بسم الله الرحمن الرحيم َ الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَضَرَّ بِالرَّأْيِ وَلاَ أَفْسَدَ لِلتَّدْبِيرِ مِنْ اعْتِقَادِ الطِّيَرَةِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ خُوَارَ بَقَرَةٍ أَوْ نَعِيبَ غُرَابٍ يَرُدُّ قَضَاءً أَوْ يَدْفَعُ مَقْدُورًا فَقَدْ جَهِلَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ}. فَالْعَدْوَى مَا يَظُنُّهُ النَّاسُ مِنْ تَعَدِّي الْعِلَلِ وَالامْرَاضِ فَأَخْبَرَ أَنَّهَا لاَ تُعْدِي، فَقِيلَ: {يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَرَى النُّقْطَةَ مِنْ الْجَرَبِ فِي مِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَتَتَعَدَّى إلَى جَمِيعِهِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: فَمَا أَعْدَى الاوَّلَ ؟} وَأَمَّا الْهَامَةُ فَهُوَ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَعْتَقِدُهُ مِنْ أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا طَلَّ دَمُهُ فَلَمْ يُدْرَك بِثَأْرِهِ صَاحَتْ هَامَتُهُ فِي الْقَبْرِ: اسْقُونِي. قَالَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ يَعْنِيهَا: يَا عَمْرُو الا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَضْرِبْكَ حَتَّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ: وَكَيْفَ وَقَدْ صَارُوا عِظَامًا وَأَقْبُرًا يَصِيحُ صَدَاهَا بِالْعَشِيِّ وَهَامُهَا تَفَانَوْا وَلَمْ يَبْقَوْا وَكُلُّ قَبِيلَةٍ سَرِيعٌ إلَى وِرْدِ الْفِنَاءِ كِرَامُهَا وَأَمَّا الصَّفَرُ فَهُوَ كَالْحَيَّةِ يَكُونُ فِي الْجَوْفِ يُصِيبُ الْمَاشِيَةَ وَالنَّاسَ، وَهُوَ أَعْدَى عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَرَبِ. وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ: لاَ يُمْسِكُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إذَا ظَنَنْتُمْ فَلاَ تُحَقِّقُوا، وَإِذَا حَسَدْتُمْ فَلاَ تَبْغُوا، وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}. وَقَالَ الشَّاعِرُ: طِيَرَةُ النَّاسِ لاَ تَرُدُّ قَضَاءً فَاعْذُرْ الدَّهْرَ لاَ تُشَبِّهْ بِلَوْمِ أَيُّ يَوْمٍ تَخُصُّهُ بِسُعُودٍ وَالْمَنَايَا يَنْزِلْنَ فِي كُلِّ يَوْمِ لَيْسَ يَوْمٌ الا وَفِيهِ سُعُودٌ وَنُحُوسٌ تَجْرِي لِقَوْمٍ وَقَوْمِ وَقَدْ كَانَتْ الْفُرْسُ أَكْثَرَ النَّاسِ طِيَرَةً. وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا أَرَادَتْ سَفَرًا نَفَّرَتْ أَوَّلَ طَائِرٍ تَلْقَاهُ فَإِنْ طَارَ يَمْنَةً سَارَتْ وَتَيَمَّنَتْ، وَإِذَا طَارَ يَسْرَةً رَجَعَتْ وَتَشَاءَمَتْ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: {أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى وُكُنَاتِهَا}. وَحَكَى عِكْرِمَةُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَمَرَّ طَائِرٌ يَصِيحُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: خَيْرٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ خَيْرَ وَلاَ شَرَّ. وَقَالَ لَبِيدٌ: لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلاَ زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو مِنْ الطِّيَرَةِ أَحَدٌ لاَ سِيَّمَا مَنْ عَارَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ فِي إرَادَتِهِ، وَصَدَّهُ الْقَضَاءُ عَنْ طَلِبَتِهِ، فَهُوَ يَرْجُو وَالْيَأْسُ عَلَيْهِ أَغْلَبُ، وَيَأْمُلُ وَالْخَوْفُ إلَيْهِ أَقْرَبُ. فَإِذَا عَاقَهُ الْقَضَاءُ، وَخَانَهُ الرَّجَاءُ، جَعَلَ الطِّيَرَةَ عُذْرَ خَيْبَتِهِ، وَغَفَلَ عَنْ قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا تَطَيَّرَ أَحْجَمَ عَنْ الاقْدَامِ وَيَئِسَ مِنْ الظَّفَرِ وَظَنَّ أَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ مُطَّرِدٌ وَأَنَّ الْعِبْرَةَ فِيهِ مُسْتَمِرَّةٌ. ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ لَهُ عَادَةً فَلاَ يَنْجَحُ لَهُ سَعْيٌ، وَلاَ يَتِمُّ لَهُ قَصْدٌ. فَأَمَّا مَنْ سَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ وَوَافَقَهُ الْقَضَاءُ فَهُوَ قَلِيلُ الطِّيَرَةِ لِإِقْدَامِهِ ثِقَةً بِإِقْبَالِهِ وَتَعْوِيلًا عَلَى سَعَادَتِهِ، فَلاَ يَصُدُّهُ خَوْفٌ وَلاَ يَكُفُّهُ حُزْنٌ وَلاَ يَئُوبُ، الا ظَافِرًا، وَلاَ يَعُودُ الا مُنْجِحًا؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِالاقْدَامِ، وَالْخَيْبَةَ مَعَ الاحْجَامِ، فَصَارَتْ الطِّيَرَةُ مِنْ سِمَاتِ الادْبَارِ وَاطِّرَاحُهَا مِنْ إمَارَاتِ الاقْبَالِ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ مُنِيَ بِهَا وَبُلِيَ أَنْ يَصْرِفَ عَنْ نَفْسِهِ وَسَاوِسَ النَّوْكَى وَدَوَاعِيَ الْخَيْبَةِ وَذَرَائِعَ الْحِرْمَانِ، وَلاَ يَجْعَلَ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا فِي نَقْضِ عَزَائِمِهِ وَمُعَارَضَةِ خَالِقِهِ. وَيَعْلَمَ أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ غَالِبٌ، وَأَنَّ رِزْقَهُ لَهُ طَالِبٌ، الا أَنَّ الْحَرَكَةَ سَبَبٌ فَلاَ يُثْنِيهِ عَنْهَا مَا لاَ يَضُرُّ مَخْلُوقًا وَلاَ يَدْفَعُ مَقْدُورًا. وَلْيَمْضِ فِي عَزَائِمِهِ وَاثِقًا بِاَللَّهِ تَعَالَى إنْ أُعْطِيَ وَرَاضِيًا بِهِ إنْ مُنِعَ. فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ فِي الانْسَانِ ثَلاَثَةً: الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ وَالْحَسَدُ فَمَخْرَجُهُ مِنْ الطِّيَرَةِ أَنْ لاَ يَرْجِعَ وَمَخْرَجُهُ مِنْ الظَّنِّ أَنْ لاَ يَتَحَقَّقَ وَمَخْرَجُهُ مِنْ الْحَسَدِ أَنْ لاَ يَبْغِيَ}. وَرُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {كَفَّارَةُ الطِّيَرَةِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى}. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْخَيْرُ فِي تَرْكِ الطِّيَرَةِ. وَلْيَقُلْ إنْ عَارَضَهُ فِي الطِّيَرَةِ رَيْبٌ، أَوْ خَامَرَهُ فِيهَا وَهْمٌ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَطَيَّرَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالْخَيْرَاتِ الا أَنْتَ وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ الا أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ الا بِاَللَّهِ}. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: {يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَزَلْنَا دَارًا فَكَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا، وَكَثُرَتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا، ثُمَّ تَحَوَّلْنَا عَنْهَا إلَى أُخْرَى فَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا، وَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ذَرُوهَا فَهِيَ ذَمِيمَةٌ}. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ الطِّيَرَةِ وَلَكِنْ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّكِ بِمَا فَارَقَ وَتَرْكِ مَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ إلَى مَا أَنِسَ بِهِ. وَأَمَّا الْفَأْلُ فَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْعَزْمِ وَبَاعِثٌ عَلَى الْجِدِّ وَمَعُونَةٌ عَلَى الظَّفَرِ. فَقَدْ تَفَاءَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَوَاتِهِ وَحُرُوبِهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ كَلِمَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ: أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ}. فَيَنْبَغِي لِمَنْ تَفَاءَلَ أَنْ يَتَأَوَّلَ الْفَأْلَ بِأَحْسَنِ تَأْوِيلاَتِهِ وَلاَ يَجْعَلَ لِسُوءِ الظَّنِّ عَلَى نَفْسِهِ سَبِيلًا. فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ الْبَلاَءَ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ}. رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عليه السلام شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى طُولَ الْحَبْسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا يُوسُفُ أَنْتَ حَبَسْت نَفْسَك حَيْثُ قُلْت رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَوْ قُلْت الْعَافِيَةُ أَحَبُّ إلَيَّ لَعُوفِيت. وَحُكِيَ أَنَّ الْمُؤَمَّلَ بْنَ أُمَيْلٍ الشَّاعِرَ لَمَّا قَالَ يَوْمَ الْحِيرَةِ: شَفَّ الْمُؤَمَّلَ يَوْمَ الْحِيرَةِ النَّظَرُ لَيْتَ الْمُؤَمَّلَ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ بَصَرُ عَمِيَ فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: هَذَا مَا طَلَبْت. وَحُكِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ تَفَاءَلَ يَوْمًا فِي الْمُصْحَفِ فَخَرَجَ لَهُ قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} فَمَزَّقَ الْمُصْحَفَ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَتُوعِدُ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فَهَا أَنَا ذَاكَ جَبَّارٌ عَنِيدُ إذَا مَا جِئْت رَبَّك يَوْمَ حَشْرٍ فَقُلْ يَا رَبِّ مَزَّقَنِي الْوَلِيدُ فَلَمْ يَلْبَثْ الا أَيَّامًا حَتَّى قُتِلَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَصُلِبَ رَأْسُهُ عَلَى قَصْرِهِ، ثُمَّ عَلَى سُورِ بَلَدِهِ. فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَغْيِ وَمَصَارِعِهِ، وَالشَّيْطَانِ وَمَكَائِدِهِ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَعَلَيْهِ تَوَكُّلُنَا. عدد المشاهدات *: 826478 عدد مرات التنزيل *: 125993 حجم الخط : 10 12 14 16 18 20 22 24 26 28 30 32 * : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 13/05/2007 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة - تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 13/05/2007 الكتب العلمية