فصل
وهذا الذي دل عليه القرآن والسنة وآثار أكابر الصحابة ـ كعثمان وغيره ـ من أن عدة المختلعة حيضة واحدة يزول به الإشكال في مسألة تداخل العدتين، كما إذا تزوجت المرأة في عدتها بمن أصابها؛ فإن المأثور عن الصحابة ـ كعمر وعلى ـ: أنها تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني فعليها تمام عدة الأول، وعدة للثاني. وبه أخذ جمهور الفقهاء، كمالك والشافعي، وأحمد. واختلف عمر وعلى: هل تباح للأول بعد قضاء العدتين؟ فقال عمر: لا ينكحها أبدًا. وبه أخذ مالك. وقال على: هو خاطب من الخطاب. وبه أخذ الشافعي. وعن أحمد روايتان. وأما أبوحنيفة فعنده لا يجب عليها إلا عدة واحدة من الثاني، وتدخل فيها بقية عدة الأول، وذكر بعض أصحابه أن هذا القول منقول عن ابن مسعود، لكن لم نعرف لذلك إسنادا. فنقول بتداخل العدتين، فإن العدة حق له؛ إذ لو أراد الزوج إسقاطها لم يمكنه ذلك، فدخل بعضها في بعض ـ كالحدود؛، والكفارات ـ فإنه / لو سرق، ثم سرق لم يقطع إلا يد واحدة، وكذلك لو شرب، ثم شرب، لم يكن عليه إلا حد واحد. فالحدود وجبت في جنس الذنب، لا في قدره. ولهذا تجب بسرقة المال الكثير والقليل، وتجب بشرب القليل والكثير؛ لأن الموجب له جنس الذنب، لا قدره. فإذا لم يفترق الحكم بين قليله وكثيره في القدر لم يفترق بين واحده وعده؛ فإن الجميع من جنس القدر، وكذلك كفارة الجماع في رمضان إذا وطأ ثم وطأ قبل أن يكفر. فمن قال بتداخل العدتين قال: عدة المطلقة من هذا الباب، فإن سببها الوطء، ليست مثل عدة الوفاة التي سببها العقد، وهي تجب مع قليل الوطء وكثيره، فإن الموجب لها الجنس الوطء، ولا فرق بين أن يكون الواطئ واحدًا أو اثنين.
وطرده لو اشترى أمة قد اشترك في وطئها جماعة لم يكن عليها إلا استبراء واحد، وإن كان الواطئ جماعة. وقد نوزعوا في هذه الصورة. فقيل: بل تستبرأ لكل من الشريكين استبراءً واحدًا إذا كانت في ملكهما. فأما إذا باعاها لغيرهما، فهنا لا يجب على المشتري إلا استبراءً واحدًا، ولم يقل أحد علمناه: فإن الأمة المملوكة بسبي أو شراء أو إرث ونحو ذلك عليها استبرآت متعددة بعدد الواطئين. وكذلك لو اشترى رجل جارية وباعها قبل أن يستبرأها لم يكن على المشتري الثاني إلا استبراء واحدًا. قال الفقهاء: ولا نقول عليه أن يستبرأها مرتين. واعتذر بعضهم بأن الاستبراء سببه تعدد الملك ولم يتعدد؛ ولهذا لا يوجبون الاستبراء إذا أعتقها وتزوجها إذا لم يكن البائع قد وطأها، ويوجبونه إذا لم يعتقها، بخلاف العدة فإن سببها الرق. والكلام في عدة الاستبراء له موضع آخر.
/والمقصود هنا أنه لا يتعدد، وما علمنا أحدًا قال: يتعدد، وإن كان أحد قال هذا فإن السنة تخصمه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر إلا بمجرد الاستبراء حيث قال: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ)، فعلق الحل بمجرد الاستبراء ولم يفرق. وإذا كان الاستبراء من جنس العدة، ولا يتعدد بتعدد الواطئ، فالعدة كذلك. هذا ما يحتج به لأبي حنيفة ـ رحمه الله.
وأما الجمهور فقالوا: العدة فيها حق لآدمي واستدلوا بقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} الآية [الأحزاب: 49]، وقالوا: فقد نفي الله أن يكون للرجال على النساء عدة في هذا الموضع، وليس هنا عدة لغير الرجال، فعلم أن العدة فيها حق للرجال حيث وجبت، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن في نفي أن يكون للرجال عليهن عدة ما ينفي أن يكون لله عدة، فلو كانت العدة حقا محضا لله لم يقل: {فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ}، إذ لا عدة لهم لا في هذا الموضع ولا غيره، ولو كانت العدة نوعين نوعًا لله، ونوعًا فيه حق للأزواج، لم يكن في نفي عدة الأزواج ما ينفي العدة الأخري، فدل القرآن على أن العدة حيث وجبت ففيها حق للأزواج، وحينئذ فإذا كانت العدة فيها حق لرجلين، لم يدخل حق أحدهما في الآخر؛ فإن حقوق الآدميين لا تتداخل، كما لو كان لرجلين دَيْنَان على واحد، أو كان لهما عنده أمانة، أو غصب، فإن عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، فهذا الذي قاله الجمهور من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم.
/واحتجوا على أبي حنيفة بأنه يقول: لو تزوج المسلم ذمية وجبت عليها العدة حقا محضا للزوج؛ لأن الذمية لا توآخذ بحق الله؛ ولهذا لا يوجبها إذا كان زوجها ذميا، وهم لا يعتقدون وجوب العدة، وهذا الذي قاله له الأكثرون: حسن، موافق لدلالة القرآن. ولما قضي به الخلفاء الراشدون لا سيما ولم يثبت عن غيرهم خلافه؛ وإن ثبت فإن الخلفاء الراشدين إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي: تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
لكن من تمام كون العدة حقا للرجل أن يكون له فيها حق على المرأة وهو ثبوت الرجعة، كما قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، فأمرهن بالتربص، وجعل الرجل أحق بردها في مدة التربص، وليس في القرآن طلاقا إلا طلاق رجعي، إلا الثالثة المذكورة في قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وذلك طلاق أوجب تحريمها فلا تحل له بعقد يكون برضاها ورضا وليها، فكيف تباح بالرجعة؟ ! أما المرأة التي تباح لزوجها في العدة فإن زوجها أحق برجعتها في العدة بدون عقد، وليس في القرآن طلاق بائن تباح فيه بعقد ولا يكون الزوج أحق بها، بل متي كانت حلالا له كان أحق بها.
/وعلى هذا فيظهر كون العدة حقا للرجل، فإنه يستحق بها الرجعة، بخلاف ما إذا أوجبت في الطلاق البائن التي تباح فيه بعقد؛ فإنه هنا لا حق له، إذ النكاح إنما يباح برضاهما جميعا، ولهذا طرد أبو حنيفة أصله، لما كان الطلاق عنده ينقسم إلى بائن، ورجعي، وله أن يوقع البائن بلا رضاها، جعل الرجعة حقا محضا للزوج، له أن يسقطها، وله ألا يسقطها، بخلاف العدة فإنه ليس له إسقاطها، فلا تكون حقا له.
وهذا يؤيد أن الخلع ليس بطلاق، فإنه موجب للتسوية. ويؤيد أنه ليس للرجل فيه عدة على المرأة كما يكون في الطلاق، بل عليها استبراء بحيضة؛ فإن الاستبراء بحيضة حق الله؛ لأجل براءة الرحم فلابد منه في كل موطوءة، سواء وطئت بنكاح صحيح، أو فاسد، أو بملك يمين، فإنه يجب لبراءة رحمها من ماء الواطئ الأول؛ لئلا يختلط ماؤه بماء غيره، وكذلك يجب على أصح قولي العلماء على الموطوءة بالزني؛ لأجل ماء الواطئ الثاني؛ لئلا يختلط ماؤه بماء الزاني. وهذا مذهب مالك وأحمد. وإذا لم يجب على المختلعة إلا عدة بحيضة، فعلى المنكوحة نكاحًا فاسدًا أولى؛ فإنه لا رجعة عليها ولا نفقة لها.
فإن قيل: ففي حديث طليحة أن عمر بن الخطاب قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن لم يدخل بها الثاني أتمت عدة زوجها، وإن دخل بها أتمت بقية عدتها للأول، ثم اعتدت للثاني. وكذلك عن على: أنه قضي أنها تأتي ببقية عدتها للأول، ثم تأتي للثاني بعدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح.
/قيل: نعم. لكن لفظ العدة في كلام السلف يقال على القروء الثلاثة، وعلى الاستبراء بحيضة، كما تقدم نظائره. وحينئذ ـ فعمر وعلى إن كان قولهما في المختلعة ونحوها أنها تعتد بحيضة ـ فيكونان أراد أنها تعتد بحيضة. وإن كان قولهما أنها تعتد بثلاثة قروء، فيكون هذا فيه قولان للصحابة؛ فإن عثمان قد ثبت عنه أن المختلعة تعتد بحيضة. وإن قيل: بل قد نقول: تعتد المختلعة بحيضة، والمنكوحة نكاحا فاسدًا بثلاثة قروء، فهذا القول إذا قيل به يحتاج إلى بيان الفرق بين المسألتين.
فإن قيل: فقد اختلف عمر وعلى هل تباح للثاني؟ فقال عمر: لا ينكحها أبدًا. وقال علي: إذا انقضت عدتها ـ يعني من الثاني ـ فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح. ولو كان وطء الثاني كوطء الشبهة لم يمنع الأول أن يتزوجها؛ فإن الرجل لو وطئت امرأته بشبهة لم يزل نكاحه بالإجماع، بل يعتزلها حتى تعتد، ولو وطئت الرجعية بشبهة لم يسقط حق الزوج شيء؟ .
قيل: أولاً هذا السؤال لا تعلق له بقدر العدة، فسواء كانت العدة استبراء بحيضة، أو كانت بتربص ثلاثة قروء، هذا وارد في الصورتين. ولا ريب أن الزوج المطلق الذي اعتدت من وطئه إن كان طلقها الطلقة الثالثة فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فلا يمكنه أن يراجعها في عدتها منه، وأما إن فارقها فرقة بائنة ـ كالخلع ـ ونكحت في مدة اعتدادها منه، مثل أن تنكح قبل أن تستبرأ بحيضة، فهنا إذا أراد أن يتزوجها في عدتها فإنما يتزوجها بعقد /جديد، وليس له أن يتزوج بعدة من غيره بعقد جديد؛ فإن العدة من الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا تمنع دوامه فليس لأحد أن يتزوج بعدة، لا من وطء شبهة، ولا نكاح فاسد، بل ولا زني؛ وإن كانت امرأته إذا وطئت بشبهة أو زني لم يبطل نكاحه، بل يجتنبها حتى يستبرأها، ثم يطأها.
وإذا قيل: فهذه معتدة من الوطء، فكيف يمنع من نكاحها في العدة؟
قيل أولاً: هذا لا يتعلق بقدر العدة.
وقيل ثانيا: لا نص ولا إجماع يبيح لكل معتدة أن تنكح في عدتها، لكن الإجماع انعقد على ذلك في مثل المختلعة؛ إذ لا عدة عليها لغير الناكح. فأما إذا وجبت عليها عدة من غيره، فهنا المانع كونها معتدة من غيره، كما يمنع بعد انقضاء عدتها منه؛ فإن الخلية من عدتها له أن ينكحها، وإذا كان بعدة من الغير لم يكن له ذلك. فالعدة ليست مانعة من النكاح ولا موجبة لحله، وانتفاء مانع واحد لا يبيح الغير إذا وجد مانع آخر، ولكن يظن الظان أن العدة منه وجبت لإباحة عقده. وهذا غلط. وأما إن كان الطلاق الأول رجعية، فارتجاعه إياها في بقية عدتها منه كارتجاعه لو وطئت بشبهة في عدتها من الطلاق الرجعي، لا فرق بينهما.
/وكذلك الذي قضي به على: أن الثاني لا ينكحها حتى تنقضي عدتها منه وهو ظاهر مذهب أحمد. وأما مذهب الشافعي فيجوز عنده للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما يجوز للواطئ بشبهة أن يتزوج الموطوءة في عدتها منه، وكذلك كل من نكح امرأة نكاحا فاسدا له أن يتزوجها في عدتها منه.
وأحمد له في هذا الأصل روايتان:
إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب مالك؛ ليميز بين ماء وطء الشبهة، وماء المباح المحض.
والثانية: يجوز كمذهب الشافعي؛ لأن النسب لاحق في كليهما. وعلى هذه الرواية فمن أصحاب أحمد من جوز للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما هو قول الشافعي، كما يجوز ذلك لكل معتدة من نكاح فاسد على هذه الرواية.
ومنهم من أنكر نصه، وقال هنا: كان يذكر فيها عدة من الواطئ الأول، وهذا الواطئ الثاني لم تعتد منه عقب مفارقته لها، بل تخلل بين مفارقته وعدته عدة الأول، وهي قد وجب عليها عدتان لهما، وتقديم عدة الأول كان لقدم حقه، وإلا فلو وضعت ولدًا ألحق بالثاني لكانت عدة الثاني متقدمة على عدة الأول، فهي في أيام عدة الأول عليها حق للثاني، وفي الاعتداد / من الثاني عليها حق الأول؛ بدليل أنها لو وضعت ولدا بعد اعتدادها من الأول وأمكن كونه من الأول والثاني عرض على القافة. فإذا كان للأول حق في مدة عدتها من الثاني لم يكن للثاني أن يتزوجها في مدة العدة.
فهذا أشهر الأقوال في هذه المسألة، وهو المأثور عن الصحابة، وهو نص أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقد تبعه الجد ـ رحمه الله ـ في محرره.
وأما مقدار العدة فقد ذكرنا عن أحمد روايتين في المختلعة فإن لم يكن بينها وبين المنكوحة نكاحا فاسدًا فرق شرعي، وإلا وجب أن يقال في المنكوحة نكاحا فاسدًا: إنما تعتد بحيضة، كما مضت به السنة. والله أعلم.
وهذا الذي دل عليه القرآن والسنة وآثار أكابر الصحابة ـ كعثمان وغيره ـ من أن عدة المختلعة حيضة واحدة يزول به الإشكال في مسألة تداخل العدتين، كما إذا تزوجت المرأة في عدتها بمن أصابها؛ فإن المأثور عن الصحابة ـ كعمر وعلى ـ: أنها تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني فعليها تمام عدة الأول، وعدة للثاني. وبه أخذ جمهور الفقهاء، كمالك والشافعي، وأحمد. واختلف عمر وعلى: هل تباح للأول بعد قضاء العدتين؟ فقال عمر: لا ينكحها أبدًا. وبه أخذ مالك. وقال على: هو خاطب من الخطاب. وبه أخذ الشافعي. وعن أحمد روايتان. وأما أبوحنيفة فعنده لا يجب عليها إلا عدة واحدة من الثاني، وتدخل فيها بقية عدة الأول، وذكر بعض أصحابه أن هذا القول منقول عن ابن مسعود، لكن لم نعرف لذلك إسنادا. فنقول بتداخل العدتين، فإن العدة حق له؛ إذ لو أراد الزوج إسقاطها لم يمكنه ذلك، فدخل بعضها في بعض ـ كالحدود؛، والكفارات ـ فإنه / لو سرق، ثم سرق لم يقطع إلا يد واحدة، وكذلك لو شرب، ثم شرب، لم يكن عليه إلا حد واحد. فالحدود وجبت في جنس الذنب، لا في قدره. ولهذا تجب بسرقة المال الكثير والقليل، وتجب بشرب القليل والكثير؛ لأن الموجب له جنس الذنب، لا قدره. فإذا لم يفترق الحكم بين قليله وكثيره في القدر لم يفترق بين واحده وعده؛ فإن الجميع من جنس القدر، وكذلك كفارة الجماع في رمضان إذا وطأ ثم وطأ قبل أن يكفر. فمن قال بتداخل العدتين قال: عدة المطلقة من هذا الباب، فإن سببها الوطء، ليست مثل عدة الوفاة التي سببها العقد، وهي تجب مع قليل الوطء وكثيره، فإن الموجب لها الجنس الوطء، ولا فرق بين أن يكون الواطئ واحدًا أو اثنين.
وطرده لو اشترى أمة قد اشترك في وطئها جماعة لم يكن عليها إلا استبراء واحد، وإن كان الواطئ جماعة. وقد نوزعوا في هذه الصورة. فقيل: بل تستبرأ لكل من الشريكين استبراءً واحدًا إذا كانت في ملكهما. فأما إذا باعاها لغيرهما، فهنا لا يجب على المشتري إلا استبراءً واحدًا، ولم يقل أحد علمناه: فإن الأمة المملوكة بسبي أو شراء أو إرث ونحو ذلك عليها استبرآت متعددة بعدد الواطئين. وكذلك لو اشترى رجل جارية وباعها قبل أن يستبرأها لم يكن على المشتري الثاني إلا استبراء واحدًا. قال الفقهاء: ولا نقول عليه أن يستبرأها مرتين. واعتذر بعضهم بأن الاستبراء سببه تعدد الملك ولم يتعدد؛ ولهذا لا يوجبون الاستبراء إذا أعتقها وتزوجها إذا لم يكن البائع قد وطأها، ويوجبونه إذا لم يعتقها، بخلاف العدة فإن سببها الرق. والكلام في عدة الاستبراء له موضع آخر.
/والمقصود هنا أنه لا يتعدد، وما علمنا أحدًا قال: يتعدد، وإن كان أحد قال هذا فإن السنة تخصمه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر إلا بمجرد الاستبراء حيث قال: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ)، فعلق الحل بمجرد الاستبراء ولم يفرق. وإذا كان الاستبراء من جنس العدة، ولا يتعدد بتعدد الواطئ، فالعدة كذلك. هذا ما يحتج به لأبي حنيفة ـ رحمه الله.
وأما الجمهور فقالوا: العدة فيها حق لآدمي واستدلوا بقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} الآية [الأحزاب: 49]، وقالوا: فقد نفي الله أن يكون للرجال على النساء عدة في هذا الموضع، وليس هنا عدة لغير الرجال، فعلم أن العدة فيها حق للرجال حيث وجبت، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن في نفي أن يكون للرجال عليهن عدة ما ينفي أن يكون لله عدة، فلو كانت العدة حقا محضا لله لم يقل: {فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ}، إذ لا عدة لهم لا في هذا الموضع ولا غيره، ولو كانت العدة نوعين نوعًا لله، ونوعًا فيه حق للأزواج، لم يكن في نفي عدة الأزواج ما ينفي العدة الأخري، فدل القرآن على أن العدة حيث وجبت ففيها حق للأزواج، وحينئذ فإذا كانت العدة فيها حق لرجلين، لم يدخل حق أحدهما في الآخر؛ فإن حقوق الآدميين لا تتداخل، كما لو كان لرجلين دَيْنَان على واحد، أو كان لهما عنده أمانة، أو غصب، فإن عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، فهذا الذي قاله الجمهور من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم.
/واحتجوا على أبي حنيفة بأنه يقول: لو تزوج المسلم ذمية وجبت عليها العدة حقا محضا للزوج؛ لأن الذمية لا توآخذ بحق الله؛ ولهذا لا يوجبها إذا كان زوجها ذميا، وهم لا يعتقدون وجوب العدة، وهذا الذي قاله له الأكثرون: حسن، موافق لدلالة القرآن. ولما قضي به الخلفاء الراشدون لا سيما ولم يثبت عن غيرهم خلافه؛ وإن ثبت فإن الخلفاء الراشدين إذا خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي: تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).
لكن من تمام كون العدة حقا للرجل أن يكون له فيها حق على المرأة وهو ثبوت الرجعة، كما قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، فأمرهن بالتربص، وجعل الرجل أحق بردها في مدة التربص، وليس في القرآن طلاقا إلا طلاق رجعي، إلا الثالثة المذكورة في قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وذلك طلاق أوجب تحريمها فلا تحل له بعقد يكون برضاها ورضا وليها، فكيف تباح بالرجعة؟ ! أما المرأة التي تباح لزوجها في العدة فإن زوجها أحق برجعتها في العدة بدون عقد، وليس في القرآن طلاق بائن تباح فيه بعقد ولا يكون الزوج أحق بها، بل متي كانت حلالا له كان أحق بها.
/وعلى هذا فيظهر كون العدة حقا للرجل، فإنه يستحق بها الرجعة، بخلاف ما إذا أوجبت في الطلاق البائن التي تباح فيه بعقد؛ فإنه هنا لا حق له، إذ النكاح إنما يباح برضاهما جميعا، ولهذا طرد أبو حنيفة أصله، لما كان الطلاق عنده ينقسم إلى بائن، ورجعي، وله أن يوقع البائن بلا رضاها، جعل الرجعة حقا محضا للزوج، له أن يسقطها، وله ألا يسقطها، بخلاف العدة فإنه ليس له إسقاطها، فلا تكون حقا له.
وهذا يؤيد أن الخلع ليس بطلاق، فإنه موجب للتسوية. ويؤيد أنه ليس للرجل فيه عدة على المرأة كما يكون في الطلاق، بل عليها استبراء بحيضة؛ فإن الاستبراء بحيضة حق الله؛ لأجل براءة الرحم فلابد منه في كل موطوءة، سواء وطئت بنكاح صحيح، أو فاسد، أو بملك يمين، فإنه يجب لبراءة رحمها من ماء الواطئ الأول؛ لئلا يختلط ماؤه بماء غيره، وكذلك يجب على أصح قولي العلماء على الموطوءة بالزني؛ لأجل ماء الواطئ الثاني؛ لئلا يختلط ماؤه بماء الزاني. وهذا مذهب مالك وأحمد. وإذا لم يجب على المختلعة إلا عدة بحيضة، فعلى المنكوحة نكاحًا فاسدًا أولى؛ فإنه لا رجعة عليها ولا نفقة لها.
فإن قيل: ففي حديث طليحة أن عمر بن الخطاب قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن لم يدخل بها الثاني أتمت عدة زوجها، وإن دخل بها أتمت بقية عدتها للأول، ثم اعتدت للثاني. وكذلك عن على: أنه قضي أنها تأتي ببقية عدتها للأول، ثم تأتي للثاني بعدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح.
/قيل: نعم. لكن لفظ العدة في كلام السلف يقال على القروء الثلاثة، وعلى الاستبراء بحيضة، كما تقدم نظائره. وحينئذ ـ فعمر وعلى إن كان قولهما في المختلعة ونحوها أنها تعتد بحيضة ـ فيكونان أراد أنها تعتد بحيضة. وإن كان قولهما أنها تعتد بثلاثة قروء، فيكون هذا فيه قولان للصحابة؛ فإن عثمان قد ثبت عنه أن المختلعة تعتد بحيضة. وإن قيل: بل قد نقول: تعتد المختلعة بحيضة، والمنكوحة نكاحا فاسدًا بثلاثة قروء، فهذا القول إذا قيل به يحتاج إلى بيان الفرق بين المسألتين.
فإن قيل: فقد اختلف عمر وعلى هل تباح للثاني؟ فقال عمر: لا ينكحها أبدًا. وقال علي: إذا انقضت عدتها ـ يعني من الثاني ـ فإن شاءت نكحت، وإن شاءت لم تنكح. ولو كان وطء الثاني كوطء الشبهة لم يمنع الأول أن يتزوجها؛ فإن الرجل لو وطئت امرأته بشبهة لم يزل نكاحه بالإجماع، بل يعتزلها حتى تعتد، ولو وطئت الرجعية بشبهة لم يسقط حق الزوج شيء؟ .
قيل: أولاً هذا السؤال لا تعلق له بقدر العدة، فسواء كانت العدة استبراء بحيضة، أو كانت بتربص ثلاثة قروء، هذا وارد في الصورتين. ولا ريب أن الزوج المطلق الذي اعتدت من وطئه إن كان طلقها الطلقة الثالثة فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فلا يمكنه أن يراجعها في عدتها منه، وأما إن فارقها فرقة بائنة ـ كالخلع ـ ونكحت في مدة اعتدادها منه، مثل أن تنكح قبل أن تستبرأ بحيضة، فهنا إذا أراد أن يتزوجها في عدتها فإنما يتزوجها بعقد /جديد، وليس له أن يتزوج بعدة من غيره بعقد جديد؛ فإن العدة من الغير تمنع ابتداء النكاح، ولا تمنع دوامه فليس لأحد أن يتزوج بعدة، لا من وطء شبهة، ولا نكاح فاسد، بل ولا زني؛ وإن كانت امرأته إذا وطئت بشبهة أو زني لم يبطل نكاحه، بل يجتنبها حتى يستبرأها، ثم يطأها.
وإذا قيل: فهذه معتدة من الوطء، فكيف يمنع من نكاحها في العدة؟
قيل أولاً: هذا لا يتعلق بقدر العدة.
وقيل ثانيا: لا نص ولا إجماع يبيح لكل معتدة أن تنكح في عدتها، لكن الإجماع انعقد على ذلك في مثل المختلعة؛ إذ لا عدة عليها لغير الناكح. فأما إذا وجبت عليها عدة من غيره، فهنا المانع كونها معتدة من غيره، كما يمنع بعد انقضاء عدتها منه؛ فإن الخلية من عدتها له أن ينكحها، وإذا كان بعدة من الغير لم يكن له ذلك. فالعدة ليست مانعة من النكاح ولا موجبة لحله، وانتفاء مانع واحد لا يبيح الغير إذا وجد مانع آخر، ولكن يظن الظان أن العدة منه وجبت لإباحة عقده. وهذا غلط. وأما إن كان الطلاق الأول رجعية، فارتجاعه إياها في بقية عدتها منه كارتجاعه لو وطئت بشبهة في عدتها من الطلاق الرجعي، لا فرق بينهما.
/وكذلك الذي قضي به على: أن الثاني لا ينكحها حتى تنقضي عدتها منه وهو ظاهر مذهب أحمد. وأما مذهب الشافعي فيجوز عنده للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما يجوز للواطئ بشبهة أن يتزوج الموطوءة في عدتها منه، وكذلك كل من نكح امرأة نكاحا فاسدا له أن يتزوجها في عدتها منه.
وأحمد له في هذا الأصل روايتان:
إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب مالك؛ ليميز بين ماء وطء الشبهة، وماء المباح المحض.
والثانية: يجوز كمذهب الشافعي؛ لأن النسب لاحق في كليهما. وعلى هذه الرواية فمن أصحاب أحمد من جوز للثاني أن ينكحها في عدتها منه، كما هو قول الشافعي، كما يجوز ذلك لكل معتدة من نكاح فاسد على هذه الرواية.
ومنهم من أنكر نصه، وقال هنا: كان يذكر فيها عدة من الواطئ الأول، وهذا الواطئ الثاني لم تعتد منه عقب مفارقته لها، بل تخلل بين مفارقته وعدته عدة الأول، وهي قد وجب عليها عدتان لهما، وتقديم عدة الأول كان لقدم حقه، وإلا فلو وضعت ولدًا ألحق بالثاني لكانت عدة الثاني متقدمة على عدة الأول، فهي في أيام عدة الأول عليها حق للثاني، وفي الاعتداد / من الثاني عليها حق الأول؛ بدليل أنها لو وضعت ولدا بعد اعتدادها من الأول وأمكن كونه من الأول والثاني عرض على القافة. فإذا كان للأول حق في مدة عدتها من الثاني لم يكن للثاني أن يتزوجها في مدة العدة.
فهذا أشهر الأقوال في هذه المسألة، وهو المأثور عن الصحابة، وهو نص أحمد، وعليه جمهور أصحابه، وقد تبعه الجد ـ رحمه الله ـ في محرره.
وأما مقدار العدة فقد ذكرنا عن أحمد روايتين في المختلعة فإن لم يكن بينها وبين المنكوحة نكاحا فاسدًا فرق شرعي، وإلا وجب أن يقال في المنكوحة نكاحا فاسدًا: إنما تعتد بحيضة، كما مضت به السنة. والله أعلم.
عدد المشاهدات *:
492893
492893
عدد مرات التنزيل *:
266080
266080
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013