خرج ساقي الملك و دخل القصر و سعى يعمل بإخلاص في خدمة الملك فانساه الشيطان بذلك ذكر أمر يوسف عند الملك.
و ذلك لأن الله تعالى هو الفعال لما يريد و حتى لا يمتن الساقي على يوسف عليه السلام بنعمة قدر عليه النسيان و جعل الملك يرى رؤيا أرعبته و جعلته يجمع لها حاشيته و ملأه.
أصاب الملك الذعر و الفزع من رؤيا رآها فجمع كبارات رجالات الدولة حتى يستشيرهم و يلتمس فيهم رجلا رشيدا يعبر له ما رأى فقد قيل :
لا تقصص رؤياك إلا على عالم او محب
و ذلك ان الله أمر باستفتاء العلماء عند قوله :
فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون
و قد قيل لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما : بما نلت هذا العلم؟
فقال : بلسان سؤول و قلب عقول.
و اما الجاهل فلا نفع فيه كما قيل : اغد عالما او متعلما و لا تكن الثالث فتهلك.
فلما اطلع الملأ على رؤيا الملك عجزوا عن الإحاطة بكنهها و ما فيها من معاني و عبر فأجابوا الملك بأنها ما هي إلا مجرد أضغاث أحلام لا فائدة فيها و احتجوا على قولهم بأنهم يجهلون علم تعبير الرؤى حتى يأخذ الملك القرار اللازم في متابعة هذا الأمر او تركه لانهم يجهلون التعبير و لذلك لا يستطيعون الخوض فيه ، و بما ان كل شيء جاوز الإثنين فهو فاش، فقد فشى أمر رؤيا الملك في القصر و علم به الساقي فأيقظ فيه ذكريات السجن و تذكر باذن الله و مشيئته أمر يوسف عليه السلام فقال في نفسه : أنا لها ،و سره ذلك فاستاذن الملك في الحديث ليخبره أنه تعامل مع شخص يعبر الرؤى في السجن و قص عليه ما جرى له و أخبره بشأن يوسف عليه السلام فارسله الملك إليه يستفنيه.
دخل الساقي السجن بصفته مبعوثا خاصا للملك و جاء يوسف عليه السلام و سر بلقاءه و أبلغه ان الملك رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و اخر يابسات و طلب منه ان يقوم بتعبيرها.
قال يوسف عليه السلام ان تعبير الرؤيا كما يلي : ان مصر تستقبل بمشيئة الله تعالى و إرادته سبع سنوات من رغد العيش سيجعل الله تعالى الأمطار تهطل فيها بكثافة و ستنبت الأرض خيراتها و عليهم حينئذ إحكام تدبير المحاصيل و المنتوجات بتنظيم عملية الإدخار و عدم الإسراف و التبذير في استغلال الخيرات لانهم سيلاقون بعدها سبع سنوات من القحط و الجفاف لا تمطر فيها السماء و تموت الأرض حتى تستنفذ كل شيء جمعوه و وفروه قبلها، عندها يجوع العباد و يضيقون فيها ذرعا حتى اذا ما تحققوا الهلاك جاءهم الغوث من الله فنزل الغيث و فاض الخير.
رجع الساقي من السجن إلى القصر يحمل بشارة و نذارة فلما أخبر الملك بتعبير الرؤيا كما ذكر يوسف عليه السلام طلب الملك الإفراج عن يوسف عليه السلام على الفور و أمر باحضاره عنده فلما جاءه الرسول بالبشرى ابى يوسف عليه السلام ان يخرج من السجن كما دخل، اي و هو متهم بالتحرش الجنسي فقد رمي به في زنزانة السجن ظلما و عدوانا و هو لا يريد ان يخرج إلا بريئا من ذلك كله فقال للساقي الذي جاءه يبشره إرجع إلى سيدك و اطلب منه ان يتحرى بشأن النسوة اللواتي تامرن عليه حتى ألقي به في السجن، فجمعهن الملك في مجلسه بحضرة العزيز و زوجة العزيز و سألهن لماذا تأمرتن على يوسف و حاولتن اغراءه بالزنى؟
فاقسمن بالله انهن لا يعملن عن يوسف إلا الخير و ما صدر منه من سوء ابدا.
فتكلمت زليخا و اعترفت بأنها التي كانت وراء سجن يوسف عليه السلام و أنها راودته عن نفسه فاعتصم بالله و لم يجبها إلى ما دعت إليه من الفاحشة، و قالت أنها اصرت على حضور زوجها في هذا المجلس ليسمع منها شهادتها في يوسف البريء و ليعلم انها لم تخنه ابدا لأنها حاولت مع يوسف فلم تفلح.
تأمل أخي الكريم صبر يوسف عليه السلام الذي اعتدى عليه إخوته صغيرا بسبب حب أبيه له و ها هو يلقى به في السجن بسبب حب زليخا له و هو في كل ذلك صابر محتسب حليم يكظم الغيظ و يعفو و يحسن إلى الناس لا تزيده اساءة الناس إلا إحسانا إليهم و ذلك لأنه لم يقطع الرجاء و الأمل مع الله و لذلك من الله عليه بأسباب الفلاح جزاء صبره على الكيد و المؤامرة التي أحاطت به فالقي به في الجب ثم في غياهب السجن ، و كلما استعصم بالله جاءه الفرج من عنده تعالى بغير حيلة منه ، فما سعى بشيء من الحيل يوم كان في الجب حتى أرسل الله عليه القافلة تخرجه من الجب و كذلك لما اختار السجن على المعصية نسج الله بينه و بين الملك صلة ثقة و تمكين بسبب بسيط لم يأتي بجهد و عناء إنما كان عند استرخاء و راحة عندما نام الملك ليرتاح فرأى رؤيا.
و اذا علمنا من قول خير الأنام صلى الله عليه و سلم ان الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر .فمن صبر في الدنيا كصبر يوسف عليه السلام ملكه ربنا جنة الفردوس الأعلى كما ملك يوسفا عليه السلام خزائن الأرض ، قال الشاعر :
وراء مضيق الأمن متسع الأمن و أول مفروح به غاية الصبر
لا تياسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن.
انما العار في معصية الرحمن و ليس العار في دخول السجن، و لذلك لما سجن ابن تيمية رحمه الله قال:
ما يفعل أعدائي بي انا جنتي و بستاني في صدري انا رحت فهي لا تفارقني
يقصد رحمة الله عليه بالجنة كتاب الله تعالى و بالبستان سنة رسوله صلى الله عليه و سلم لأن المسجون من سجن قلبه عن ذكر الله تعالى و الماسور من اسره هواه.
و لذلك اختار يوسف عليه السلام السجن على معصية الله تعالى فلما دخله أصر على البقاء فيه حتى تثبت براءته فكما ان المريض يبحث عن الدواء ،و يبحث الجائع عن الطعام ، و الظمان عن الماء ...فإن المتهم لا يبحث إلا عن البراءة و يسعى لتطهير عرضه من كل دنس، و قد هيأ الله الأمور و يسرها ليوسف فاستغل حاجة الملك إليه ليقضي حاجته من ناحيتين :
إحداهن إثبات البراءة و ثانيهما الخروج من السجن
و قد اعترفت زليخا أمام زوجها لأن الله تعالى قص علينا سورة يوسف بشكل تسلسلي فلما قال جل شأنه يحدث عن زليخا :
قالت انا راودته عن نفسه و أنه لمن الصادقين ذلك ليعلم اني لم اخنه بالغيب و ان الله لا يهدي كيد الخائنين
علمنا ان خطابها ب :لم اخنه بالغيب - يراد به زوجها لأن يوسف لم يحضر هذا المجلس لكونه لا يزال في السجن بحجة ان الله تعالى قال بعد هذه الآيات البينات :
قال الملك ايئتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين.