اختر السورة


برنامج تلاوة القرآن الكريم
برنامج مراجعة القرآن الكريم
برنامج استظهار القرآن الكريم
يوم الجمعة 18 شوال 1445 هجرية
????????? ?? ?????? ?????? ???? ????? ??????? ??? ????? ??? ??? ???? ????? ???????????? ????????? ?????????? ?? ?????? ?????? ???? ????? ?????

مواقع إسلامية

جمعية خيركم
منتدى الأصدقاء
مدونة إبراهيم
مدونة المهاجر

بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
اللهم صل و سلم على نبيك محمد و على آله و صحبه أجمعين

صلى

لحظة من فضلك



المواد المختارة

المدرسة العلمية :


Safha Test

بسم الله الرحمن الرحيم     السلام عليكم و رحمة الله و بركاته    مرحبا بك أخي الكريم مجددا في موقعك المفضل     المحجة البيضاء     موقع الحبر الترجمان الزاهد الورع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما    
الكتب العلمية
الأداب و مكارم الأخلاق
كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي
الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 1
الكتب العلمية

بسم الله الرحمن الرحيم

َ

الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة

اعْلَمْ أَنَّ مِنْ شَوَاهِدِ الْفَضْلِ وَدَلاَئِلِ الْكَرَمِ الْمُرُوءَةَ الَّتِي هِيَ حِلْيَةُ النُّفُوسِ وَزِينَةُ الْهِمَمِ. فَالْمُرُوءَةُ مُرَاعَاةُ الاحْوَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى أَفْضَلِهَا حَتَّى لاَ يَظْهَرَ مِنْهَا قَبِيحٌ عَنْ قَصْدٍ وَلاَ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا ذَمٌّ بِاسْتِحْقَاقٍ. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمْهُمْ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذِبْهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ، فَهُوَ مِمَّنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ}.

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ شَرَائِطِ الْمُرُوءَةِ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ الْحَرَامِ، وَيَتَصَلَّفَ عَنْ الاثَامِ، وَيُنْصِفَ فِي الْحِكَمِ، وَيَكُفَّ عَنْ الظُّلْمِ، وَلاَ يَطْمَعَ فِيمَا لاَ يَسْتَحِقُّ، وَلاَ يَسْتَطِيلَ عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَرِقُّ، وَلاَ يُعِينَ قَوِيًّا عَلَى ضَعِيفٍ، وَلاَ يُؤْثِرَ دَنِيًّا عَلَى شَرِيفٍ، وَلاَ يُسِرَّ مَا يَعْقُبُهُ الْوِزْرُ وَالاثْمُ، وَلاَ يَفْعَلَ مَا يُقَبِّحُ الذِّكْرَ وَالاسْمَ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ فَقَالَ: الْعَقْلُ يَأْمُرُك بِالانْفَعِ، وَالْمُرُوءَةُ تَأْمُرُك بِالاجْمَلِ. وَلَنْ تَجِدَ الاخْلاَقَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ حَدِّ الْمُرُوءَةِ مُنْطَبِعَةً، وَلاَ عَنْ الْمُرَاعَاةِ مُسْتَغْنِيَةً، وَإِنَّمَا الْمُرَاعَاةُ هِيَ الْمُرُوءَةُ لاَ مَا انْطَبَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَضَائِلِ الاخْلاَقِ؛ لِأَنَّ غُرُورَ الْهَوَى وَنَازِعَ الشَّهْوَةِ يَصْرِفَانِ النَّفْسَ أَنْ تَرْكَبَ الافْضَلَ مِنْ خَلاَئِقِهَا، وَالاجْمَلَ مِنْ طَرَائِقِهَا، وَإِنْ سَلِمَتْ مِنْهَا، وَبَعِيدٌ أَنْ تَسْلَمَ الا لِمَنْ اسْتَكْمَلَ شَرَفَ الاخْلاَقِ طَبْعًا، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَهْذِيبِهَا تَكَلُّفًا وَتَطَبُّعًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مَنْ لَك بِالْمَحْضِ وَلَيْسَ مَحْضٌ يَخْبُثُ بَعْضٌ وَيَطِيبُ بَعْضُ ثُمَّ لَوْ اسْتَكْمَلَ الْفَضْلَ طَبْعًا، وَفِي الْمُعْوِزِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَكْمِلًا، لَكَانَ فِي الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ عَادَاتِ دَهْرِهِ، وَالْمَوْضُوعِ مِنْ اصْطِلاَحِ عَصْرِهِ، مِنْ حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ وَشُرُوطِهَا مَا لاَ يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ الا بِالْمُعَانَاةِ وَلاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ الا بِالتَّفَقُّدِ وَالْمُرَاعَاةِ. فَثَبُتَ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّفْسِ عَلَى أَفْضَلِ أَحْوَالِهَا هِيَ الْمُرُوءَةُ.

وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَنْقَادُ لَهَا مَعَ ثِقَلِ كُلَفِهَا الا مَنْ تَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ رَغْبَةً فِي الْحَمْدِ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ الْمَلاَذُ حَذَرًا مِنْ الذَّمِّ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: سَيِّدُ الْقَوْمِ أَشْقَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ: وَالْحَمْدُ شَهْدٌ لاَ يُرَى مُشْتَارَهُ يَجْنِيهِ الا مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ غُلٌّ لِحَامِلِهِ وَيَحْسَبُهُ الَّذِي لَمْ يُوهِ عَاتِقَهُ خَفِيفَ الْمَحْمَلِ وَقَدْ لَحَظَ الْمُتَنَبِّي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَوْلاَ الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الْجُودُ يُفْقِرُ وَالاقْدَامُ قَتَّالُ وَلَهُ أَيْضًا: وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الاجْسَامُ وَالدَّاعِي إلَى اسْتِسْهَالِ ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: عُلُوُّ الْهِمَّةِ. وَالثَّانِي شَرَفُ النَّفْسِ. أَمَّا عُلُوُّ الْهِمَّةِ فَلِأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى التَّقَدُّمِ وَدَاعٍ إلَى التَّخْصِيصِ أَنَفَةً مِنْ خُمُولِ الضَّعَةِ، وَاسْتِنْكَارًا لِمَهَانَةِ النَّقْصِ.

وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الامُورِ وَأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ دَنِيَّهَا وَسَفْسَافَهَا}. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لاَ تُصَغِّرَنَّ هِمَّتَكُمْ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَقْعَدَ عَنْ الْمَكْرُمَاتِ مِنْ صِغَرِ الْهِمَمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْهِمَّةُ رَايَةُ الْجِدِّ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: عُلُوِّ الْهِمَمِ بَذْرُ النِّعَمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا طَلَبَ رَجُلاَنِ أَمْرًا ظَفِرَ بِهِ أَعْظَمُهُمَا مُرُوءَةً. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: مَنْ تَرَكَ الْتِمَاسَ الْمَعَالِي بِسُوءِ الرَّجَاءِ لَمْ يَنَلْ جَسِيمًا. وَأَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ: فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ قَبُولُ التَّأْدِيبِ، وَاسْتِقْرَارُ التَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ، لِأَنَّ النَّفْسَ رُبَّمَا جَمَحَتْ عَنْ الافْضَلِ وَهِيَ بِهِ عَارِفَةٌ، وَنَفَرَتْ عَنْ التَّأْدِيبِ وَهِيَ لَهُ مُسْتَحْسِنَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَطْبُوعَةٍ، وَلَهُ غَيْرُ مُلاَئِمَةٍ، فَتَصِيرُ مِنْهُ أَنْفَرَ، وَلِضِدِّهِ الْمُلاَئِمِ آثَرَ. وَقَدْ قِيلَ: مَا أَكْثَرُ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلاَ يُطِيعُهُ. وَإِذَا شَرُفَتْ النَّفْسُ كَانَتْ لِلْآدَابِ طَالِبَةً، وَفِي الْفَضَائِل رَاغِبَةً، فَإِذَا مَازَحَهَا صَارَتْ طَبْعًا مُلاَئِمًا فَنَمَا وَاسْتَقَرَّ. فَأَمَّا مَنْ مُنِيَ بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَسُلِبَ شَرَفُ النَّفْسِ فَقَدْ صَارَ عُرْضَةً لِأَمْرٍ أَعْوَزَتْهُ آلَتُهُ، وَأَفْسَدَتْهُ جَهَالَتُهُ، فَصَارَ كَضَرِيرٍ يَرُومُ تَعَلُّمَ الْكِتَابَةِ، وَأَخْرَسَ يُرِيدُ الْخُطْبَةَ، فَلاَ يَزِيدُهُ الاجْتِهَادُ الا عَجْزًا وَالطَّلَبُ الا عَوَزًا.

وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {مَا هَلَكَ امْرُؤٌ عَرَفَ قَدْرَهُ}. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَسْوَأُ النَّاسِ حَالا ؟ قَالَ: مَنْ بَعُدَتْ هِمَّتُهُ، وَاتَّسَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ، وَقَصُرَتْ آلَتُهُ، وَقَلَّتْ مَقْدِرَتُهُ. وَقَالَ أُفْنُونُ التَّغْلِبِيُّ: وَلاَ خَيْرَ فِيمَا يَكْذِبُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَتِقْوَالِهِ لِلشَّيْءِ يَا لَيْتَ ذَا لِيَا لَعَمْرُك مَا يَدْرِي امْرُؤٌ كَيْفَ يَتَّقِي إذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ اللَّهُ وَاقِيَا وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: تَجَنَّبُوا الْمُنَى فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِبَهْجَةِ مَا خُوِّلْتُمْ، وَتَسْتَصْغِرُونَ بِهَا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْمُنَى مِنْ بَضَائِعِ النَّوْكَى. فَإِنْ صَادَفَ بِهِمَّتِهِ حَظًّا نَالَ بِهِ أَمَلًا كَانَ فِيمَا نَالَهُ كَالْمُغْتَصِبِ، وَفِيمَا وَصَلَ إلَيْهِ كَالْمُتَغَلِّبِ، إذْ لَيْسَ فِي الْحُظُوظِ تَقْدِيرٌ لِحَقٍّ، وَلاَ تَمْيِيزٌ لِمُسْتَحِقٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ كَالسَّحَابِ الَّذِي يَمْسِكُ عَنْ مَنَابِتِ الاشْجَارِ إلَى مَغَايِصِ الْبِحَارِ وَيَتْرُكُ حَيْثُ صَادَفَ مِنْ خَبِيثٍ وَطَيِّبٍ، فَإِنْ صَادَفَ أَرْضًا طَيِّبَةً نَفَعَ وَإِنْ صَادَفَ أَرْضًا خَبِيثَةً ضَرَّ.

كَذَلِكَ الْحَظُّ إنْ صَادَفَ نَفْسًا شَرِيفَةً نَفَعَ، وَكَانَ نِعْمَةً عَامَّةً، وَإِنْ صَادَفَ نَفْسًا دَنِيَّةً ضَرَّ وَكَانَ نِقْمَةً طَامَّةً. وَحُكِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليه السلام دَعَا عَلَى قَوْمٍ بِالْعَذَابِ فَأُوحِيَ إلَيْهِ قَدْ مَلَكْت سُفْلَهَا عَلَى أَعْلاَهَا فَقَالَ: يَا رَبِّ كُنْتُ أُحِبُّ لَهُمْ عَذَابًا عَاجِلًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَوَلَيْسَ هَذَا كُلَّ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ الالِيمِ ؟ فَأَمَّا شَرَفُ النَّفْسِ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ فَإِنَّ الْفَضْلَ بِهِ عَاطِلٌ، وَالْقَدْرَ بِهِ خَامِلٌ، وَهُوَ كَالْقُوَّةِ فِي الْجِلْدِ الْكَسِلِ، وَالْجَبَانِ الْفَشِلِ، تَضِيعُ قُوَّتُهُ بِكَسَلِهِ، وَجَلَدُهُ بِفَشَلِهِ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ دَامَ كَسَلُهُ خَابَ أَمَلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: نَكَحَ الْعَجْزُ التَّوَانِي فَخَرَجَ مِنْهُمَا النَّدَامَةُ، وَنَكَحَ الشُّؤْمُ الْكَسَلَ فَخَرَجَ مِنْهُمَا الْحِرْمَانُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: إذَا أَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّهَا هَوَانًا بِهَا كَانَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَنَا فَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا وَإِنْ ضَاقَ مَسْكَنٌ عَلَيْك لَهَا فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَسْكَنَا وَإِيَّاكَ وَالسُّكْنَى بِمَنْزِلِ ذِلَّةٍ يُعَدُّ مُسِيئًا فِيهِ مَنْ كَانَ مُحْسِنَا وَشَرَفُ النَّفْسِ مَعَ صِغَرِ الْهِمَّةِ أَوْلَى مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ مَعَ دَنَاءَةِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَتْ هِمَّتُهُ مَعَ دَنَاءَةِ نَفْسِهِ كَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى طَلَبِ مَا لاَ يَسْتَحِقُّهُ، وَمُتَخَطِّيًا إلَى الْتِمَاسِ مَا لاَ يَسْتَوْجِبُهُ. وَمَنْ شَرُفَتْ نَفْسُهُ مَعَ صِغَرِ هِمَّتِهِ فَهُوَ تَارِكٌ لِمَا يَسْتَحِقُّ وَمُقَصِّرٌ عَمَّا يَجِبُ لَهُ. وَفَضْلُ مَا بَيْنَ الامْرَيْنِ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الذَّمِّ نَصِيبٌ. وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَا أَصْعَبُ شَيْءٍ عَلَى الانْسَانِ ؟ قَالَ: أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ وَيَكْتُمَ الاسْرَارَ.

فَإِذَا اجْتَمَعَ الامْرَانِ وَاقْتَرَنَ بِشَرَفِ النَّفْسِ عُلُوُّ الْهِمَّةِ كَانَ الْفَضْلُ بِهِمَا ظَاهِرًا، وَالادَبُ بِهِمَا وَافِرًا، وَمَشَاقُّ الْحَمْدِ بَيْنَهُمَا مُسَهَّلَةً، وَشُرُوطُ الْمُرُوءَةِ بَيْنَهُمَا مُتَبَيَّنَةً. وَقَدْ قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيُّ: إنَّ الْمُرُوءَةَ لَيْسَ يُدْرِكُهَا امْرُؤٌ وَرِثَ الْمَكَارِمَ عَنْ أَبٍ فَأَضَاعَهَا أَمَرَتْهُ نَفْسٌ بِالدَّنَاءَةِ وَالْخَنَا وَنَهَتْهُ عَنْ سُبُلِ الْعُلاَ فَأَطَاعَهَا فَإِذَا أَصَابَ مِنْ الْمَكَارِمِ خَلَّةً يَبْنِي الْكَرِيمُ بِهَا الْمَكَارِمَ بَاعَهَا وَاعْلَمْ أَنَّ حُقُوقَ الْمُرُوءَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَأَخْفَى مِنْ أَنْ تَظْهَرَ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَقُومُ فِي الْوَهْمِ حِسًّا، وَمِنْهَا مَا يَقْتَضِيهِ شَاهِدُ الْحَالِ حَدْسًا، وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ بِالْفِعْلِ وَيَخْفَى بِالتَّغَافُلِ. فَلِذَلِكَ أَعْوَزَ اسْتِيفَاءُ شُرُوطِهَا إلَى جُمَلٍ يَتَنَبَّهُ الْفَاضِلُ عَلَيْهَا بِيَقِظَتِهِ، وَيَسْتَدِلُّ الْعَاقِلُ عَلَيْهَا بِفِطْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُنَا هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمُرُوءَةِ وَشُرُوطِهَا.

وَإِنَّمَا نَذْكُرُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الاشْهَرَ مِنْ قَوَاعِدِهَا وَأُصُولِهَا، وَالاظْهَرَ مِنْ شُرُوطِهَا وَحُقُوقِهَا، مَحْصُورًا فِي تَقْسِيمٍ جَامِعٍ وَهُوَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: شُرُوطُ الْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ. وَالثَّانِي: شُرُوطُهَا فِي غَيْرِهِ. فَأَمَّا شُرُوطُهَا فِي نَفْسِهِ بَعْدَ الْتِزَامِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ أَحْكَامِهِ فَيَكُونُ بِثَلاَثَةِ أُمُورٍ وَهِيَ: الْعِفَّةُ وَالنَّزَاهَةُ وَالصِّيَانَةُ. فَأَمَّا الْعِفَّةُ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالثَّانِي الْعِفَّةُ عَنْ الْمَآثِمِ. فَأَمَّا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَحَارِمِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا ضَبْطُ الْفَرْجِ عَنْ الْحَرَامِ، وَالثَّانِي كَفُّ اللِّسَانِ عَنْ الاعْرَاضِ. فَأَمَّا ضَبْطُ الْفَرْجِ عَنْ الْحَرَامِ فَلِأَنَّهُ مَعَ وَعِيدِ الشَّرْعِ وَزَاجِرِ الْعَقْلِ مَعَرَّةٌ فَاضِحَةٌ، وَهَتْكَةٌ وَاضِحَةٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {مَنْ وُقِيَ شَرَّ ذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ وَقَبْقَبِهِ فَقَدْ وُقِيَ}. يُرِيدُ بِذَبْذَبِهِ الْفَرْجَ، وَبِلَقْلَقِهِ اللِّسَانَ، وَبِقَبْقَبِهِ الْبَطْنَ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَحَبُّ الْعَفَافِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَفَافُ الْفَرْجِ وَالْبَطْنِ.} وَحُكِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه سَأَلَ عُمَرَ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ: تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِلَةُ الرَّحِمِ. وَسَأَلَ الْمُغِيرَةَ فَقَالَ: هِيَ الْعِفَّةُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْحِرْفَةُ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَأَلَ يَزِيدَ: فَقَالَ هِيَ الصَّبْرُ عَلَى الْبَلْوَى، وَالشُّكْرُ عَلَى النُّعْمَى، وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ مِنِّي حَقًّا. وَقَالَ أَنُوشِرْوَانَ لِابْنِهِ هُرْمُزَ: مَنْ الْكَامِلُ الْمُرُوءَةِ ؟ فَقَالَ: مَنْ حَصَّنَ دِينَهُ وَوَصَلَ رَحِمَهُ وَأَكْرَمَ إخْوَانَهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَحَبَّ الْمَكَارِمَ اجْتَنَبَ الْمَحَارِمَ. وَقِيلَ: عَارُ الْفَضِيحَةِ يُكَدِّرُ لَذَّتَهَا. وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما: الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْعَارِ وَالْعَارُ خَيْرٌ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَاَللَّهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا جَارِي وَالدَّاعِي إلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إرْسَالُ الطَّرْفِ. وَالثَّانِي: اتِّبَاعُ الشَّهْوَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: {يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الاولَى لَك وَالثَّانِيَةَ عَلَيْك}. وَفِي قَوْلِهِ لاَ تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا لاَ تُتْبِعْ نَظَرَ عَيْنَيْك نَظَرَ قَلْبِك، وَالثَّانِي لاَ تُتْبِعْ الاولَى الَّتِي وَقَعَتْ سَهْوًا بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُوقِعُهَا عَمْدًا. وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام: إيَّاكُمْ وَالنَّظْرَةَ بَعْدَ النَّظْرَةِ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ، وَكَفَى بِهَا لِصَاحِبِهَا فِتْنَةً. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: الْعُيُونُ مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَرْسَلَ طَرْفَهُ اسْتَدْعَى حَتْفَهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَك رَائِدًا لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ رَأَيْتَ الَّذِي لاَ كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلاَ عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَأَمَّا الشَّهْوَةُ فَهِيَ خَادِعَةُ الْعُقُولِ وَغَادِرَةُ الالْبَابِ، وَمُحَسِّنَةُ الْقَبَائِحِ، وَمُسَوِّلَةُ الْفَضَائِحِ. وَلَيْسَ عَطَبٌ الا وَهِيَ لَهُ سَبَبٌ، وَعَلَيْهِ أَلَبُّ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: {أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَحُفِظَ مِنْ الشَّيْطَانِ: مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ يَرْغَبُ، وَحِينَ يَرْهَبُ، وَحِينَ يَشْتَهِي، وَحِينَ يَغْضَبُ}. وَقَهْرُهَا عَنْ هَذِهِ الاحْوَالِ يَكُونُ بِثَلاَثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا غَضُّ الطَّرْفِ عَنْ إثَارَتِهَا، وَكَفُّهُ عَنْ مُسَاعَدَتِهَا. فَإِنَّهُ الرَّائِدُ الْمُحَرِّكُ، وَالْقَائِدُ الْمُهْلِكُ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {تَقَبَّلُوا إلَيَّ بِسِتٍّ أَتَقَبَّلُ إلَيْكُمْ بِالْجَنَّةِ. قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَكْذِبُ، وَإِذَا وَعَدَ فَلاَ يُخْلِفُ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلاَ يَخُونُ، غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}. وَالثَّانِي: تَرْغِيبُهَا فِي الْحَلاَلِ عِوَضًا، وَإِقْنَاعُهَا بِالْمُبَاحِ بَدَلًا، فَإِنَّ اللَّهَ مَا حَرَّمَ شَيْئًا الا وَأَغْنَى عَنْهُ بِمُبَاحٍ مِنْ جِنْسِهِ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ نَوَازِعِ الشَّهْوَةِ، وَتَرْكِيبِ الْفِطْرَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ، وَحَاجِزًا عَنْ مُخَالَفَتِهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ الا وَأَعَانَ عَلَيْهِ، وَلاَ نَهَى عَنْ شَيْءٍ الا وَأَغْنَى عَنْهُ. وَالثَّالِثُ: إشْعَارُ النَّفْسِ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ، وَاتِّقَاءَهُ فِي زَوَاجِره، وَإِلْزَامُهَا مَا أَلْزَمَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَتَحْذِيرُهَا مَا حَذَّرَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَإِعْلاَمُهَا أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ ضَمِيرٌ، وَلاَ يَعْزُبُ عَنْهُ قِطْمِيرٌ. وَأَنَّهُ يُجَازِي الْمُحْسِنَ وَيُكَافِئُ الْمُسِيءَ، وَبِذَلِكَ نَزَلَتْ كُتُبُهُ وَبَلَّغَتْ رُسُلُهُ.

رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ التَّوْرَاةِ: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت. وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الانْجِيلِ: شَرُّ النَّاسِ مَنْ لاَ يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مُسِيئًا. وَآخِرَ مَا نَزَلَ مِنْ الزَّبُورِ: مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا حَصَدَ زَرْعَهُ غِبْطَةً. فَإِذَا أَشْعَرهَا مَا وَصَفْتُ انْقَادَتْ إلَى الْكَفِّ وَأَذْعَنَتْ بِالاتِّقَاءِ فَسَلِمَ دِينُهُ وَظَهَرَتْ مُرُوءَتُهُ. فَهَذَا شَرْطٌ وَأَمَّا كَفُّ اللِّسَانِ عَنْ الاعْرَاضِ فَلِأَنَّهُ مَلاَذُ السُّفَهَاءِ، وَانْتِقَامُ أَهْلِ الْغَوْغَاءِ، وَهُوَ مُسْتَسْهَلُ الْكَلَفِ إذَا لَمْ يَقْهَرْ نَفْسَهُ عَنْهُ بِرَادِعٍ كَافٍ وَزَاجِرٍ صَادٍّ تَلَبَّطَ بِمَعَارِّهِ، وَتَخَبَّطَ بِمَضَارِّهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ لِتَجَافِي النَّاسِ عَنْهُ حِمًى يُتَّقَى، وَرُتْبَةً تُرْتَقَى، فَهَلَكَ وَأَهْلَكَ. فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {الا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ}. فَجَمَعَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْعِرْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيغَارِ الصُّدُورِ، وَإِبْدَاءِ الشُّرُورِ، وَإِظْهَارِ الْبَذَاءِ، وَاكْتِسَابِ الاعْدَاءِ، وَلاَ يَبْقَى مَعَ هَذِهِ الامُورِ وَزْنٌ لِمَوْمُوقٍ وَلاَ مُرُوءَةٌ لِمَلْحُوظٍ ثُمَّ هُوَ بِهَا مَوْتُورٌ مَوْزُورٌ؛ وَلِأَجْلِهَا مَهْجُورٌ مَزْجُورٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ لِسَانِهِ}.

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ بِفُضُولِ الْكَلاَمِ وَفُضُولِ الْمَالِ. وَمَا قَدَحَ فِي الاعْرَاضِ مِنْ الْكَلاَمِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا قَدَحَ فِي عِرْضِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ شَيْئَانِ: الْكَذِبُ وَفُحْشُ الْقَوْلِ. وَالثَّانِي: مَا تَجَاوَزَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالسِّعَايَةُ وَالسَّبُّ بِقَذْفٍ أَوْ شَتْمٍ. وَرُبَّمَا كَانَ السَّبُّ أَنْكَاهَا لِلْقُلُوبِ وَأَبْلَغَهَا أَثَرًا فِي النُّفُوسِ. وَلِذَلِكَ زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَدِّ تَغْلِيظًا وَبِالتَّفْسِيقِ تَشْدِيدًا وَتَصْعِيبًا. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إمَّا انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ سَفَهٍ أَوْ بَذَاءٌ يَحْدُثُ عَنْ لُؤْمٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ}. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: الاسْتِطَالَةُ لِسَانُ الْجُهَّالِ. وَكَفُّ النَّفْسِ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ بِمَا يَصُدُّهَا مِنْ الزَّوَاجِرِ أَسْلَمُ وَهُوَ بِذَوِي الْمُرُوءَةِ أَجْمَلُ. فَهَذَا شَرْطٌ وَأَمَّا الْعِفَّةُ عَنْ الْمَآثِمِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَفُّ عَنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالظُّلْمِ، وَالثَّانِي: زَجْرُ النَّفْسِ عَنْ الاسْرَارِ بِخِيَانَةٍ. فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِالظُّلْمِ فَعُتُوٌّ مُهْلِكٌ وَطُغْيَانٌ مُتْلِفٌ، وَهُوَ يَئُولُ إنْ اسْتَمَرَّ إلَى فِتْنَةٍ أَوْ جَلاَءٍ. فَأَمَّا الْفِتْنَةُ فِي الاغْلَبِ فَتُحِيطُ بِصَاحِبِهَا، وَتَنْعَكِسُ عَنْ الْبَادِئِ بِهَا، فَلاَ تَنْكَشِفُ الا وَهُوَ بِهَا مَصْرُوعٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئِ الا بِأَهْلِهِ}.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ فَمَنْ أَيْقَظَهَا صَارَ طَعَامًا لَهَا}. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الْفِتْنَةُ حَصَادٌ لِلظَّالِمَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: صَاحِبُ الْفِتْنَةِ أَقْرَبُ شَيْءٍ أَجَلًا وَأَسْوَأُ شَيْءٍ عَمَلًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَكُنْتَ كَعَنْزِ السُّوءِ قَامَتْ لِحَتْفِهَا إلَى مُدْيَةٍ تَحْتَ الثَّرَى تَسْتَثِيرُهَا وَأَمَّا الْجَلاَءُ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الظَّالِمِ وَتَطَاوُلِ مُدَّتِهِ فَيَصِيرُ ظُلْمُهُ مَعَ الْمُكْنَةِ جَلاَءً وَفَنَاءٍ، كَالنَّارِ إذَا وَقَعَتْ فِي يَابِسِ الشَّجَرِ فَلاَ تُبْقِي مَعَهَا مَعَ تَمَكُّنِهَا شَيْئًا حَتَّى إذَا أَفْنَتْ مَا وَجَدَتْ اضْمَحَلَّتْ وَخَمَدَتْ. فَكَذَا حَالُ الظَّالِمِ مُهْلِكٌ ثُمَّ هَالِكٌ. وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ: الْجَرَاءَةُ وَالْقَسْوَةُ. وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: {اُطْلُبُوا الْفَضْلَ وَالْمَعْرُوفَ عِنْدَ الرُّحَمَاءِ مِنْ أُمَّتِي تَعِيشُوا فِي أَكْنَافِهِمْ}. وَالصَّادُّ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَرَى آثَارَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّالِمِينَ فَإِنَّ لَهُ فِيهِمْ عِبَرًا، وَيَتَصَوَّرَ عَوَاقِبَ ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ فِيهَا مُزْدَجَرًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَنْوِ ظُلْمَ أَحَدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا اجْتَرَمَ}. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَا عَلِيُّ اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْأَلُ اللَّهَ حَقَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمْنَعُ ذَا حَقٍّ حَقَّهُ}.

وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: وَيْلٌ لِلظَّالِمِ مِنْ يَوْمِ الْمَظَالِمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ جَارَ حُكْمُهُ أَهْلَكَهُ ظُلْمُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَمَا مِنْ يَدٍ الا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلاَ ظَالِمٍ الا سَيُبْلَى بِظَالِمِ وَأَمَّا الاسْتِسْرَارُ بِالْخِيَانَةِ فَضِعَةٌ لِأَنَّهُ بِذُلِّ الْخِيَانَةِ مَهِينٌ، وَلِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِهِ مُسْتَكِينٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ يَخُنْ يَهُنْ. وَقَالَ خَالِدٌ الرَّبَعِيُّ: قَرَأْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ أَنَّ مِمَّا تُعَجِّلُ عُقُوبَةً وَلاَ تُؤَخِّرُ الامَانَةُ تُخَانُ وَالاحْسَانُ يُكْفَرُ وَالرَّحِمُ تُقْطَعُ وَالْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَمِّ الْخِيَانَةِ الا مَا يَجِدُهُ الْخَائِنُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْمَذَلَّةِ لَكَفَاهُ زَاجِرًا، وَلَوْ تَصَوَّرَ عُقْبَى أَمَانَتِهِ وَجَدْوَى ثِقَتِهِ لَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَحِ بَضَائِعِ جَاهِهِ وَأَقْوَى شُفَعَاءِ تَقَدُّمِهِ مَعَ مَا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْعِزِّ وَيُقَابَلُ عَلَيْهِ مِنْ الاعْظَامِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أَدِّ الامَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَك}. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الايَةُ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْك وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إلَيْك الا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الامِّيِّينَ سَبِيلٌ}. يَعْنُونَ أَنَّ أَمْوَالَ الْعَرَبِ حَلاَلٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمِي الا الامَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَلاَ يَجْعَلُ مَا يَتَظَاهَرُ بِهِ مِنْ الامَانَةِ زُورًا وَلاَ مَا يُبْدِيهِ مِنْ الْعِفَّةِ غُرُورًا فَيَنْهَتِكَ الزُّورُ وَيَنْكَشِفُ الْغُرُورُ فَيَكُونُ مَعَ هَتْكِهِ لِلتَّدْلِيسِ أَقْبَحَ وَلِمَعَرَّةِ الرِّيَاءِ أَفْضَحَ}. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ تَرَ الامَانَةَ مَغْنَمًا وَالصَّدَقَةَ مَغْرَمًا}. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ الْتَمَسَ أَرْبَعًا بِأَرْبَعٍ الْتَمَسَ مَا لاَ يَكُونُ، وَمَنْ الْتَمَسَ الْجَزَاءَ بِالرِّيَاءِ الْتَمَسَ مَا لاَ يَكُونُ، وَمَنْ الْتَمَسَ مَوَدَّةَ النَّاسِ بِالْغِلْظَةِ الْتَمَسَ مَا لاَ يَكُونُ، وَمَنْ الْتَمَسَ وَفَاءَ الاخْوَانِ بِغَيْرِ وَفَاءٍ الْتَمَسَ مَا لاَ يَكُونُ، وَمَنْ الْتَمَسَ الْعِلْمَ بِرَاحَةِ الْجَسَدِ الْتَمَسَ مَا لاَ يَكُونُ. وَالدَّاعِي إلَى الْخِيَانَةِ شَيْئَانِ: الْمَهَانَةُ وَقِلَّةُ الامَانَةِ، فَإِذَا حَسَمَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ بِمَا وَصَفْتُ ظَهَرَتْ مُرُوءَتُهُ، فَهَذَا شَرْطٌ قَدْ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ أَقْسَامَ الْعِفَّةِ.

وَأَمَّا النَّزَاهَةُ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّزَاهَةُ عَنْ الْمَطَامِعِ الدَّنِيَّةِ. وَالثَّانِي النَّزَاهَةُ عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيبَةِ. فَأَمَّا الْمَطَامِعُ الدَّنِيَّةُ؛ فَلِأَنَّ الطَّمَعَ ذُلٌّ وَالدَّنَاءَةَ لُؤْمٌ، وَهُمَا أَدْفَعُ شَيْءٍ لِلْمُرُوءَةِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: {اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إلَى طَبْعٍ}. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: لاَ تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ فَإِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْك فِي الدِّينِ وَاسْتَرْزِقْ اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ فَإِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ وَالْبَاعِثُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ: الشَّرَهُ وَقِلَّةُ الانَفَةِ فَلاَ يَقْنَعُ بِمَا أُوتِيَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَجْلِ شَرَهِهِ، وَلاَ يَسْتَنْكِفُ مِمَّا مُنِعَ، وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا لِقِلَّةِ أَنَفَتِهِ. وَهَذِهِ حَالُ مَنْ لاَ يَرَى لِنَفْسِهِ قَدْرًا، وَيَرَى الْمَالَ أَعْظَمَ خَطَرًا، فَيَرَى بَذْلَ أَهْوَنِ الامْرَيْنِ لِأَجَلِّهِمَا مَغْنَمًا، وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَهُ أَجَلَّ وَنَفْسُهُ عَلَيْهِ أَقَلَّ إصْغَاءٌ لِتَأْنِيبٍ، وَلاَ قَبُولٌ لِتَأْدِيبٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي. قَالَ: عَلَيْك بِالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ فَقْرٌ حَاضِرٌ، وَإِذَا صَلَّيْت صَلاَةً فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا مُنَاهُ وَهَمُّهُ سَبَتْهُ الْمُنَى وَاسْتَعْبَدَتْهُ الْمَطَامِعُ وَحَسْمُ هَذِهِ الْمَطَامِعِ شَيْئَانِ: الْيَأْسُ وَالْقَنَاعَةُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمْ إبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ الا بِطَاعَتِهِ}. فَهَذَا شَرْطٌ. وَأَمَّا مَوَاقِفُ الرِّيبَةِ فَهِيَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْ حَمْدٍ وَذَمٍّ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ حَالَتَيْ سَلاَمَةٍ وَسَقَمٍ، فَتَتَوَجَّهُ إلَيْهِ لاَئِمَةُ الْمُتَوَهِّمِينَ، وَيَنَالُهُ ذِلَّةُ الْمُرِيبِينَ، وَكَفَى بِصَاحِبِهَا مَوْقِفًا إنْ صَحَّ افْتَضَحَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ اُمْتُهِنَ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لاَ يَرِيبُك}. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ: أَنْ لاَ تَعْمَلَ فِي السِّرِّ عَمَلًا تَسْتَحِي مِنْهُ فِي الْعَلاَنِيَةِ. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ: مَا وَجَدْت شَيْئًا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ الْوَرَعِ. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ؟ قَالَ: إذَا ارْتَبْتَ بِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ. وَالدَّاعِي إلَى هَذِهِ الْحَالِ شَيْئَانِ: الاسْتِرْسَالُ، وَحُسْنُ الظَّنِّ. وَالْمَانِعُ مِنْهُمَا شَيْئَانِ: الْحَيَاءُ، وَالْحَذَرُ. وَرُبَّمَا انْتَفَتْ الرِّيبَةُ بِحُسْنِ الثِّقَةِ وَارْتَفَعَتْ التُّهْمَةُ بِطُولِ الْخِبْرَةِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام أَنَّهُ رَآهُ بَعْضُ الْحَوَارِيِّينَ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ امْرَأَةٍ ذَاتِ فُجُورٍ فَقَالَ: يَا رُوحَ اللَّهِ مَا تَصْنَعُ هُنَا ؟ فَقَالَ: الطَّبِيبُ إنَّمَا يُدَاوِي الْمَرْضَى. وَلَكِنْ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ طَرِيقًا إلَى الاسْتِرْسَالِ وَلْيَكُنْ الْحَذَرُ عَلَيْهِ أَغْلَبَ، وَإِلَى الْخَوْفِ مِنْ تَصْدِيقِ التُّهَمِ أَقْرَبَ، فَمَا كُلُّ رِيبَةٍ يَنْفِيهَا حُسْنُ الثِّقَةِ. هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ الرِّيَبِ وَأَصْوَنُهُمْ مِنْ التُّهَمِ، {وَقَفَ مَعَ زَوْجَتِهِ صَفِيَّةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ يُحَادِثُهَا وَكَانَ مُعْتَكِفًا فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنْ الانْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَسْرَعَا فَقَالَ لَهُمَا: عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ. فَقَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَفِيكَ شَكٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: مَهْ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ مَجْرَى لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قَلْبَيْكُمَا سُوءًا}. فَكَيْفَ مَنْ تَخَالَجَتْ فِيهِ الشُّكُوكُ وَتَقَابَلَتْ فِيهِ الظُّنُونُ فَهَلْ يَعْرَى مَنْ فِي مَوَاقِفِ الرِّيَبِ مِنْ قَادِحٍ مُحَقَّقٍ، وَلاَئِمٍ مُصَدَّقٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {إذَا لَمْ يَشْقَ الْمَرْءُ الا بِمَا عَمِلَ فَقَدْ سَعِدَ}. وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْحَزْمَ وَغَلَّبَ الْحَذَرَ وَتَرَكَ مَوَاقِفَ الرِّيَبِ وَمَظَانَّ التُّهَمِ، وَلَمْ يَقِفْ مَوْقِفَ الاعْتِذَارِ وَلاَ عُذْرَ لِمُخْتَارٍ لَمْ يَخْتَلِجْ فِي نَزَاهَتِهِ شَكٌّ وَلَمْ يَقْدَحْ فِي عِرْضِهِ إفْكٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: أَصُونُك أَنْ أُدِلَّ عَلَيْك ظَنًّا لِأَنَّ الظَّنَّ مِفْتَاحُ الْيَقِينِ وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ: مُؤْنَةُ الْمُتَوَقِّفِ أَيْسَرُ مِنْ تَكَلُّفِ الْمُعَسَّفِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِمَنْ لاَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ مَخْدُوعٌ. وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ، لِأَبِي بَكْرٍ الصُّولِيِّ رحمه الله قَوْلَهُ: أَحْسَنْتُ ظَنِّي بِأَهْلِ دَهْرِي فَحُسْنُ ظَنِّي بِهِمْ دَهَانِي لاَ آمَنُ النَّاسَ بَعْدَ هَذَا مَا الْخَوْفُ الا مِنْ الامَانِ فَهَذَا شَرْطٌ اسْتَوْفَيْنَا فِيهِ نَوْعَيْ النَّزَاهَةِ.

وَأَمَّا الصِّيَانَةُ وَهِيَ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ الْمُرُوءَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: صِيَانَةُ النَّفْسِ بِالْتِمَاسِ كِفَايَتِهَا وَتَقْدِيرِ مَادَّتِهَا. وَالثَّانِي: صِيَانَتُهَا عَنْ تَحَمُّلِ الْمِنَنِ مِنْ النَّاسِ وَالاسْتِرْسَالِ فِي الاسْتِعَانَةِ. وَأَمَّا الْتِمَاسُ الْكِفَايَةِ وَتَقْدِيرُ الْمَادَّةِ؛ فَلِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إلَى النَّاسِ كُلُّ مُهْتَضَمٍ وَذَلِيلٍ مُسْتَثْقَلٍ. وَهُوَ لِمَا فُطِرَ عَلَيْهِ، مُحْتَاجٌ إلَى مَا يَسْتَمِدُّهُ لِيُقِيمَ أَوَدَ نَفْسِهِ، وَيَدْفَعَ ضَرُورَةَ وَقْتِهِ. وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا: كَلْبٌ جَوَّالٌ خَيْرٌ مِنْ أَسَدٍ رَابِضٍ. وَمَا يَسْتَمِدُّهُ نَوْعَانِ: لاَزِمٌ وَنَدْبٌ. فَأَمَّا اللاَزِمُ فَمَا أَقَامَ بِالْكِفَايَةِ وَأَفْضَى إلَى سَدِّ الْخَلَّةِ. وَعَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ: وَاحِدُهَا: اسْتِطَابَتُهُ مِنْ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَتَوَقِّي الْمَحْظُورَةِ فَإِنَّ الْمَوَادَّ الْمُحَرَّمَةَ مُسْتَخْبَثَةُ الاصُولِ، مَمْحُوقَةُ الْمَحْصُولِ، إنْ صَرَفَهَا فِي بِرٍّ لَمْ يُؤْجَرْ، وَإِنْ صَرَفَهَا فِي مَدْحٍ لَمْ يُشْكَرْ، ثُمَّ هُوَ لِأَوْزَارِهَا مُحْتَقِبٌ، وَعَلَيْهَا مُعَاقَبٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {لاَ يُعْجِبُك رَجُلٌ كَسَبَ مَالا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَإِنْ أَنْفَقَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنْ أَمْسَكَهُ فَهُوَ زَادُهُ إلَى النَّارِ}. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: شَرُّ الْمَالِ مَا لَزِمَك إثْمُ مَكْسَبِهِ وَحُرِمْتَ أَجْرَ إنْفَاقِهِ. وَنَظَرَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ يَتَصَدَّقُ عَلَى مِسْكِينٍ، فَقَالَ: اُنْظُرْ إلَيْهِمْ حَسَنَاتُهُمْ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ: سُرَّ مَنْ عَاشَ مَالُهُ فَإِذَا حَاسَبَهُ اللَّهُ سَرَّهُ الاعْدَامُ وَالثَّانِي: طَلَبُهُ مِنْ أَحْسَنِ جِهَاتِهِ الَّتِي لاَ يَلْحَقُهُ فِيهَا غَضٌّ، وَلاَ يَتَدَنَّسُ لَهُ بِهَا عِرْضٌ، فَإِنَّ الْمَالَ يُرَادُ لِصِيَانَةِ الاعْرَاضِ لاَ لِابْتِذَالِهَا، وَلِعِزِّ النُّفُوسِ لاَ لِإِذْلاَلِهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: يَا حَبَّذَا الْمَالُ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأُرْضِي بِهِ رَبِّي. وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ الضَّرِيرُ: كَفَى حُزْنًا أَنِّي أَرُوحُ وَأَغْتَدِي وَمَا لِي مِنْ مَالٍ أَصُونُ بِهِ عِرْضِي وَأَكْثَرُ مَا أَلْقَى الصَّدِيقَ بِمَرْحَبًا وَذَلِكَ لاَ يَكْفِي الصَّدِيقَ وَلاَ يُرْضِي وَسُئِلَ ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {اُطْلُبُوا الْحَوَائِجَ مِنْ حِسَانِ الْوُجُوهِ}. فَقَالَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَحِلُّ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَأَنَّى فِي تَقْدِيرِ مَادَّتِهِ وَتَدْبِيرِ كِفَايَتِهِ بِمَا لاَ يَلْحَقُهُ خَلَلٌ وَلاَ يَنَالُهُ زَلَلٌ، فَإِنَّ يَسِيرَ الْمَالِ مَعَ حُسْنِ التَّقْدِيرِ، وَإِصَابَةِ التَّدْبِيرِ، أَجْدَى نَفْعًا وَأَحْسَنُ مَوْقِعًا مِنْ كَثِيرِهِ مَعَ سُوءِ التَّدْبِيرِ، وَفَسَادِ التَّقْدِيرِ، كَالْبَذْرِ فِي الارْضِ إذَا رُوعِيَ يَسِيرُهُ زَكَا، وَإِنْ أُهْمِلَ كَثِيرُهُ اضْمَحَلَّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: الْكَمَالُ فِي ثَلاَثَةٍ: الْعِفَّةُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّوَائِبِ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ فِي الْمَعِيشَةِ. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: فُلاَنٌ غَنِيٌّ. فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ ذَلِكَ مَا لَمْ أَعْرِفْ تَدْبِيرَهُ فِي مَالِهِ. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الشُّرُوطَ فِيمَا يَسْتَمِدُّهُ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ فَقَدْ أَدَّى حَقَّ الْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ. وَسُئِلَ الاحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ الْمُرُوءَةِ فَقَالَ: الْعِفَّةُ وَالْحِرْفَةُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لاَ تَكُنْ عَلَى أَحَدٍ كَلًّا فَإِنَّك تَزْدَادُ ذُلًّا، وَاضْرِبْ فِي الارْضِ عَوْدًا وَبَدْءًا، وَلاَ تَأْسَفْ لِمَالٍ كَانَ فَذَهَبَ، وَلاَ تَعْجَزْ عَنْ الطَّلَبِ لِوَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ.

فَهَذَا حَالُ اللاَزِمِ وَقَدْ كَانَ ذَوُو الْهِمَمِ الْعَلِيَّةِ وَالنُّفُوسِ الابِيَّةِ يَرَوْنَ مَا وَصَلَ إلَى الانْسَانِ كَسْبًا أَفْضَلَ مِمَّا وَصَلَ إلَيْهِ إرْثًا؛ لِأَنَّهُ فِي الارْثِ فِي جَدْوَى غَيْرِهِ وَبِالْكَسْبِ مُجْدٍ إلَى غَيْرِهِ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ ظَاهِرٌ. وَقَالَ كُشَاجِمُ: لاَ أَسْتَلِذُّ الْعَيْشَ لَمْ أَدْأَبْ لَهُ طَلَبًا وَسَعْيًا فِي الْهَوَاجِرِ وَالْغَلَسْ وَأَرَى حَرَامًا أَنْ يُؤَاتِيَنِي الْغِنَى حَتَّى يُحَاوَلَ بِالْعَنَاءِ وَيُلْتَمَسْ فَاصْرِفْ نَوَالَكَ عَنْ أَخِيكَ مُوَفِّرًا فَاللَّيْثُ لَيْسَ يُسِيغُ الا مَا افْتَرَسْ وَأَمَّا النَّدْبُ فَهُوَ مَا فَضَلَ عَنْ الْكِفَايَةِ، وَزَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الامْرَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ طَالِبِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تَقَاعَدَ عَلَى مَرَاتِبِ الرُّؤَسَاءِ، وَتَقَاصَرَ عَنْ مُطَاوَلَةِ النُّظَرَاءِ، وَانْقَبَضَ عَنْ مُنَافَسَةِ الاكْفَاءِ، فَحَسْبُهُ مَا كَفَاهُ فَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ الا شَرَهٌ وَلاَ فِي الْفُضُولِ الا نَهَمٌ، وَكِلاَهُمَا مَذْمُومٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {خَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي وَخَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ}. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الدُّنْيَا كَلٌّ عَلَى الْعَاقِلِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْمُسْتَغْنِي عَنْ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا كَمُطْفِئِ النَّارِ بِالتِّبْنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اشْتَرِ مَاءَ وَجْهِك بِالْقَنَاعَةِ وَتَسَلَّ عَنْ الدُّنْيَا لِتَجَافِيهَا عَنْ الْكِرَامِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ مُنِيَ بِعُلُوِّ الْهِمَمِ وَتَحَرَّكَتْ فِيهِ أَرْيَحِيَّةُ الْكَرَمِ وَآثَرَ أَنْ يَكُونَ رَأْسًا وَمُقَدَّمًا، وَأَنْ يُرَى فِي النُّفُوسِ مُعَظَّمًا وَمُفَخَّمًا فَالْكِفَايَةُ لاَ تُقِلُّهُ حَتَّى يَكُونَ مَالُهُ فَاضِلًا، وَنَائِلُهُ فَائِضًا.

 

الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 2

 


عدد المشاهدات *:
471499
عدد مرات التنزيل *:
94813
حجم الخط :

* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 13/05/2007 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة

- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 13/05/2007

الكتب العلمية

روابط تنزيل : الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 1
 هذا رابط   لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
أرسل إلى صديق
. بريدك الإلكتروني :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
. بريد صديقك :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
اضغط هنا للطباعة طباعة
 هذا رابط  الْبَابُ الْخَامِسُ أَدَبُ النَّفْسِ :الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِي الْمُرُوءَة 1 لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
يمكنكم استخدام جميع روابط المحجة البيضاء في مواقعكم بالمجان
الكتب العلمية


@designer
1