قال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللّه روحه:
فصــل
وأما إزالة النجاسة بغير الماء، ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد:
أحدها: المنع، كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد.
والثاني: الجواز، كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك، وأحمد.
والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة، كما في طهارة فم الهرة بريقها، وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم، ونحو ذلك.
والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء: حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء). وقوله في آنية المجوس: (ارحضوها ثم اغسلوها بالماء). وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: (صبوا على بوله ذنبوًا من ماء) فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء.
وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع:
منها: الاستجمار بالحجارة. ومنها قوله في النعلين: (ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور). ومنها قوله في الذيل: (يطهره مابعده). ومنها: أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ثم لم يكونوا يغسلون ذلك. ومنها قوله في الهر: (إنها من الطوافين علكيم والطوافات) مع أن الهر - في العادة - يأكل الفأر، ولم يكن هناك قناة ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء بل طهورها ريقها. ومنها: أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين.
وإذا كان كذلك، فالراجع في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان، زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها. لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال، كما لا يجوز الاستنجاء بها.
والذين قالوا لا تزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تَعَبُّد وليس الأمر كذلك. فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة لتعينه؛ لأن إزالتها بالأشربة التى ينتفع بها المسلمون إفساد لها. وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة، كغسل الثوب، والإناء، والأرض بالماء، فإنه من المعلوم أنه لو كان عندهم ماء ورد وخل وغير ذلك، لم يأمرهم بإفساده فكيف إذا لم يكن عندهم.
ومنهم من قال: إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات فلا يلحق غيره به، وليس الأمر كذلك. بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة، كالماء وأبلغ، والاستحالة له أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء، فإن الإزالة بالماء قد يبقي معها لون النجاسة فيعفي عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره) وغير الماء يزيد الطعم واللون والريح.
ومنهم من قال: كان القياس ألا يزول بالماء لتنجيسه بالملاقاة، لكن رخص في الماء للحاجة، فجعل الإزالة بالماء صورة استحسان، فلا يقاس عليها. وكلا المقدمتين باطلة. فليست إزالتها على خلاف القياس بل القياس أن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها.
وقولهم: إنه ينجس بالملاقاة ممنوع، ومن سلمه فرق بين الوارد والمورود عليه، أو بين الجارى والواقف. ولو قيل: إنها على خلاف القياس فالصواب أن ما خالف القياس يقاس عليه إذا عرفت علته؛ إذ الاعتبار في القياس بالجامع والفارق.
واعتبار طهارة الخبث بطهارة الحدث ضعيف؛ فإن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها؛ ولهذا لم تسقط بالنسيان والجهل، واشترط فيها النية عند الجمهور. وأما طهارة الخبث، فإنها من باب التروك فمقصودها اجتناب الخبث؛ ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم.
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: أنه يعتبر فيها النية، فهو قول شاذ مخالف للإجماع السابق، مع مخالفته لأئمة المذاهب. وإنما قيل مثل هذا من ضيق المجال في المناظرة، فإن المنازع لهم في مسألة النية قاس طهارة الحدث على طهارة الخبث، فمنعوا الحكم في الأصل، وهذا ليس بشيء.
ولهذا كان أصح قولي العلماء أنه إذا صلى بالنجاسة جاهلاً أو ناسيًا، فلا إعادة عليه، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة للأذى الذي كان فيهما، ولم يستأنف الصلاة. وكذلك في الحديث الآخر لما وجد في ثوبه نجاسة أمرهم بغسله ولم يعد الصلاة؛ وذلك لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا، فلا إثم عليه، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ} [الأحزاب: 5]، وقال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، قال اللّه تعالى:(قد فعلت). رواه مسلم في صحيحه.
ولهذا كان أقوى الأقوال: أن ما فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبطل العبادة، كالكلام ناسيًا، والأكل ناسيًا، والطيب ناسيًا، وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا وفي هذه المسائل نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن النجاسة من باب ترك المنهى عنه فحينئذ، إذا زال الخبث بأى طريق كان، حصل المقصود. ولكن إن زال بفعل العبد ونيته، أثيب على ذلك، وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة، ولم يكن له ثواب، ولم يكن عليه عقاب.
فصــل
وأما إزالة النجاسة بغير الماء، ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد:
أحدها: المنع، كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد.
والثاني: الجواز، كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك، وأحمد.
والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة، كما في طهارة فم الهرة بريقها، وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم، ونحو ذلك.
والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله لأسماء: حتيه، ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء). وقوله في آنية المجوس: (ارحضوها ثم اغسلوها بالماء). وقوله في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد: (صبوا على بوله ذنبوًا من ماء) فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرًا عامًا بأن تزال كل نجاسة بالماء.
وقد أذن في إزالتها بغير الماء في مواضع:
منها: الاستجمار بالحجارة. ومنها قوله في النعلين: (ثم ليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور). ومنها قوله في الذيل: (يطهره مابعده). ومنها: أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ثم لم يكونوا يغسلون ذلك. ومنها قوله في الهر: (إنها من الطوافين علكيم والطوافات) مع أن الهر - في العادة - يأكل الفأر، ولم يكن هناك قناة ترد عليها تطهر بها أفواهها بالماء بل طهورها ريقها. ومنها: أن الخمر المنقلبة بنفسها تطهر باتفاق المسلمين.
وإذا كان كذلك، فالراجع في هذه المسألة أن النجاسة متى زالت بأي وجه كان، زال حكمها، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها. لكن لا يجوز استعمال الأطعمة والأشربة في إزالة النجاسة لغير حاجة لما في ذلك من فساد الأموال، كما لا يجوز الاستنجاء بها.
والذين قالوا لا تزول إلا بالماء، منهم من قال: إن هذا تَعَبُّد وليس الأمر كذلك. فإن صاحب الشرع أمر بالماء في قضايا معينة لتعينه؛ لأن إزالتها بالأشربة التى ينتفع بها المسلمون إفساد لها. وإزالتها بالجامدات كانت متعذرة، كغسل الثوب، والإناء، والأرض بالماء، فإنه من المعلوم أنه لو كان عندهم ماء ورد وخل وغير ذلك، لم يأمرهم بإفساده فكيف إذا لم يكن عندهم.
ومنهم من قال: إن الماء له من اللطف ما ليس لغيره من المائعات فلا يلحق غيره به، وليس الأمر كذلك. بل الخل وماء الورد وغيرهما يزيلان ما في الآنية من النجاسة، كالماء وأبلغ، والاستحالة له أبلغ في الإزالة من الغسل بالماء، فإن الإزالة بالماء قد يبقي معها لون النجاسة فيعفي عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره) وغير الماء يزيد الطعم واللون والريح.
ومنهم من قال: كان القياس ألا يزول بالماء لتنجيسه بالملاقاة، لكن رخص في الماء للحاجة، فجعل الإزالة بالماء صورة استحسان، فلا يقاس عليها. وكلا المقدمتين باطلة. فليست إزالتها على خلاف القياس بل القياس أن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها.
وقولهم: إنه ينجس بالملاقاة ممنوع، ومن سلمه فرق بين الوارد والمورود عليه، أو بين الجارى والواقف. ولو قيل: إنها على خلاف القياس فالصواب أن ما خالف القياس يقاس عليه إذا عرفت علته؛ إذ الاعتبار في القياس بالجامع والفارق.
واعتبار طهارة الخبث بطهارة الحدث ضعيف؛ فإن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها؛ ولهذا لم تسقط بالنسيان والجهل، واشترط فيها النية عند الجمهور. وأما طهارة الخبث، فإنها من باب التروك فمقصودها اجتناب الخبث؛ ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم.
ومن قال من أصحاب الشافعي وأحمد: أنه يعتبر فيها النية، فهو قول شاذ مخالف للإجماع السابق، مع مخالفته لأئمة المذاهب. وإنما قيل مثل هذا من ضيق المجال في المناظرة، فإن المنازع لهم في مسألة النية قاس طهارة الحدث على طهارة الخبث، فمنعوا الحكم في الأصل، وهذا ليس بشيء.
ولهذا كان أصح قولي العلماء أنه إذا صلى بالنجاسة جاهلاً أو ناسيًا، فلا إعادة عليه، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه في الصلاة للأذى الذي كان فيهما، ولم يستأنف الصلاة. وكذلك في الحديث الآخر لما وجد في ثوبه نجاسة أمرهم بغسله ولم يعد الصلاة؛ وذلك لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا، فلا إثم عليه، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ} [الأحزاب: 5]، وقال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، قال اللّه تعالى:(قد فعلت). رواه مسلم في صحيحه.
ولهذا كان أقوى الأقوال: أن ما فعله العبد ناسيًا أو مخطئًا من محظورات الصلاة والصيام والحج لا يبطل العبادة، كالكلام ناسيًا، والأكل ناسيًا، والطيب ناسيًا، وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا وفي هذه المسائل نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه.
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن النجاسة من باب ترك المنهى عنه فحينئذ، إذا زال الخبث بأى طريق كان، حصل المقصود. ولكن إن زال بفعل العبد ونيته، أثيب على ذلك، وإلا إذا عدمت بغير فعله ولا نيته زالت المفسدة، ولم يكن له ثواب، ولم يكن عليه عقاب.
عدد المشاهدات *:
464588
464588
عدد مرات التنزيل *:
263368
263368
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013