وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حج ولم يزرنى فقد جفانى)، (ومن زارني بعد موتى، كمن زارني في حياتى)، / وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا ـ أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
أفتونا مأجورين ـ رحمكم الله
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:
أحدهما: وهو قول متقدمى العلماء الذين لايجوزون القصر في سفر المعصية، كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين: أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهى عنه. ومذهب مالك والشافعى وأحمد: أن السفر المنهى عنه في الشريعة لا يقصر فيه.
والقول الثاني: أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم، كأبي حنيفة. ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى /وأحمد، ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالى، وأبي الحسن ابن عبدوس الحرانى، وأبي محمد بن قدامة المقدسى. وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور).
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (من زارني بعد مماتى، فكأنما زارني في حياتي). رواه الدارقطنى وابن ماجه .
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله: (من حج ولم يزرنى فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة).
فإن هذا ـ أيضًا ـ باتفاق العلماء لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى ونحوه.
وقد احتج أبو محمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء.
وأجاب عن حديث: (لا تشد الرحال)، بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.
/وأما الأولون،فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يشد الرحل ليصلى بمسجد، أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.
ولو نذر أن يسافر ويأتى المسجد الحرام لحج أو عمرة. وجب عليه ذلك باتفاق العلماء.
ولو نذر أن يأتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر، عند مالك والشافعى في أحد قوليه، وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع.
أما الجمهور، فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخارى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه).
والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به.
/وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من المساجد الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الحديث الصحيح: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة).
قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة، وفعله، فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة.
وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطـة في [الإبانة الصغرى] من البدع المخالفة للسـنة والإجماع.
وبهذا يظهر بطلان حجة أبي محمد المقدسى؛ لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر.
وقوله بأن الحديث الذى مضمونه (لا تشد الرحال): محمول على نفي الاستحباب، يجاب عنه بوجهين:
/أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة، ولا طاعة، ولا هو من الحسنات. فإذًا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع. وإذا سافر لاعتقاد أن ذلك طاعة، كان ذلك محرمًا بإجماع المسلمين. فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدًا لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح، فهذا جائز، وليس من هذا الباب.
الوجه الثانى: أن هذا الحديث يقتضى النهى، والنهى يقتضى التحريم. وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة، باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هى موضوعة، لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشىء منها، بل مالك ـ إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة ـ كره أن يقول الرجل: زرت قبره صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظ معروفًا عندهم، أو مشروعًا، أو مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم أهل المدينة.
والإمام أحمد ـ أعلم الناس في زمانه بالسنة ـ لما سئل عن ذلك لم /يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث، إلا حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يسلم عَليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، وعلى هذا اعتمد أبو داود في سنته. وكذلك مالك في الموطأ، روي عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف.
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم).
وفي سنن سعيد بن منصور: أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبي طالب، رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، فقال: يا هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغنى). فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
وفي الصحيحين عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ في مرض موته ـ: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما فعلوا. ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره /أن يتخذ مسجدًا. وهم دفنوه صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء؛ لئلا يصلى أحد عند قبره ويتخذه مسجدًا، فيتخذ قبره وثنًا.
وكان الصحابة والتابعون ـ لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد، إلى زمن الوليد ابن عبد الملك ـ لا يدخل أحد إليه، لا لصلاة هناك، ولا تمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد.
وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة، ولم يستقبلوا القبر.وأما الوقوف للسلام عليه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضًا، ولا يستقبل القبر.
وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يستقبل القبر عند الدعاء.
وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تروي عن مالك، ومذهبه بخلافها.
/واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله.
وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله: اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، قالوا: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما مـاتوا عكفوا على قبـورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر البخارى في صحيحه هذا المعنى عن ابن عباس. وذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره [وَثِيمة] وغيره في قصص الأنبياء مـن عـدة طرق. وقـد بسطت الكـلام على أصول هـذه المسائل في غير هذا الموضع.
وأول مـن وضـع هـذه الأحـاديث في السفر لزيارة المشاهد التى على القبور، أهل البـدع، مـن الرافضـة ونحـوهم، الذين يعطلـون المساجـد، ويعظمون المشاهد، يَدَعُون بيــوت الله التى أمــر أن يذكر فيها اسمه، ويعبد وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد التى يشــرك فيها ويكـذب، ويبتـدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانًا؛ فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد، دون المشاهد، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18]، وقال تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114].
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه كان يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك). والله أعلم.
هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم. وله من الكلام في مثل هذا كثير، كما أشار إليه في الجواب.
ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضى الشافعية: قابلت الجواب عن هذا السؤال، المكتوب على خط ابن تيمية. فصح ـ إلى أن قال ـ وإنما المحرف جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالإجماع مقطوع بها. هذا كلامه. فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام، والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل، والسفر إلى مجرد زيارة القبور،/ وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
والشـيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها، ويندب إليها. وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال: إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها. والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا تخفي عليه خافية.
ولما وصل خط القاضى المذكور إلى الديار المصرية، كثر الكلام وعظمت الفتنة، وطلب القضاة بها، فاجتمعوا وتكلموا، وأشار بعضهم بحبس الشيخ. فرسم السلطان به، وجرى ما تقدم ذكره، ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع.
وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد، فقاموا في الانتصار له، وكتبوا بموافقته، ورأيت خطوطهم بذلك.
وهذا صورة ما كتبوا:
/بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى ـ بعد حمد الله السابغة نعمه، السابقة مننه، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ:
إنه حيث قد مَنَّ الله تعالى على عباده، وتفضل برحمته على بلاده بأن وسد أمور الأمة المحمدية، وأسند أزمة الملة الحنيفية، إلى من خصصه الله تعالى بأفضل الكمالات النفسانية، وخصص بأكمل السعادات الروحانية، محيى سنن العدل، ومبدى سنن الفضل، المعتصم بحبل الله، المتوكل على الله، المكتفي بنعم الله، القائم بأوامر الله، المستظهر بقوة الله، المستضىء بنور الله، أعز الله سلطانه، وأعلى على سائر الملوك شأنه، ولا زالت رقاب الأمم خاضعة لأوامره، وأعناق العباد طائعة لمراسمه، ولا زال موالى دولته بطاعته مجبورًا، ومعادى صولته بخزيه مذمومًا مدحورًا.
فالمرجو من ألطاف الحضرة المقدسة ـ زادها الله تعالى علوًا وشرفًا ـ أن يكون للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وصفوة الأصفياء، /وعماد الدين، ومدار أهل اليقين، حظ من العناية السلطانية وافر، ونصيب من الرحمة والشفقة، فإنه مَنْقَبة لا يعادلها فضيلة، وحسنة لا يحيطها سيئة؛ لأنها حقيقة التعظيم لأمر الله تعالى، وخلاصة الشفقة على خلق الله تعالى.
ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الشيخ الإمام العلامة وحيد دهره، وفريد عصره، تقى الدين أبو العباس، أحمد بن تيمية وما أجاب به. فوجدته خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب حسبما اقتضاه الحال: من نقله الصحيح، وما أدى إليه البحث من الإلزام والالتزام، لا يداخله تحامل، ولا يعتريه تجاهل. وليس فيه ـ والعياذ بالله ـ ما يقتضى الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول صلى الله عليبه وسلم.
وكيف يجوز للعلماء أن تحملهم العصبية، أن يتفوهوا بالإزراء والتنقيص في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل يجوز أن يتصور متصور أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم تزيد في قدره، وهل تركها مما ينقص من تعظيمه؟ حاشا للرسول من ذلك.
نعم، لو ذكر ذلك ذاكر ابتداء، وكان هناك قرائن تدل على الإزراء والتنقيص، أمكن حمله على ذلك، مع أنه كان يكون كناية لا صريحًا، /فكيف وقد قاله في معرض السؤال، وطريق البحث والجدل؟
مع أن المفهوم من كلام العلماء، وأنظار العقلاء، أن الزيارة ليست عبادة وطاعـة لمجردها، حتى لو حلف أنه يأتى بعبادة أو طاعة لم يبر بها، لكن القاضى ابن كج ـ من متأخرى أصحابنا ـ ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلزم ناذرها. وهو منفرد به، لا يساعده في ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح. والذى يقتضيه مطلق الخبر النبوى في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال....) إلى آخره، أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر أو وجوبه، أو ندبيته، فإن فعله كان مخالفًا لصريح النهى، ومخالفة النهى معصية ـ إما كفر، أو غيره ـ على قدر المنهى عنه، ووجوبه، وتحريمه، وصفة النهى، والزيارة أخص من وجه. فالزيارة بغير شد غير منهى عنها، ومع الشد منهى عنها.
وبالجملة، فما ذكره الشيخ تقى الدين على الوجه المذكور الموقوف عليه، لم يستحق عليه عقابًا، ولا يوجب عتابًا.
والمراحم السلطانية أحرى بالتوسعة، والنظر بعين الرأفة والرحمة إليه وللآراء الملكية علو المزيد.
حرره ابن الكتبى الشافعى، حامدًا لله على نعمه. ا هـ.
/جواب آخر:
الله الموفق.
ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد، بقية السلف، وقدوة الخلف، رئىس المحققين، وخلاصة المدققين، تقى الملة والحق والدين: من الخلاف في هذه المسألة: صحيح منقول في غير ما كتاب من كتب أهل العلم، لا اعتراض عليه في ذلك؛ إذ ليس في ذلك ثلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غض من قدره صلى الله عليه وسلم.
وقد نص الشيخ أبو محمد الجوينى في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور. وهذا اختيار القاضى الإمام عياض بن موسى بن عياض في إكماله. وهو من أفضل المتأخرين من أصحابنا.
ومن المدونة: ومن قال: علىَّ المشى إلى المدينة، أو بيت المقدس، فلا يأتيهما أصلا، إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما، فليأتهما. فلم يجعل نذر زيارة قبره صلى الله عليه وسلم طاعة يجب الوفاء بها؛ إذ من أصلنا: أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها،/ كان من جنسها ما هو واجب بالشرع، كما هو مذهب أبي حنيفة، أو لم يكن.
قال القاضى أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق، عقيب هذه المسألة: ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما، ولو كان نذر زيارة طاعة لما لزمه ذلك.
وقد ذكر ذلك القيروانى في تقريبه، والشيخ ابن سيرين في تنبيهه. وفي المبسوط: قال مالك: ومن نذر المشى إلى مسجد من المساجد ليصلى فيه. قال: فإنى أكره ذلك له. لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس، ومسجدي هذا). وروي محمد بن المواز في الموازية: إلا أن يكون قريبًا، فيلزمه الوفاء، لأنه ليس بشد رحل. وقد قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتابه [التمهيد]: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
وحيث تقرر هذا فلا يجوز أن ينسب من أجاب في هذه المسألة بأنه سفر منهى عنه إلى الكفر، فمن كفره بذلك من غير موجب، فإن كان مسـتبيحًا ذلك فهو كافر؛ وإلا فهو فاسق.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن على المازرى في كتاب [المعلم]: / من كفر أحدًا من أهل القبلة، فإن كان مستبيحًا ذلك فقد كفر، وإلا فهو فاسق. يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه، ويعزره بما يكون رادعًا لأمثاله، فإن ترك مع القدرة عليه فهو آثم، والله تعالى أعلم.
كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادى، الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية، رحمة الله على منشئها.
وأجاب غيره فقال:
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين.
ما ذكره مولانا الإمام، العالم العامل، جامع الفضائل والفوائد، بحر العلوم، ومنشأ الفضل جمال الدين، كاتب خطه أمام خطى هذا، جمل الله به الإسلام، وأسبغ عليه سوابغ الإنعام، أتى فيه بالحق الجلى الواضح، وأعرض فيه عن إغضاء المشايخ؛ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه، لا يخفي على ذى فطنة وعقل أنه أتى في الجواب المطابق للسؤال بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه، ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه /له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم. والمعترض له بالتشنيع، إما جاهل لا يعلم ما يقول، أو متجاهل يحمله حسده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول، أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد، وعصمنا من مخائل النكد، بمحمد وآله الطيبين الطاهرين؛ والحمد لله رب العالمين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه ورضوانه، عبد المؤمن بن عبد الحق الخطيب، غفر الله له وللمسلمين أجمعين.
وأجاب غيره فقال:
بعد حمد الله الذى هو فاتح كل كلام، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، أعلام الهدى ومصابيح الظلام، يقول أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى عفوه:
ما حكاه الشيخ الإمام البارع الهمام، افتخار الأنام، جمال الإسلام، ركن الشريعة، ناصر السنة، قامع البدعة، جامع أشتات الفضائل، قدوة العلماء الأماثل، في هذا الجواب، من أقوال العلماء والأئمة النبلاء ـ رحمة الله عليهم / أجمعين ـ بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، بل أوضح من النيرين، وأظهر من فرق الصبح لذى عينين. والعمدة في هذه المسألة: الحديث المتفق على صحته. ومنشأ الخلاف بين العلماء من احتمالى صيغته.
وذلك: أن صيغة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال) ذات وجهين، نفي ونهى، لاحتمالهما؛ فإن لحظ معنى النفي فمقتضاه: نفي فضيلة واستحباب شد الرحال، وإعمال المطى إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ لو فرض وقوعهما لامتنع رفعهما. فتعين توجه النفي إلى فضيلتهما واستحبابهما دون ذاتهما، وهذا عام في كل ما يعتقد أن إعمال المطى وشد الرحال إليه قربة وفضيلة؛ من المساجد، وزيارة قبور الصالحين، وما جرى هذا المجرى، بل أعم من ذلك. وإثبات ذلك بدليل ضرورة إثبات ذلك المنفي المقدر في صدر الجملة لما بعد (إلا). وإلا لما افترق الحكم بين ما قبلها وما بعدها، وهو مفترق حينئذ؛ لا يلزم من نفي الفضيلة والاستحباب نفي الإباحة. فهذا وجه متمسك من قال بإباحة هذا السفر، بالنظر إلى أن هذه الصيغة نفي، وبنى على ذلك جواز القصر.
وإن كان النهي ملحوظًا. فالمعنى: نهيه عن إعمال المطى وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ المقرر عند عامة الأصوليين أن النهى عن الشىء قاض بتحريمه أو كراهته، على حسب مقتضى الأدلـة،/ فهذا وجه متمسك مـن قال بعدم جواز القصر في هـذا السفر، لكونه منهيًا عنـه. وممن قال بحـرمته: الشـيخ الإمام أبو محمد الجوينى من الشـافعىة، والشيخ أبو الوفاء ابن عقيل من الحنابلة، وهو الذى أشار القاضى عياض من المالكية إلى اختياره.
وما جاء من الأحاديث في استحباب زيارة القبور، فمحمول على ما لم يكن فيه شد رحل وإعمال مطى، جمعًا بينهما.
ويحتمل أن يقال: لا يصلح أن يكون غير حديث: (لا تشد الرحال) معارضًا له، لعدم مساواته إياه في الدرجة، لكونه من أعلى أقسام الصحيح، والله أعلم.
وقد بلغنى أنه رزئ وضيق على المجيب. وهذا أمر يحار فيه اللبيب ويتعجب منه الأريب؛ ويقع به في شك مريب.
فإن جوابـه في هذه المسألة قاض بذكر خلاف العلماء. وليس حاكمًا بالغض من الصالحين والأنبياء؛ فإن الأخذ بمقتضى كلامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في الحديث المتفق على صحة رفعه إليه،هو الغاية القصوى في تتبع أوامره ونواهيه، والعدول عن ذلك محذور، وذلك مما لا مرية فيه.
وإذا كان كذلك، فأى حرج على من سئل عن مسألة فذكر فيها /خلاف الفقهاء، ومال فيها إلى بعض أقوال العلماء؟ فإن الأمر لم يزل كذلك على ممر العصور، وتعاقب الدهور.
وهل ذلك محمول من القادح إلا على امتطاء نضو الهوى المفضى بصاحبه إلى التوى؛ فإن من يقتبس من فوائده، ويلتقط من فرائده، لحقيق بالتعظيم، وخليق بالتكريم، ممن له الفهم السليم، والذهن المستقيم. وهل حكم المظاهر عليه في الظاهر، إلا كما قيل في المثل السائر: الشعير يؤكل ويذم. وقول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر**وحسن فعل كما يجزى سنمار
غيره:
وحديث ألـذه، وهـو مـما**ينعت الناعتون يـوزن وزنـًا
منطـق رائـع. ويلحـن أحيا**نـا. وخـير الحـديث مـا كـان لـحـنًا
وقال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. /وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
ولولا خشية الملالة، لما نكبت عن الإطالة.
نسأل الله الكريم، أن يسلك بنا وبكم سبيل الهداية، وأن يجنبنا وإياكم مسلك الغواية، إنه على كل شىء قدير، وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم النصير.
والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيد المرسلين، محمد النبي وآله الطاهرين، وأصحابه الكرام المنتخبين.
هذا جواب الشيخ الإمام العلامة جمال الدين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام بن البتى الحنبلى رحمه الله تعالى.
قال المؤلف: ومن خطه نقلت.
/جواب آخر لبعض علماء أهل الشام المالكية:
الحمد لله، وهو حسبى.
السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمشروع. وأما من سافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليصلى فيه، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ـ رضي الله عنهما ـ فمشروع، كما ذكر باتفاق العلماء.
وأما لو قصد إعمال المطى لزيارته صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد الصلاة، فهذا السفر إذا ذكر رجل فيه خلافًا للعلماء؛ وأن منهم من قال: إنه منهى عنه. ومنهم من قال: إنه مباح. وأنه على القولين ليس بطاعة، ولا قربة، فمن جعله طاعة وقربة على مقتضى هذين القولين كان حرامًا بالإجماع، وذكر حجة كل قول منهما، أو رجح أحد القولين، لم يلزمه ما يلزم من تنقص؛ إذ لا تنقص ولا إزراء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
/وقد قال مالك ـ رحمه الله ـ لسائل سأله: أنه نذر أن يأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته، وليصل فيه. وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذى جاء: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد)، والله أعلم.
كتبه أبو عمرو بن أبي الوليد المالكى.
كذلك يقول عبد الله بن أبي الوليد المالكى.
قال المؤلف ـ رحمه الله : نقلت هذه الأجوبة كلها من خط المفتين بها.
قال: ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد، وصورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ناصر الملة الإسلامية، ومعز الشريعة المحمدية، بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية، المالكية، الناصرية، ألبسها الله تعالى لباس العز المقرون بالدوام، وحلاها بحلية النصر المستمر بمرور الليالى والأيام، والصلاة والسلام على النبي المبعوث إلى جميع الأنام، صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام.
/اللهم إن بابك لم يزل مفتوحًا للسائلين، ورفدك ما برح مبذولا للوافدين، من عودته مسألتك وحدك لم يسأل أحدًا سواك، ومن منحته منائح رفدك، لم يفد على غيرك، ولم يحتم إلا بحماك. أنت الرب العظيم الكريم الأكرم، قصد باب غيرك على عبادك محرم. أنت الذى لا إله غيرك، ولا معبود سواك، عز جارك؛ وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، وعظم بلاؤك، ولا إله غيرك. ولم تزل سنتك في خلقك جارية بامتحان أوليائك وأحبابك، تفضلا منك عليهم، وإحسانًا من لدنك إليهم. ليزدادوا لك في جميع الحالات ذكرًا ولإنعامك في جميع التقلبات شكرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
اللهم وأنت العالم الذى لا تُعَلَّم، وأنت الكريم الذى لا تبخل، قد علمت يا عالم السر والعلانية، أن قلوبنا لم تزل ترفع إخلاص الدعاء صادقة، وألسنتا في حالتى السر والعلانية ناطقة. أن تسعفنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية، بمزيد العلا والرفعة والتمكين، وأن تحقق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة في ذلك، برفع قواعد دعائم الدين، وقمع مكايد الملحدين؛ لأنها الدولة التى برئت من غشيان الجنف والحيف، وسلمت من طغيان القلم والسيف.
والذى ينطوى عليه ضمائر المسلمين، ويشتمل علىه سرائر المؤمنين: /أن السلطان الملك الناصر للدين، ممن قال فيه رب العالمين، وإله السموات والأرضين: الذى بتمكينه في أرضه حصل التمكين لملوك الأرض، وعظماء السلاطين، في كتابه العزيز الذى يتلى، فمن شاء فليتدبر: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41]، وهو ممن مكنه الله تعالى في الأرض تمكينًا، يقينا لا ظنًا، وهو ممن يعنى بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
والذى عهده المسلمون، وتعوده المؤمنون، من المراحم الكريمة والعواطف الرحيمة، إكرام أهل الدين، وإعظام علماء المسلمين.
والذى حمل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة ـ وإن كانت لم تزل مرفوعة إلى الله سبحانه بالنية الصحيحة ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ، فهذان الحديثان مشهوران بالصحة، ومستفيضان في الأمة.
/ثم إن هذا الشيخ المعظم الجليل، والإمام المكرم النبيل، أوحد الدهر، وفريد العصر، طراز المملكة الملكية، وعلم الدولة السلطانية لو أقسم مقسم بالله العظيم القدير، أن هذا الإمام الكبير، ليس له في عصره مماثل ولا نظير لكانت يمينه برة غنية عن التكفير، وقد خلت من وجود مثله السبع الأقاليم، إلا هذا الإقليم، يوافق على ذلك كل منصف جبل على الطبع السليم. ولست بالثناء عليه أطريه، بل لو أطنب مطنب في مدحه والثناء عليه لما أتى على بعض الفضائل التى هى فيه؛ أحمد بن تيمية، درة يتيمة يتنافس فيها، تشترى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك درة تماثلها وتؤاخيها، انقطعت عن وجود مثله الأطماع.
لقد أصم الأسماع، وأوهى قوى المتبوعين والأتباع سماع رفع، أبي العباس ـ أحمد بن تيمية ـ إلى القلاع.
وليس يقع من مثله أمر ينقم منهم عليه، إلا أنه يكون أمرًا قد لبس عليه، ونسب إلى ما ينسب مثله إليه. والتطويل على الحضرة العالية، لا يليق، إن يكن في الدنيا قطب فهو القطب على التحقيق، قد نصب الله السلطان أعلى الله شأنه في هذا الزمان منصب يوسف الصديق، صلى الله على نبينا وعليه، لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه، حين أمحلت البلاد، واحتاج أهلها إلى القوت المدخر لديه. والحاجة بالناس والآن إلى قوت الأرواح، المشار في ذلك الزمان إليها، لا خفاء / أنها للعلوم الشريفة، والمعانى اللطيفة.
وقد كانت في بلاد المملكة السلطانية ـ حرسها الله تعالى ـ تكال إلينا جزافًا بغير أثمان، منحة عظيمة من الله للسلطان، ونعمة جسيمة إذ خص بلاد مملكته وإقليم دولته بما لا يوجد في غيرها من الأقاليم والبلدان، وكان قد وفد الوافدون من سائر الأمصار إلى تلك الديار؛ فوجدوا صاحب صواع الملك قد رفع إلى القلاع، ومثل هذه الميرة لا توجد في غير تلك البلاد لتشترى أو تباع، فصادف ذلك جدب الأرض ونواحيها، جدبًا أعطب أهاليها، حتى صاروا من شدة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات، والذى عرض للملك بالتضييق على صاحب صواعه، مع شدة الحاجة إلى غذاء الأرواح، لعله لم يتحقق عنده أن هذا الإمام من أكابر الأولياء وأعيان أهل الصلاح، وهذه نزغة من نزغات الشيطان، قال الله سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء:53].
وأما إزارء بعض العلماء عليه في فتواه، وجوابه عن مسألة شد الرحال إلى القبور، فقد حمل جواب علماء هذه البلاد، إلى نظرائهم من العلماء، وقرنائهم من الفضلاء، وكلهم أفتى: أن الصواب في الذى به أجاب.
/والظاهر بين الأنام، أن إكرام هذا الإمام، ومعاملته بالتبجيل والاحترام، فيه قوام الملك، ونظام الدولة، وإعزاز الملة، واستجلاب الدعاء، وكبت الأعداء، وإذلال أهل البدع والأهواء، وإحياء الأمة وكشف الغمة، ووفور الأجر، وعلو الذكر، ورفع البأس، ونفع الناس، ولسان حال المسلمين تال قول الكبير المتعال: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88].
والبضاعة المزجاة: هى هذه الأوراق، المرقومة بالأقلام، والميرة المطلوبة: هى الإفراج عن شيخ الإسلام، والذى حمل على هذا الإقدام قوله عليه السلام: (الدين النصيحة)، والسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الكرام، وسلم تسليما. هذا آخر هذا الكتاب.
قال المؤلف: ووقفت على [كتاب آخر] من بغداد أيضًا. صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد النبي / وآله وصحبه أجمعين.
اللهم فكما أيـدت ملـوك الإسـلام وولاة الأمـور بالقـوة والأيـد وشيدت لهم ذكرًا، وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخرًا، وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جبرًا، فاشدد اللهم منهم بحسن معونتك لهم إزرًا، وأعل لهم جدًا وارفع قدرًا، وزدهم عزًا، وزودهم على أعدائك نصرًا، وامنحهم توفيقًا مسددًا، وتمكينًا مستمرًا.
وبعد، فإنه لما قرع أسماع أهل البلاد المشرقية، والنواحى العراقية التضييق على شيخ الإسلام، تقى الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، سلمه الله، عظم ذلك على المسلمين، وشق على ذوى الدين، وارتفعت رؤوس الملحدين، وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين، ولما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة، من شماتة أهل البدع وأهل الأهواء، بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء، أنهوا حال هذا الأمر الفظيع والأمر الشنيع، إلى الحضرة الشريفة السلطانية، زادها الله شرفًا، وكتبوا أجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ، سلمه الله في فتاواه، وذكروا من علمه، وفضائله بعض ما هو فيه، وحملوا ذلك إلى بين يدى مولانا ملك الأمراء، أعز الله أنصاره وضاعف اقتداءه، غيرة منهم على هذا الدين، ونصيحة للإسلام وأمراء المؤمنين.
/والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم، لأنها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم.
وأفضل الصلاة وأشرف التسليم، على النبي الأمي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما.
أفتونا مأجورين ـ رحمكم الله
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:
أحدهما: وهو قول متقدمى العلماء الذين لايجوزون القصر في سفر المعصية، كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين: أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهى عنه. ومذهب مالك والشافعى وأحمد: أن السفر المنهى عنه في الشريعة لا يقصر فيه.
والقول الثاني: أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم، كأبي حنيفة. ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى /وأحمد، ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالى، وأبي الحسن ابن عبدوس الحرانى، وأبي محمد بن قدامة المقدسى. وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (زوروا القبور).
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (من زارني بعد مماتى، فكأنما زارني في حياتي). رواه الدارقطنى وابن ماجه .
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله: (من حج ولم يزرنى فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة).
فإن هذا ـ أيضًا ـ باتفاق العلماء لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى ونحوه.
وقد احتج أبو محمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء.
وأجاب عن حديث: (لا تشد الرحال)، بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.
/وأما الأولون،فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يشد الرحل ليصلى بمسجد، أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.
ولو نذر أن يسافر ويأتى المسجد الحرام لحج أو عمرة. وجب عليه ذلك باتفاق العلماء.
ولو نذر أن يأتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر، عند مالك والشافعى في أحد قوليه، وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع.
أما الجمهور، فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخارى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه).
والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به.
/وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من المساجد الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الحديث الصحيح: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة).
قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة، وفعله، فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة.
وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطـة في [الإبانة الصغرى] من البدع المخالفة للسـنة والإجماع.
وبهذا يظهر بطلان حجة أبي محمد المقدسى؛ لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر.
وقوله بأن الحديث الذى مضمونه (لا تشد الرحال): محمول على نفي الاستحباب، يجاب عنه بوجهين:
/أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة، ولا طاعة، ولا هو من الحسنات. فإذًا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع. وإذا سافر لاعتقاد أن ذلك طاعة، كان ذلك محرمًا بإجماع المسلمين. فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدًا لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح، فهذا جائز، وليس من هذا الباب.
الوجه الثانى: أن هذا الحديث يقتضى النهى، والنهى يقتضى التحريم. وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة، باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هى موضوعة، لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشىء منها، بل مالك ـ إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة ـ كره أن يقول الرجل: زرت قبره صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظ معروفًا عندهم، أو مشروعًا، أو مأثورًا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم أهل المدينة.
والإمام أحمد ـ أعلم الناس في زمانه بالسنة ـ لما سئل عن ذلك لم /يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث، إلا حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يسلم عَليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، وعلى هذا اعتمد أبو داود في سنته. وكذلك مالك في الموطأ، روي عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف.
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم).
وفي سنن سعيد بن منصور: أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبي طالب، رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده، فقال: يا هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغنى). فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
وفي الصحيحين عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ في مرض موته ـ: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما فعلوا. ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره /أن يتخذ مسجدًا. وهم دفنوه صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء؛ لئلا يصلى أحد عند قبره ويتخذه مسجدًا، فيتخذ قبره وثنًا.
وكان الصحابة والتابعون ـ لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد، إلى زمن الوليد ابن عبد الملك ـ لا يدخل أحد إليه، لا لصلاة هناك، ولا تمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد.
وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة، ولم يستقبلوا القبر.وأما الوقوف للسلام عليه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضًا، ولا يستقبل القبر.
وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يستقبل القبر عند الدعاء.
وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تروي عن مالك، ومذهبه بخلافها.
/واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله.
وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله: اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، قالوا: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما مـاتوا عكفوا على قبـورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر البخارى في صحيحه هذا المعنى عن ابن عباس. وذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره [وَثِيمة] وغيره في قصص الأنبياء مـن عـدة طرق. وقـد بسطت الكـلام على أصول هـذه المسائل في غير هذا الموضع.
وأول مـن وضـع هـذه الأحـاديث في السفر لزيارة المشاهد التى على القبور، أهل البـدع، مـن الرافضـة ونحـوهم، الذين يعطلـون المساجـد، ويعظمون المشاهد، يَدَعُون بيــوت الله التى أمــر أن يذكر فيها اسمه، ويعبد وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد التى يشــرك فيها ويكـذب، ويبتـدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانًا؛ فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد، دون المشاهد، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18]، وقال تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114].
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه كان يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك). والله أعلم.
هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم. وله من الكلام في مثل هذا كثير، كما أشار إليه في الجواب.
ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضى الشافعية: قابلت الجواب عن هذا السؤال، المكتوب على خط ابن تيمية. فصح ـ إلى أن قال ـ وإنما المحرف جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالإجماع مقطوع بها. هذا كلامه. فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام، والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل، والسفر إلى مجرد زيارة القبور،/ وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
والشـيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها، ويندب إليها. وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال: إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها. والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا تخفي عليه خافية.
ولما وصل خط القاضى المذكور إلى الديار المصرية، كثر الكلام وعظمت الفتنة، وطلب القضاة بها، فاجتمعوا وتكلموا، وأشار بعضهم بحبس الشيخ. فرسم السلطان به، وجرى ما تقدم ذكره، ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع.
وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد، فقاموا في الانتصار له، وكتبوا بموافقته، ورأيت خطوطهم بذلك.
وهذا صورة ما كتبوا:
/بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى ـ بعد حمد الله السابغة نعمه، السابقة مننه، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ:
إنه حيث قد مَنَّ الله تعالى على عباده، وتفضل برحمته على بلاده بأن وسد أمور الأمة المحمدية، وأسند أزمة الملة الحنيفية، إلى من خصصه الله تعالى بأفضل الكمالات النفسانية، وخصص بأكمل السعادات الروحانية، محيى سنن العدل، ومبدى سنن الفضل، المعتصم بحبل الله، المتوكل على الله، المكتفي بنعم الله، القائم بأوامر الله، المستظهر بقوة الله، المستضىء بنور الله، أعز الله سلطانه، وأعلى على سائر الملوك شأنه، ولا زالت رقاب الأمم خاضعة لأوامره، وأعناق العباد طائعة لمراسمه، ولا زال موالى دولته بطاعته مجبورًا، ومعادى صولته بخزيه مذمومًا مدحورًا.
فالمرجو من ألطاف الحضرة المقدسة ـ زادها الله تعالى علوًا وشرفًا ـ أن يكون للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وصفوة الأصفياء، /وعماد الدين، ومدار أهل اليقين، حظ من العناية السلطانية وافر، ونصيب من الرحمة والشفقة، فإنه مَنْقَبة لا يعادلها فضيلة، وحسنة لا يحيطها سيئة؛ لأنها حقيقة التعظيم لأمر الله تعالى، وخلاصة الشفقة على خلق الله تعالى.
ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الشيخ الإمام العلامة وحيد دهره، وفريد عصره، تقى الدين أبو العباس، أحمد بن تيمية وما أجاب به. فوجدته خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب حسبما اقتضاه الحال: من نقله الصحيح، وما أدى إليه البحث من الإلزام والالتزام، لا يداخله تحامل، ولا يعتريه تجاهل. وليس فيه ـ والعياذ بالله ـ ما يقتضى الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول صلى الله عليبه وسلم.
وكيف يجوز للعلماء أن تحملهم العصبية، أن يتفوهوا بالإزراء والتنقيص في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل يجوز أن يتصور متصور أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم تزيد في قدره، وهل تركها مما ينقص من تعظيمه؟ حاشا للرسول من ذلك.
نعم، لو ذكر ذلك ذاكر ابتداء، وكان هناك قرائن تدل على الإزراء والتنقيص، أمكن حمله على ذلك، مع أنه كان يكون كناية لا صريحًا، /فكيف وقد قاله في معرض السؤال، وطريق البحث والجدل؟
مع أن المفهوم من كلام العلماء، وأنظار العقلاء، أن الزيارة ليست عبادة وطاعـة لمجردها، حتى لو حلف أنه يأتى بعبادة أو طاعة لم يبر بها، لكن القاضى ابن كج ـ من متأخرى أصحابنا ـ ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلزم ناذرها. وهو منفرد به، لا يساعده في ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح. والذى يقتضيه مطلق الخبر النبوى في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال....) إلى آخره، أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر أو وجوبه، أو ندبيته، فإن فعله كان مخالفًا لصريح النهى، ومخالفة النهى معصية ـ إما كفر، أو غيره ـ على قدر المنهى عنه، ووجوبه، وتحريمه، وصفة النهى، والزيارة أخص من وجه. فالزيارة بغير شد غير منهى عنها، ومع الشد منهى عنها.
وبالجملة، فما ذكره الشيخ تقى الدين على الوجه المذكور الموقوف عليه، لم يستحق عليه عقابًا، ولا يوجب عتابًا.
والمراحم السلطانية أحرى بالتوسعة، والنظر بعين الرأفة والرحمة إليه وللآراء الملكية علو المزيد.
حرره ابن الكتبى الشافعى، حامدًا لله على نعمه. ا هـ.
/جواب آخر:
الله الموفق.
ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد، بقية السلف، وقدوة الخلف، رئىس المحققين، وخلاصة المدققين، تقى الملة والحق والدين: من الخلاف في هذه المسألة: صحيح منقول في غير ما كتاب من كتب أهل العلم، لا اعتراض عليه في ذلك؛ إذ ليس في ذلك ثلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غض من قدره صلى الله عليه وسلم.
وقد نص الشيخ أبو محمد الجوينى في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور. وهذا اختيار القاضى الإمام عياض بن موسى بن عياض في إكماله. وهو من أفضل المتأخرين من أصحابنا.
ومن المدونة: ومن قال: علىَّ المشى إلى المدينة، أو بيت المقدس، فلا يأتيهما أصلا، إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما، فليأتهما. فلم يجعل نذر زيارة قبره صلى الله عليه وسلم طاعة يجب الوفاء بها؛ إذ من أصلنا: أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها،/ كان من جنسها ما هو واجب بالشرع، كما هو مذهب أبي حنيفة، أو لم يكن.
قال القاضى أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق، عقيب هذه المسألة: ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما، ولو كان نذر زيارة طاعة لما لزمه ذلك.
وقد ذكر ذلك القيروانى في تقريبه، والشيخ ابن سيرين في تنبيهه. وفي المبسوط: قال مالك: ومن نذر المشى إلى مسجد من المساجد ليصلى فيه. قال: فإنى أكره ذلك له. لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس، ومسجدي هذا). وروي محمد بن المواز في الموازية: إلا أن يكون قريبًا، فيلزمه الوفاء، لأنه ليس بشد رحل. وقد قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتابه [التمهيد]: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
وحيث تقرر هذا فلا يجوز أن ينسب من أجاب في هذه المسألة بأنه سفر منهى عنه إلى الكفر، فمن كفره بذلك من غير موجب، فإن كان مسـتبيحًا ذلك فهو كافر؛ وإلا فهو فاسق.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن على المازرى في كتاب [المعلم]: / من كفر أحدًا من أهل القبلة، فإن كان مستبيحًا ذلك فقد كفر، وإلا فهو فاسق. يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه، ويعزره بما يكون رادعًا لأمثاله، فإن ترك مع القدرة عليه فهو آثم، والله تعالى أعلم.
كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادى، الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية، رحمة الله على منشئها.
وأجاب غيره فقال:
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين.
ما ذكره مولانا الإمام، العالم العامل، جامع الفضائل والفوائد، بحر العلوم، ومنشأ الفضل جمال الدين، كاتب خطه أمام خطى هذا، جمل الله به الإسلام، وأسبغ عليه سوابغ الإنعام، أتى فيه بالحق الجلى الواضح، وأعرض فيه عن إغضاء المشايخ؛ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه، لا يخفي على ذى فطنة وعقل أنه أتى في الجواب المطابق للسؤال بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه، ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه /له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم. والمعترض له بالتشنيع، إما جاهل لا يعلم ما يقول، أو متجاهل يحمله حسده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول، أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد، وعصمنا من مخائل النكد، بمحمد وآله الطيبين الطاهرين؛ والحمد لله رب العالمين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه ورضوانه، عبد المؤمن بن عبد الحق الخطيب، غفر الله له وللمسلمين أجمعين.
وأجاب غيره فقال:
بعد حمد الله الذى هو فاتح كل كلام، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، أعلام الهدى ومصابيح الظلام، يقول أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى عفوه:
ما حكاه الشيخ الإمام البارع الهمام، افتخار الأنام، جمال الإسلام، ركن الشريعة، ناصر السنة، قامع البدعة، جامع أشتات الفضائل، قدوة العلماء الأماثل، في هذا الجواب، من أقوال العلماء والأئمة النبلاء ـ رحمة الله عليهم / أجمعين ـ بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، بل أوضح من النيرين، وأظهر من فرق الصبح لذى عينين. والعمدة في هذه المسألة: الحديث المتفق على صحته. ومنشأ الخلاف بين العلماء من احتمالى صيغته.
وذلك: أن صيغة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال) ذات وجهين، نفي ونهى، لاحتمالهما؛ فإن لحظ معنى النفي فمقتضاه: نفي فضيلة واستحباب شد الرحال، وإعمال المطى إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ لو فرض وقوعهما لامتنع رفعهما. فتعين توجه النفي إلى فضيلتهما واستحبابهما دون ذاتهما، وهذا عام في كل ما يعتقد أن إعمال المطى وشد الرحال إليه قربة وفضيلة؛ من المساجد، وزيارة قبور الصالحين، وما جرى هذا المجرى، بل أعم من ذلك. وإثبات ذلك بدليل ضرورة إثبات ذلك المنفي المقدر في صدر الجملة لما بعد (إلا). وإلا لما افترق الحكم بين ما قبلها وما بعدها، وهو مفترق حينئذ؛ لا يلزم من نفي الفضيلة والاستحباب نفي الإباحة. فهذا وجه متمسك من قال بإباحة هذا السفر، بالنظر إلى أن هذه الصيغة نفي، وبنى على ذلك جواز القصر.
وإن كان النهي ملحوظًا. فالمعنى: نهيه عن إعمال المطى وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ المقرر عند عامة الأصوليين أن النهى عن الشىء قاض بتحريمه أو كراهته، على حسب مقتضى الأدلـة،/ فهذا وجه متمسك مـن قال بعدم جواز القصر في هـذا السفر، لكونه منهيًا عنـه. وممن قال بحـرمته: الشـيخ الإمام أبو محمد الجوينى من الشـافعىة، والشيخ أبو الوفاء ابن عقيل من الحنابلة، وهو الذى أشار القاضى عياض من المالكية إلى اختياره.
وما جاء من الأحاديث في استحباب زيارة القبور، فمحمول على ما لم يكن فيه شد رحل وإعمال مطى، جمعًا بينهما.
ويحتمل أن يقال: لا يصلح أن يكون غير حديث: (لا تشد الرحال) معارضًا له، لعدم مساواته إياه في الدرجة، لكونه من أعلى أقسام الصحيح، والله أعلم.
وقد بلغنى أنه رزئ وضيق على المجيب. وهذا أمر يحار فيه اللبيب ويتعجب منه الأريب؛ ويقع به في شك مريب.
فإن جوابـه في هذه المسألة قاض بذكر خلاف العلماء. وليس حاكمًا بالغض من الصالحين والأنبياء؛ فإن الأخذ بمقتضى كلامه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في الحديث المتفق على صحة رفعه إليه،هو الغاية القصوى في تتبع أوامره ونواهيه، والعدول عن ذلك محذور، وذلك مما لا مرية فيه.
وإذا كان كذلك، فأى حرج على من سئل عن مسألة فذكر فيها /خلاف الفقهاء، ومال فيها إلى بعض أقوال العلماء؟ فإن الأمر لم يزل كذلك على ممر العصور، وتعاقب الدهور.
وهل ذلك محمول من القادح إلا على امتطاء نضو الهوى المفضى بصاحبه إلى التوى؛ فإن من يقتبس من فوائده، ويلتقط من فرائده، لحقيق بالتعظيم، وخليق بالتكريم، ممن له الفهم السليم، والذهن المستقيم. وهل حكم المظاهر عليه في الظاهر، إلا كما قيل في المثل السائر: الشعير يؤكل ويذم. وقول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر**وحسن فعل كما يجزى سنمار
غيره:
وحديث ألـذه، وهـو مـما**ينعت الناعتون يـوزن وزنـًا
منطـق رائـع. ويلحـن أحيا**نـا. وخـير الحـديث مـا كـان لـحـنًا
وقال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. /وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
ولولا خشية الملالة، لما نكبت عن الإطالة.
نسأل الله الكريم، أن يسلك بنا وبكم سبيل الهداية، وأن يجنبنا وإياكم مسلك الغواية، إنه على كل شىء قدير، وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم النصير.
والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيد المرسلين، محمد النبي وآله الطاهرين، وأصحابه الكرام المنتخبين.
هذا جواب الشيخ الإمام العلامة جمال الدين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام بن البتى الحنبلى رحمه الله تعالى.
قال المؤلف: ومن خطه نقلت.
/جواب آخر لبعض علماء أهل الشام المالكية:
الحمد لله، وهو حسبى.
السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمشروع. وأما من سافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليصلى فيه، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ـ رضي الله عنهما ـ فمشروع، كما ذكر باتفاق العلماء.
وأما لو قصد إعمال المطى لزيارته صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد الصلاة، فهذا السفر إذا ذكر رجل فيه خلافًا للعلماء؛ وأن منهم من قال: إنه منهى عنه. ومنهم من قال: إنه مباح. وأنه على القولين ليس بطاعة، ولا قربة، فمن جعله طاعة وقربة على مقتضى هذين القولين كان حرامًا بالإجماع، وذكر حجة كل قول منهما، أو رجح أحد القولين، لم يلزمه ما يلزم من تنقص؛ إذ لا تنقص ولا إزراء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
/وقد قال مالك ـ رحمه الله ـ لسائل سأله: أنه نذر أن يأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته، وليصل فيه. وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذى جاء: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد)، والله أعلم.
كتبه أبو عمرو بن أبي الوليد المالكى.
كذلك يقول عبد الله بن أبي الوليد المالكى.
قال المؤلف ـ رحمه الله : نقلت هذه الأجوبة كلها من خط المفتين بها.
قال: ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد، وصورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ناصر الملة الإسلامية، ومعز الشريعة المحمدية، بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية، المالكية، الناصرية، ألبسها الله تعالى لباس العز المقرون بالدوام، وحلاها بحلية النصر المستمر بمرور الليالى والأيام، والصلاة والسلام على النبي المبعوث إلى جميع الأنام، صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام.
/اللهم إن بابك لم يزل مفتوحًا للسائلين، ورفدك ما برح مبذولا للوافدين، من عودته مسألتك وحدك لم يسأل أحدًا سواك، ومن منحته منائح رفدك، لم يفد على غيرك، ولم يحتم إلا بحماك. أنت الرب العظيم الكريم الأكرم، قصد باب غيرك على عبادك محرم. أنت الذى لا إله غيرك، ولا معبود سواك، عز جارك؛ وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، وعظم بلاؤك، ولا إله غيرك. ولم تزل سنتك في خلقك جارية بامتحان أوليائك وأحبابك، تفضلا منك عليهم، وإحسانًا من لدنك إليهم. ليزدادوا لك في جميع الحالات ذكرًا ولإنعامك في جميع التقلبات شكرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
اللهم وأنت العالم الذى لا تُعَلَّم، وأنت الكريم الذى لا تبخل، قد علمت يا عالم السر والعلانية، أن قلوبنا لم تزل ترفع إخلاص الدعاء صادقة، وألسنتا في حالتى السر والعلانية ناطقة. أن تسعفنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية، بمزيد العلا والرفعة والتمكين، وأن تحقق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة في ذلك، برفع قواعد دعائم الدين، وقمع مكايد الملحدين؛ لأنها الدولة التى برئت من غشيان الجنف والحيف، وسلمت من طغيان القلم والسيف.
والذى ينطوى عليه ضمائر المسلمين، ويشتمل علىه سرائر المؤمنين: /أن السلطان الملك الناصر للدين، ممن قال فيه رب العالمين، وإله السموات والأرضين: الذى بتمكينه في أرضه حصل التمكين لملوك الأرض، وعظماء السلاطين، في كتابه العزيز الذى يتلى، فمن شاء فليتدبر: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41]، وهو ممن مكنه الله تعالى في الأرض تمكينًا، يقينا لا ظنًا، وهو ممن يعنى بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
والذى عهده المسلمون، وتعوده المؤمنون، من المراحم الكريمة والعواطف الرحيمة، إكرام أهل الدين، وإعظام علماء المسلمين.
والذى حمل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة ـ وإن كانت لم تزل مرفوعة إلى الله سبحانه بالنية الصحيحة ـ قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ، فهذان الحديثان مشهوران بالصحة، ومستفيضان في الأمة.
/ثم إن هذا الشيخ المعظم الجليل، والإمام المكرم النبيل، أوحد الدهر، وفريد العصر، طراز المملكة الملكية، وعلم الدولة السلطانية لو أقسم مقسم بالله العظيم القدير، أن هذا الإمام الكبير، ليس له في عصره مماثل ولا نظير لكانت يمينه برة غنية عن التكفير، وقد خلت من وجود مثله السبع الأقاليم، إلا هذا الإقليم، يوافق على ذلك كل منصف جبل على الطبع السليم. ولست بالثناء عليه أطريه، بل لو أطنب مطنب في مدحه والثناء عليه لما أتى على بعض الفضائل التى هى فيه؛ أحمد بن تيمية، درة يتيمة يتنافس فيها، تشترى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك درة تماثلها وتؤاخيها، انقطعت عن وجود مثله الأطماع.
لقد أصم الأسماع، وأوهى قوى المتبوعين والأتباع سماع رفع، أبي العباس ـ أحمد بن تيمية ـ إلى القلاع.
وليس يقع من مثله أمر ينقم منهم عليه، إلا أنه يكون أمرًا قد لبس عليه، ونسب إلى ما ينسب مثله إليه. والتطويل على الحضرة العالية، لا يليق، إن يكن في الدنيا قطب فهو القطب على التحقيق، قد نصب الله السلطان أعلى الله شأنه في هذا الزمان منصب يوسف الصديق، صلى الله على نبينا وعليه، لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه، حين أمحلت البلاد، واحتاج أهلها إلى القوت المدخر لديه. والحاجة بالناس والآن إلى قوت الأرواح، المشار في ذلك الزمان إليها، لا خفاء / أنها للعلوم الشريفة، والمعانى اللطيفة.
وقد كانت في بلاد المملكة السلطانية ـ حرسها الله تعالى ـ تكال إلينا جزافًا بغير أثمان، منحة عظيمة من الله للسلطان، ونعمة جسيمة إذ خص بلاد مملكته وإقليم دولته بما لا يوجد في غيرها من الأقاليم والبلدان، وكان قد وفد الوافدون من سائر الأمصار إلى تلك الديار؛ فوجدوا صاحب صواع الملك قد رفع إلى القلاع، ومثل هذه الميرة لا توجد في غير تلك البلاد لتشترى أو تباع، فصادف ذلك جدب الأرض ونواحيها، جدبًا أعطب أهاليها، حتى صاروا من شدة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات، والذى عرض للملك بالتضييق على صاحب صواعه، مع شدة الحاجة إلى غذاء الأرواح، لعله لم يتحقق عنده أن هذا الإمام من أكابر الأولياء وأعيان أهل الصلاح، وهذه نزغة من نزغات الشيطان، قال الله سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء:53].
وأما إزارء بعض العلماء عليه في فتواه، وجوابه عن مسألة شد الرحال إلى القبور، فقد حمل جواب علماء هذه البلاد، إلى نظرائهم من العلماء، وقرنائهم من الفضلاء، وكلهم أفتى: أن الصواب في الذى به أجاب.
/والظاهر بين الأنام، أن إكرام هذا الإمام، ومعاملته بالتبجيل والاحترام، فيه قوام الملك، ونظام الدولة، وإعزاز الملة، واستجلاب الدعاء، وكبت الأعداء، وإذلال أهل البدع والأهواء، وإحياء الأمة وكشف الغمة، ووفور الأجر، وعلو الذكر، ورفع البأس، ونفع الناس، ولسان حال المسلمين تال قول الكبير المتعال: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88].
والبضاعة المزجاة: هى هذه الأوراق، المرقومة بالأقلام، والميرة المطلوبة: هى الإفراج عن شيخ الإسلام، والذى حمل على هذا الإقدام قوله عليه السلام: (الدين النصيحة)، والسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الكرام، وسلم تسليما. هذا آخر هذا الكتاب.
قال المؤلف: ووقفت على [كتاب آخر] من بغداد أيضًا. صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد النبي / وآله وصحبه أجمعين.
اللهم فكما أيـدت ملـوك الإسـلام وولاة الأمـور بالقـوة والأيـد وشيدت لهم ذكرًا، وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخرًا، وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جبرًا، فاشدد اللهم منهم بحسن معونتك لهم إزرًا، وأعل لهم جدًا وارفع قدرًا، وزدهم عزًا، وزودهم على أعدائك نصرًا، وامنحهم توفيقًا مسددًا، وتمكينًا مستمرًا.
وبعد، فإنه لما قرع أسماع أهل البلاد المشرقية، والنواحى العراقية التضييق على شيخ الإسلام، تقى الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، سلمه الله، عظم ذلك على المسلمين، وشق على ذوى الدين، وارتفعت رؤوس الملحدين، وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين، ولما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة، من شماتة أهل البدع وأهل الأهواء، بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء، أنهوا حال هذا الأمر الفظيع والأمر الشنيع، إلى الحضرة الشريفة السلطانية، زادها الله شرفًا، وكتبوا أجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ، سلمه الله في فتاواه، وذكروا من علمه، وفضائله بعض ما هو فيه، وحملوا ذلك إلى بين يدى مولانا ملك الأمراء، أعز الله أنصاره وضاعف اقتداءه، غيرة منهم على هذا الدين، ونصيحة للإسلام وأمراء المؤمنين.
/والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم، لأنها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم.
وأفضل الصلاة وأشرف التسليم، على النبي الأمي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما.
عدد المشاهدات *:
479702
479702
عدد مرات التنزيل *:
264908
264908
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013