما مُقْتَضٍ للذم، وهما متلازمان؛ ولهذا نهي عنهما جميعًا في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به؛ لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق.
فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه ـ أيضًا ـ فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعًا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان؛ وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول. وهذا هو الصواب.
/فلا يوجد ـ قط ـ مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفي ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص، كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعِيرُ التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم يَنْهَ عن ذلك، والسنة: قوله وفعله وإقراره. فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.
/والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا،وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين؛ لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علىنا، فكيف يكون لك الربح وعلىنا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربًا فجعله مضاربة، وإنما قال ذلك؛ لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات؛ كالخياطة والجزارة.
وعلى هذا، فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصًا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس.
ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص، فنقلوه بالمعني، كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع، وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعضهم بعموم، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وقال ابن مسعود:/سورة النساء القُصْرَي نزلت بعد الطُّولَي، أي: بعد البقرة، وقوله:{أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، يقتضي انحصار الأجل في ذلك، فلو أوجب عليها أن تَعْتَدَّ بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها، وعلى وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين، وجاء النص الخاص في قصة سُبَيْعَة الأسْلَمِية بما يوافق قول ابن مسعود.
وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها: هل لها مهر المثل؟ أفتي ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل، ثم حديث بِرْوَع بنت وَاشِقٍ بما يوافق ذلك، وقد خالفه على وزيد وغيرهما فقالوا: لا مهر لها. فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه، ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص؛ أولئك احتجوا بنص كالمتوفي عنها الحامل، وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها، والآخرين قالوا: إنما يدخل في آية الحمل فقط، وإن آية الشهور في غير الحامل، كما أن آية القروء في غير الحامل.
وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يميناً بقوله:{أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1، 2].
وكذلك لما تنازعوا في المَبْتُوتَة: هل لها نفقة أو سكني؟ احتج هؤلاء بحديث فاطمة، وبأن السكني التي في القرآن للرجعية، وأولئك قالوا: بل هي لهما.
ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخص الله بفهمهن بعض الناس، كما قال على: إلا فهماً يؤتيه الله عبدًا في كتابه.
وقد يكون النص بيناً، ويذهل المجتهد عنه، كتيمم الجنب فإنه بين في القرآن في آيتين. ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال: الحاضر: ما دري عبد الله ما يقول إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم، وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة؟
وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [البقرة: 196]، واحتج بهذه الآية من منع الفسخ،وآخرون يقولون: إنما أمر/بالإتمام فقط، وكذلك أمر الشارع أن يتم، وكذلك في الفسخ قالوا: من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها. أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتي بما تم مما شرع فيه؛ فإنه شرع في حج مجرد فأتي بعمرة في الحج، ولو لم يكن هذا إتمامًا لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عام حجة الوداع.
وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} [النساء: 43]، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه.
وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جَلِي ولا خفي فهذا ما لا أعرفه.
والجد لما قال أكثرهم: إنه أب، استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]، وقال ابن عباس: لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدًا لما قالت: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3]، ويقول: إنما هو أب لكن أب أبعد من أب.
وقد روي عن على وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعي إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقًا فقد غلط، ومن ادعي أن من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط، بل/ كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأي دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأي دلالة الميزان ذكرها، والدلائل الصحيحة لا تتناقض لكن قد يخفي وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على بعض العلماء.
وللصحابة فهم في القرآن يخفي على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين، فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس.
ومن قال من المتأخرين: إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك، وهذا كقولهم: إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها، فإنما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام، وقد قال الإمام أحمد ـ رضي الله عنه: إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة، أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يَحْتَجُّ به عامتهم، ولا يحتاجون إليه؛ إذ هم أهل الإجماع، فلا إجماع قبلهم، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شُرَيْح: اقْضِ بما في كتاب/ الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما به قضي الصالحون قبلك. وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس.
وعمر قدم الكتاب ثم السنة وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر، قدم الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع. وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي بكر وعمر؛ لقوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب.
ولكن طائفة من المتأخرين قالوا: يبدأ المجتهد بأن ينظر أولاً في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصًا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه، وقال بعضهم: الإجماع نسخه والصواب طريقة السلف.
وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلابد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك، ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرًا أو غالبًا،فمن ذا الذي/ يحيط بأقوال المجتهدين؟ بخلاف النصوص فإن معرفتها ممكنة متيسرة.
وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولاً؛ لأن السنة لا تنسخ الكتاب فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه، فلا يقدم غير القرآن عليه، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته، لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره، ولا تُعَارض السنة بإجماع وأكثر ألفاظ الآثار، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة، مع أنه فيها، وكذلك في القرآن، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة، وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضًا لما في القرآن، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابًا ولا سنة.
تم بحمد الله وعونه وصلواته على خير بريته محمد وآله وسلم.
عدد المشاهدات *:
496344
496344
عدد مرات التنزيل *:
267099
267099
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013