وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله:
الدعاوي التي يحكم فيها ولاة الأمور، سواء سموا قضاة، أو ولاة، أو تسمي بعضهم في بعض الأوقات ولاة الأحداث، أو ولاة المظالم، أو غير ذلك من الأسماء العرفية الاصطلاحية، فإن حكم الله ـ تبارك وتعالى ـ شامل لجميع الخلائق. وعلى كل من ولي أمر الأمة أو حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والقسط، وأن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشرع المنزل من عند الله، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25]، وقال تعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [النساء: 58]، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا اليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } [النساء: 105]، وقال تعالى: { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ } [المائدة: 48].
فالدعاوي قسمان: دعوي تهمة، وغير تهمة. فدعوي التهمة أن يدعي فعلا يحرم على المطلوب، يوجب عقوبته، مثل قتل، أو قطع طريق / أو سرقة، أو غير ذلك من أنواع العدوان المحرم كالذي يستخفي به بما يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة.
وغير التهمة أن يدعي دعوي عقد من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو دعوي لا يكون فيها سبب فعل محرم، مثل دين ثابت في الذمة من ثمن بيع، أو قرض، أو صداق، أو دية خطأ، أو غير ذلك.
فكل من القسمين قد يكون دعوي حد لله ـ عز وجل ـ محض، كالشرب والزنا، وقد يكون حقًا محضًا لآدمي كالأموال. وقد يكون فيه الأمران، كالسرقة، وقطع الطريق.
فهذان القسمان إذا أقام المدعي فيه حجة شرعية وإلا فالقول قول المدعي عليه مع يمينه؛ لما روي مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطي الناس بدعواهم لإدعي ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه). وفي رواية في الصحيحين، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي باليمين على المدعي عليه، فهذا الحديث نص أن أحدًا لا يعطي بمجرد دعواه، ونص في أن الدعوي المتضمنة للإعطاء تجب فيها اليمين ابتداء على المدعي عليه، وليس فيه أن الدعاوي الموجبة للعقوبات لا توجب إلا اليمين على المدعي عليه، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال / للأنصار لما اشتكوا اليه لأجل قتيلهم الذي قتل بخيبر، وهو عبد الله بن سهل، فجاء الى النبي صلى الله عليه وسلم أخوه عبد الله وأبناء عمه حويصة ومحيصة وكان محيصة معه بخيبر، وقال: (أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم) قالوا: وكيف نحلف، ولم نشهد، ولم نر؟ قال: (فتبريكم يهود بخمسين يمينًا)، قالوا: وكيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟ أخرجه أصحاب الصحاح والسنن جميعهم، مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وفي رواية في الصحيحين، قال: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بشاهد ويمين . رواه الترمذي وابن ماجه من حديث جابر . ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة. وهذه الأحاديث أصح وأشهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الباب. وابن عباس الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضي باليمين مع الشاهد وأن هذا قضي به في دعاوي وقضي بهذا في دعاوي.
وأما الحديث المشهور في ألسنة الفقهاء (البينة على من ادعي واليمين على من أنكر) فهذا قد روي أيضًا، لكن ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة، إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبي حنيفة وغيره، فإنهم / يرون اليمين دائمًا في جانب المنكر، حتي في القسامة يحلفون المدعي عليه، ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولايرون اليمين على المدعي عند النكول، واستدلوا بعموم هذا الحديث.
وأما سائر علماء الملة من أهل المدينة ومكة والشام وفقهاء الحديث وغيرهم ـ مثل ابن جريج، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم ـ فتارة يحلفون المدعي، وتارة يحلفون المدعي عليه، كما جاءت بذلك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأصل عند جمهورهم أن اليمين مشروعة في أقوي الجانبين. والبينة عندهم اسم لما يبين الحق. وبينهم نزاع في تفاريع ذلك، فتارة يكون لوثاً مع أيمان القسامة، وتارة يكون شاهدًا ويمينًا، وتارة يكون دلائل غير الشهود كالصفة للقطة.
وأجابوا عن ذلك الحديث: تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام وأحاديثهم خاصة. وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر وأشهر، فالعمل بها عند التعارض أولي.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلب البينة من المدعي واليمين من المنكر، في حكومات معينة، ليست من جنس دعاوي التهم،/ مثل ما خرجا في الصحيحين عن الأشعث بن قيس أنه قال: كانت بيني وبين رجل حكومة في بئر ، فاختصمنا الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (شاهداك أو فيمينه) فقلت: إذًا يحلف، ولا يبالى، فقال: (من حلف على يمين صبر يقطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان). وفي رواية، فقال: (بينتك أنها بئرك، وإلا فيمينه)، وعن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي وبيدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: (ألك بينة؟) قال: لا. قال: (فلك يمينه)، فقال: يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، فليس يتورع من شيء، فقال: (ليس لك منه إلا ذلك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل: (أما لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض). رواه مسلم والترمذي وصححه.
ففي هذا الحديث الصحيح أنه لم يوجب على المطلوب إلا اليمين مع ذكر المدعي لفجوره، وقال: (ليس لك منه إلا ذلك)، وكذلك في الحديث الأول كان خصم الأشعث يهوديًا، هكذا جاء في الصحيحين، ومع هذا لم يوجب عليه إلا اليمين، وفي حديث القسامة أن الأنصار لما قالوا: / كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ لم ينكر ذلك عليهم، فعلم أن الدعاوي مختلفة في ذلك.
وهذا القسم لا أعلم فيه نزاعًا، أعني أن القول فيه قول المدعي عليه مع اليمين إذا لم يأت المدعي بحجة شرعية، وهي البينة.
والبينة التي هي الحجة الشرعية. تارة تكون بشاهدين عدلين رجلين، وتارة رجل وامرأتين، وتارة أربعة شهداء، وتارة ثلاثة عند بعض العلماء من أصحاب أحمد وبعض أصحاب الشافعي، وهو دعوي الإفلاس فيمن علم أن له مال، فقد جاء في صحيح مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل المسألة لأحد إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتي يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتي يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتي يصيب قوامًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا) ولأن الغني من الأمور الخفية التي تقوي بها التهمة بإخفاء المال. وتارة تكون الحجة شاهدًا ويمين الطالب عند جمهور فقهاء الإسلام من أهل الحجاز وفقهاء الحديث، وتارة تكون الحجة نساء: إما امرأة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وإما امرأتين عند مالك وأحمد في رواية، وإما أربع نسوة عند الشافعي، وتارة تكون الحجة غير ذلك.
/وتارة تكون الحجة اللوث واللطخ والشبهة مع أيمان المدعي خمسين يمينًا، وهي القسامة التي يبدأ فيها بأيمان المدعي عند عامة فقهاء الحجاز وأهل الحديث. وتمتاز عن غيرها بأن اليمين فيها خمسون يمينًا، كما امتازت أيمان اللعان بأن كانت أربع شهادات بالله، لأن كل يمين أقيمت مقام شاهد. والقسامة توجب القود عند مالك وأحمد، وتوجب الدية فقط عند الشافعي. وأهل الرأي لا يحلفون فيها إلا المدعي عليه، كما تقدم، مع أنهم مع تحليفه يوجبون عليه الدية. على تفصيل معروف ليس الغرض هنا ذكره، وإنما الغرض التنبيه على مجامع الأحكام في الدعاوي، فإنه باب عظيم، والحاجة اليه شديدة عامة.
وقد وقع فيه التفريط من بعض ولاة الأمور، والعدوان من بعضهم، ما أوجب الجهل بالحق، والظلم للخلق، وصار لفظ الشرع غير مطابق لمسماه الأصلي، بل لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام:
أحدها: الشرع المنزل، وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ، وغير ذلك، فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله.
والثاني: الشرع المؤول وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم تجب على جميع الخلق موافقته، إلا بحجة لامرد لها من الكتاب والسنة.
/والثالث: الشرع المبدل، مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل والحق حكمًا بغير ما أنزل الله، أو يؤمر فيه بإقرار باطل لإضاعة حق ـ مثل أمر المريض أن يقر لوارث بما ليس بحق ليبطل به حق بقية الورثة ـ فإن الأمر بذلك والشهادة عليه محرمة، وإن كان الحاكم الذي لم يعرف باطن الأمر إذا حكم بما ظهر له من الحق لم يأثم، فقد قال سيد الحكام صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إنكم تختصمون الى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار).
القسم الآخر من الدعاوي دعاوي التهم، وهي دعوي الجناية والأفعال المحرمة، مثل: دعوي القتل؛ وقطع الطريق، والسرقة، والعدوان على الخلق بالضرب وغيره، فهذا ينقسم المدعي عليه الى ثلاثة أقسام: فإن المتهم إما أن يكون ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرًا من أهل تلك التهمة، أو يكون مجهول الحال لا يعرف الحاكم حاله.
فإن كان برًا لم تجز عقوبته بالاتفاق، واختلفوا في عقوبة المتهم له مثل أن يوجد في يد رجل عدل مال مسروق، ويقول ذو اليد: ابتعته من السوق لا أدري / من باعه، فلا عقوبة عليه بالاتفاق، ثم قال أصحاب مالك وغيرهم: يحلف المستحق أنه ملكه ما خرج عن ملكه، ويأخذه، قال هؤلاء: لا يمين على المطلوب، ثم اختلفوا في العقوبة للمتهم له؟ فقال مالك وأشهب: لا أدب على المدعي، إلا أن يقصد أذيته وعيبه وشتمه فيؤدب، وقال أصبغ: يؤدب قصد أذيته أو لم يقصد، وكذلك عامة العلماء يقولون إن الحدود التي لله لا يحلف فيها المدعي عليه، فإذا أخذ المستحق ماله لم يبق على ذوي اليد دعوي إلا لأجل الحد ولا يحلف.
القسم الثاني: أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتي ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام، والمنصوص عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي والوالي، هكذا نص عليه مالك وأصحابه، وهو منصوص الإمام أحمد ومحققي أصحابه، وذكره أصحاب أبي حنيفة، وقال الإمام أحمد: قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة، قال أحمد: وذلك حتي يتبين للحاكم أمره، وذلك لما رواه أبو داود في سننه والخلال وغيرهما، عن بهز ابن حكيم، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وروي الخلال عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يومًا وليلة.
والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعي عليه الذي يجب إحضاره وجب على الحاكم إحضاره الى مجلس/الحكم حتي يفصل بينهما ،ويحضره من مسافة الدعوي التي هي عند بعضهم بريد، وهو ما لا يمكن الذهاب اليه والعود في يوم، كما يقوله من قاله من أصحاب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، وعند بعضهم أن مسافة القصر أربعة برد مسيرة يومين قاصدين كما يقوله أحمد في إحدي الروايتين، ثم الحاكم قد يكون مشغولاً عن تعجيل الفصل، وقد يكون عنده حكومات سابقة، فيبقي المطلوب محبوسًا معوقًا من حين يطلب الى حين يفصل بينه وبين خصمه وهذا حبس بدون التهمة، ففي التهمة أولى.
فإن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه؛ ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسيرًا، كما روي أبو داود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي: الزمه ثم قال: (يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟) وفي رواية ابن ماجه: ثم مر بي آخر النهار، فقال: (ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟) وهذا هو الحبس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حبسًا معداً لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارًا، وجعلها سجنًا، وحبس فيها. ولقد / تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم هل يتخذ الإمام حبسًا؟ على قولين فمن قال: لا يتخذ حبسًا، قال: يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمي الترسيم.
ولهذا لما كان حضور مجلس الحاكم تعويقًا ومنعًا من جنس السجن والحبس تنازع العلماء هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوي أم لا يحضر إذا كان ممن يتبذل بالحضور حتي يبين لمدعي الدعوي أصل؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. والثاني: قول مالك. والأول: قول أبي حنيفة والشافعي.
ومن العلماء من قال: الحبس في التهمة إنما هو للوالى والى الحرب، دون القاضي، وقد ذكرها طائفة من أصحاب الشافعي ـ كأبي عبد الله الزبيري وأقضي القضاة الماوردي، وغيرهما. وطائفة من أصحاب أحمد المصنفين في أدب القضاة وغيرهم.
واختلفوا في مقدار الحبس في التهمة: هل هو مقدر؟ أو مرجعه الى اجتهاد الإمام؟ على قولين، ذكرهما القاضي أبو يعلى، والقاضي الماوردي، وغيرهما. وقيل هو مقدر بشهر، وهو قول أبي عبد الله الزبيري. وقيل: هو غير مقدر، وهو اختيار الماوردي.
/القسم الثالث: أن يكون المتهم معروفا بالفجور، مثل المتهم بالسرقة إذا كان معروفا بها
قبل ذلك، والمتهم بقطع طريق إذا كان معروفا به، والمتهم بالقتل، أو كان أحد هؤلاء معروفًا بما يقتضي ذلك. فإذا جاز حبس المجهول فحبس المعروف بالفجور أولي، وما علمت أحدًا من أئمة المسلمين المتبعين من قال: إن المدعي عليه في جميع هذه الدعاوي يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره من جميع ولاة الأمور، فليس هذا على إطلاقه مذهب أحد من الأئمة، ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع، فهـو غالط غلطًا فاحشًا مخالفًا لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة، وبمثل هذا الغلط الفاحش استجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن مجرد الشرع لا بسياسة العالم وبمصالح الأمة، واعتدوا حدود الله في ذلك. وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج الناس عنه إلي أنواع من البدع السياسية، فهذا القسم فيه مسائل القسامة والحكم فيها معروف، ولا يحتاج إلي ذكرها هاهنا. وأما التهمة في السرقة وقطع الطريق ونحوهما فقد تقدم ذكر الحبس فيهما.
وأما الامتحان بالضرب ونحوه فاختلف فيه: هل يشرع للقاضي والوالي، أم يشرع للوالي دون القاضي؟ أم يشرع الضرب لواحد منهما؟ على ثلاثة أقوال:
/أحدها: أنه يضرب فيها القاضي والوالي، وهذا قول طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم ـ منهم أشهب قاضي مصر ـ قال أشهب: يمتحن بالسجن والأدب، ويضرب بالسوط مجردا.
والقول الثاني: لا يضرب بل يحبس كما تقدم، وهذا قول أصبغ من أصحاب مالك، وقول كثير من الحنفية والشافعية وغيرهم، لكن حبس المتهم عندهم أبلغ من حبس المجهول؛ فلذلك اختلفوا هل يحبس حتي يموت؟ فقال عمر بن عبد العزيز وجماعة من أصحاب مالك ـ كمطرف، وابن الماجشون وغيرهما: أنه يحبس حتي يموت. وهكذا روي عن الإمام أحمد فيمن لم ينته عن بدعته أنه يحبس حتي يموت، وقال مالك: لا يحبس حتي يموت.
والقول الثالث: أنه يضربه الوالي دون القاضي، وهذا القول ذكره طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي الحسن الماوردي، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما. وبسطوا القول في ذلك في كتب الأحكام السلطانية وقالوا: إن ولاة الحرب معتمد العقوبة على الجرائم والمنع من الفساد في الأرض،وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالإجرام، بخلاف ولاية الحكم فإن مقصودها يحصل بدون ذلك، وهذا القول هو قول بجواز ذلك في الشريعة،لكن كل ولي أمر يفعل ما فوض إليه فكما أن والي الصدقات لا يملك من القبض والصرف ما يملكه والي / الخراج،وإن كان كلاهما مالا شرعيا،وكذلك والي الحرب ووالي الحكم كل منهما يفعل ما اقتضته ولايته الشرعية، مع رعاية العدل وأصول الشريعة.
وأما عقوبة من عرف أن الحق عنده وقد جحده أو منعه، فمتفق عليها بين العلماء، ولا أعلم منازعاً في أن من وجب عليه حق من دين أو عين وهو قادر على وفائه، ويمتنع من أنه يعاقب حتي يؤديه، وقد نصوا على عقوبته بالضرب، وذكر ذلك المالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته). رواه أهل السنن مثل أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مطل الغني ظلم)، والظالم يستحق العقوبة.
واتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد. والمعصية نوعان: ترك واجب، أو فعل محرم. إن ترك الواجبات مع قدرته كقضاء الديون، وأداء الأمانات إلي أهلها من الوكالات والودائع وأموال اليتامي والوقوف والأموال السلطانية. أورد المغصوب والمظالم، فإنه يعاقب حتي يؤديها.
وكذلك من وجب عليه إحضار نفس؛ لاستيفاء حق وجب عليه، مثل أن يقطع رجل الطريق ويفر إلي بعض ذوي قدرة فيحول بينه وبين أخذ الحدود والحقوق منه، فهذا محرم بالاتفاق، وقد روي مسلم في صحيحه عن / على، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من أحدث حدثا أو آوي محدثا)، وروي أبو داود في سننه عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتي ينزع. ومن حالت شفاعته دون حد في حدود الله، فقد ضاد الله في أمره، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتي يخرج مما قال). فما وجب إحضاره من النفوس والأموال استحق الممتنع من فعل الواجب العقوبة حتي يفعله.
وأما إذا كان الإحضار إلي من يظلمه، أو إحضار المال إلي من يأخذه بغير حق. فهذا لا يجب، بل ولا يجوز، فإن الإعانة على الظلم ظلم، قال الله تعالي: {وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2]، وقال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَي} [المجادلة: 9].
وأما مواطن الاشتباه المشتملة على الظلم من الجانبين: مثل ولاة الأموال السلطانية إذا أخذوا ما لا يستحقونه، وكان المستخرج لها ظالمًا في صرفها أيضًا، فهذا ليس على أحد أن يعين الظالم القادر على إبقائها بيده، ولا يعين الظالم الطالب ـ أيضًا ـ في قبضها، بل إن ترجيح أحد الجانبين بنوع من الحق أعان على الحق، وإن كان كل منهما ظالم ولا يمكن صرفها إلي مستحق / عدل بين الظالمين في ذلك، فإن العدل مأمور به في جميع الأمور بحسب الإمكان، ومن العدل في ذلك ألا يمكن أحدهما من البغي على الآخر، بل يفعل أقرب الممكن إلي العدل.
واختلف العلماء إذا أقر حال الامتحان بالحبس أو الضرب: هل يسوغ ذلك؟ فمنهم من قال: يؤخذ بذلك الإقرار إذا ظهر صدقه: مثل أن يخرج السرقة بعينها، ولو رجع عن ذلك بعد الضرب لم يقبل، بل يؤخذ به، وهذا قول أشهب في القاضي والوالي، وهو الذي ذكره القاضيان الماوردي وأبو يعلى في الوالي. ومنهم من قال: لابد من إقرار آخر بعد الضرب وإذا رجع عن الإقرار لم يؤخذ به. وهذا قول ابن القاسم، وكثير من الشافعية والحنبلية وغيرهم.
وأما مقدار الضرب فإذا كان الضرب على ترك واجب: مثل أن يضرب حتي يؤدي الواجب، فهذا لا يتقدر، بل يضرب يوما فإن فعل الواجب وإلا ضرب يومًا آخر، لكن لا يزيد كل مرة على التعزير عند من يقدر أعلاه.
وقد تنازع العلماء في مقدار أعلا التعزير الذي يقام بفعل المحرمات على أقوال:
/أحدها ـ وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : أنه لا يبلغ في التعزير في كل جريمة الحد المقدر فيها، وإن زاد على حد مقدر في غيرها، فيجوز التعزير في المباشرة المحرمة، وفي السرقة من غير حرز بالضرب الذي يزيد على حد القذف، ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع.
القول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير أدني الحدود: إما أربعين، وإما ثمانين، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة.
والقول الثالث: ألا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى القول الأول: هل يجوز أن يبلغ بها القتل، مثل قتل الجاسوس المسلم؟ في ذلك قولان:
أحدهما: قد يبلغ بها القتل، فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة، وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كابن عقيل، وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعي وأحمد في قتل الداعية إلي البدع، ومن لا يزول فساده إلا بالقتل، وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلي البدع، كالقدرية ونحوهم.
والقول الثاني: أنه لا يقتل الجاسوس، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد / والمنصوص عن أحمد التوقف في المسألة.
وممن يجوز التعزير بالقتل في الذنوب الكبار: أصحاب أبي حنيفة في مواضع يسمون القتل فيها سياسة، كقتل من تكرر لواطه، أو قتله بالمثقل، فإنهم يجوزون قتله سياسة وتعزيرًا، وإن كان أبو حنيفة لا يوجب ذلك بل ولا يجوزه فيمن فعله مرة واحدة، وأما صاحباه فمع سائر الأئمة فيخالفون في أنه يجب القود في القتل، وفي وجوب قتل اللوطي إما مطلقا سواء كان محصنا أو غير محصن كمذهب مالك وأحمد في أشهر روايتيه والشافعي في أحد قوليه. وإما أن يكون حده مثل حد الزاني كقول صاحبي أبي حنيفة والشافعي في أشهر قوليه وأحمد في أحد روايتيه.
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يوافق القول الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الذي أحلت امرأته له جاريتها مائة، وجلد أبو بكر وعمر رجلا وجد مع امرأة في فراش مائة، وعمر بن الخطاب ضرب الذي زور عليه خاتمه فأخذ من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني، والثالث مائة مائة. وليس هذا موضع بسط أصناف التعزير فإنها كثيرة الشعب.
فأما ضرب المتهم إذا عرف أن المال عنده وقد كتمه وأنكره ليقر بمكانه فهذا لا ريب فيه، فإنه ضرب ليؤدي الواجب من التعريف بمكانه، كما يضرب / ليؤدي ما عليه من المال الذي يقدر على وفائه، وقد جاء في ذلك حديث ابن عمر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء سأل زيد بن سعية عم حيي بن أخطب، فقال: (أين كنز حيي بن أخطب؟) فقال: يا محمد، أذهبته الحروب، فقال للزبير: (دونك هذا)، فمسه الزبير بشيء من العذاب فدلهم عليه في خربة، وكان حليا في مسك ثور، فهذا أصل في ضرب المتهم الذي علم أنه ترك واجبا أو فعل محرما، والله أعلم.
الدعاوي التي يحكم فيها ولاة الأمور، سواء سموا قضاة، أو ولاة، أو تسمي بعضهم في بعض الأوقات ولاة الأحداث، أو ولاة المظالم، أو غير ذلك من الأسماء العرفية الاصطلاحية، فإن حكم الله ـ تبارك وتعالى ـ شامل لجميع الخلائق. وعلى كل من ولي أمر الأمة أو حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والقسط، وأن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشرع المنزل من عند الله، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25]، وقال تعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [النساء: 58]، وقال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا اليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } [النساء: 105]، وقال تعالى: { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ } [المائدة: 48].
فالدعاوي قسمان: دعوي تهمة، وغير تهمة. فدعوي التهمة أن يدعي فعلا يحرم على المطلوب، يوجب عقوبته، مثل قتل، أو قطع طريق / أو سرقة، أو غير ذلك من أنواع العدوان المحرم كالذي يستخفي به بما يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة.
وغير التهمة أن يدعي دعوي عقد من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو دعوي لا يكون فيها سبب فعل محرم، مثل دين ثابت في الذمة من ثمن بيع، أو قرض، أو صداق، أو دية خطأ، أو غير ذلك.
فكل من القسمين قد يكون دعوي حد لله ـ عز وجل ـ محض، كالشرب والزنا، وقد يكون حقًا محضًا لآدمي كالأموال. وقد يكون فيه الأمران، كالسرقة، وقطع الطريق.
فهذان القسمان إذا أقام المدعي فيه حجة شرعية وإلا فالقول قول المدعي عليه مع يمينه؛ لما روي مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطي الناس بدعواهم لإدعي ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه). وفي رواية في الصحيحين، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي باليمين على المدعي عليه، فهذا الحديث نص أن أحدًا لا يعطي بمجرد دعواه، ونص في أن الدعوي المتضمنة للإعطاء تجب فيها اليمين ابتداء على المدعي عليه، وليس فيه أن الدعاوي الموجبة للعقوبات لا توجب إلا اليمين على المدعي عليه، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال / للأنصار لما اشتكوا اليه لأجل قتيلهم الذي قتل بخيبر، وهو عبد الله بن سهل، فجاء الى النبي صلى الله عليه وسلم أخوه عبد الله وأبناء عمه حويصة ومحيصة وكان محيصة معه بخيبر، وقال: (أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم) قالوا: وكيف نحلف، ولم نشهد، ولم نر؟ قال: (فتبريكم يهود بخمسين يمينًا)، قالوا: وكيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟ أخرجه أصحاب الصحاح والسنن جميعهم، مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وفي رواية في الصحيحين، قال: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بشاهد ويمين . رواه الترمذي وابن ماجه من حديث جابر . ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة. وهذه الأحاديث أصح وأشهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الباب. وابن عباس الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضي باليمين مع الشاهد وأن هذا قضي به في دعاوي وقضي بهذا في دعاوي.
وأما الحديث المشهور في ألسنة الفقهاء (البينة على من ادعي واليمين على من أنكر) فهذا قد روي أيضًا، لكن ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة، إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبي حنيفة وغيره، فإنهم / يرون اليمين دائمًا في جانب المنكر، حتي في القسامة يحلفون المدعي عليه، ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولايرون اليمين على المدعي عند النكول، واستدلوا بعموم هذا الحديث.
وأما سائر علماء الملة من أهل المدينة ومكة والشام وفقهاء الحديث وغيرهم ـ مثل ابن جريج، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم ـ فتارة يحلفون المدعي، وتارة يحلفون المدعي عليه، كما جاءت بذلك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأصل عند جمهورهم أن اليمين مشروعة في أقوي الجانبين. والبينة عندهم اسم لما يبين الحق. وبينهم نزاع في تفاريع ذلك، فتارة يكون لوثاً مع أيمان القسامة، وتارة يكون شاهدًا ويمينًا، وتارة يكون دلائل غير الشهود كالصفة للقطة.
وأجابوا عن ذلك الحديث: تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام وأحاديثهم خاصة. وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر وأشهر، فالعمل بها عند التعارض أولي.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طلب البينة من المدعي واليمين من المنكر، في حكومات معينة، ليست من جنس دعاوي التهم،/ مثل ما خرجا في الصحيحين عن الأشعث بن قيس أنه قال: كانت بيني وبين رجل حكومة في بئر ، فاختصمنا الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (شاهداك أو فيمينه) فقلت: إذًا يحلف، ولا يبالى، فقال: (من حلف على يمين صبر يقطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان). وفي رواية، فقال: (بينتك أنها بئرك، وإلا فيمينه)، وعن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي وبيدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: (ألك بينة؟) قال: لا. قال: (فلك يمينه)، فقال: يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، فليس يتورع من شيء، فقال: (ليس لك منه إلا ذلك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل: (أما لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض). رواه مسلم والترمذي وصححه.
ففي هذا الحديث الصحيح أنه لم يوجب على المطلوب إلا اليمين مع ذكر المدعي لفجوره، وقال: (ليس لك منه إلا ذلك)، وكذلك في الحديث الأول كان خصم الأشعث يهوديًا، هكذا جاء في الصحيحين، ومع هذا لم يوجب عليه إلا اليمين، وفي حديث القسامة أن الأنصار لما قالوا: / كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ لم ينكر ذلك عليهم، فعلم أن الدعاوي مختلفة في ذلك.
وهذا القسم لا أعلم فيه نزاعًا، أعني أن القول فيه قول المدعي عليه مع اليمين إذا لم يأت المدعي بحجة شرعية، وهي البينة.
والبينة التي هي الحجة الشرعية. تارة تكون بشاهدين عدلين رجلين، وتارة رجل وامرأتين، وتارة أربعة شهداء، وتارة ثلاثة عند بعض العلماء من أصحاب أحمد وبعض أصحاب الشافعي، وهو دعوي الإفلاس فيمن علم أن له مال، فقد جاء في صحيح مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل المسألة لأحد إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتي يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتي يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجي من قومه يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتي يصيب قوامًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا) ولأن الغني من الأمور الخفية التي تقوي بها التهمة بإخفاء المال. وتارة تكون الحجة شاهدًا ويمين الطالب عند جمهور فقهاء الإسلام من أهل الحجاز وفقهاء الحديث، وتارة تكون الحجة نساء: إما امرأة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وإما امرأتين عند مالك وأحمد في رواية، وإما أربع نسوة عند الشافعي، وتارة تكون الحجة غير ذلك.
/وتارة تكون الحجة اللوث واللطخ والشبهة مع أيمان المدعي خمسين يمينًا، وهي القسامة التي يبدأ فيها بأيمان المدعي عند عامة فقهاء الحجاز وأهل الحديث. وتمتاز عن غيرها بأن اليمين فيها خمسون يمينًا، كما امتازت أيمان اللعان بأن كانت أربع شهادات بالله، لأن كل يمين أقيمت مقام شاهد. والقسامة توجب القود عند مالك وأحمد، وتوجب الدية فقط عند الشافعي. وأهل الرأي لا يحلفون فيها إلا المدعي عليه، كما تقدم، مع أنهم مع تحليفه يوجبون عليه الدية. على تفصيل معروف ليس الغرض هنا ذكره، وإنما الغرض التنبيه على مجامع الأحكام في الدعاوي، فإنه باب عظيم، والحاجة اليه شديدة عامة.
وقد وقع فيه التفريط من بعض ولاة الأمور، والعدوان من بعضهم، ما أوجب الجهل بالحق، والظلم للخلق، وصار لفظ الشرع غير مطابق لمسماه الأصلي، بل لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام:
أحدها: الشرع المنزل، وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ، وغير ذلك، فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله.
والثاني: الشرع المؤول وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم تجب على جميع الخلق موافقته، إلا بحجة لامرد لها من الكتاب والسنة.
/والثالث: الشرع المبدل، مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل والحق حكمًا بغير ما أنزل الله، أو يؤمر فيه بإقرار باطل لإضاعة حق ـ مثل أمر المريض أن يقر لوارث بما ليس بحق ليبطل به حق بقية الورثة ـ فإن الأمر بذلك والشهادة عليه محرمة، وإن كان الحاكم الذي لم يعرف باطن الأمر إذا حكم بما ظهر له من الحق لم يأثم، فقد قال سيد الحكام صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إنكم تختصمون الى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار).
القسم الآخر من الدعاوي دعاوي التهم، وهي دعوي الجناية والأفعال المحرمة، مثل: دعوي القتل؛ وقطع الطريق، والسرقة، والعدوان على الخلق بالضرب وغيره، فهذا ينقسم المدعي عليه الى ثلاثة أقسام: فإن المتهم إما أن يكون ليس من أهل تلك التهمة، أو فاجرًا من أهل تلك التهمة، أو يكون مجهول الحال لا يعرف الحاكم حاله.
فإن كان برًا لم تجز عقوبته بالاتفاق، واختلفوا في عقوبة المتهم له مثل أن يوجد في يد رجل عدل مال مسروق، ويقول ذو اليد: ابتعته من السوق لا أدري / من باعه، فلا عقوبة عليه بالاتفاق، ثم قال أصحاب مالك وغيرهم: يحلف المستحق أنه ملكه ما خرج عن ملكه، ويأخذه، قال هؤلاء: لا يمين على المطلوب، ثم اختلفوا في العقوبة للمتهم له؟ فقال مالك وأشهب: لا أدب على المدعي، إلا أن يقصد أذيته وعيبه وشتمه فيؤدب، وقال أصبغ: يؤدب قصد أذيته أو لم يقصد، وكذلك عامة العلماء يقولون إن الحدود التي لله لا يحلف فيها المدعي عليه، فإذا أخذ المستحق ماله لم يبق على ذوي اليد دعوي إلا لأجل الحد ولا يحلف.
القسم الثاني: أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتي ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام، والمنصوص عند أكثر الأئمة أنه يحبسه القاضي والوالي، هكذا نص عليه مالك وأصحابه، وهو منصوص الإمام أحمد ومحققي أصحابه، وذكره أصحاب أبي حنيفة، وقال الإمام أحمد: قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة، قال أحمد: وذلك حتي يتبين للحاكم أمره، وذلك لما رواه أبو داود في سننه والخلال وغيرهما، عن بهز ابن حكيم، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وروي الخلال عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يومًا وليلة.
والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعي عليه الذي يجب إحضاره وجب على الحاكم إحضاره الى مجلس/الحكم حتي يفصل بينهما ،ويحضره من مسافة الدعوي التي هي عند بعضهم بريد، وهو ما لا يمكن الذهاب اليه والعود في يوم، كما يقوله من قاله من أصحاب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين، وعند بعضهم أن مسافة القصر أربعة برد مسيرة يومين قاصدين كما يقوله أحمد في إحدي الروايتين، ثم الحاكم قد يكون مشغولاً عن تعجيل الفصل، وقد يكون عنده حكومات سابقة، فيبقي المطلوب محبوسًا معوقًا من حين يطلب الى حين يفصل بينه وبين خصمه وهذا حبس بدون التهمة، ففي التهمة أولى.
فإن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه؛ ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسيرًا، كما روي أبو داود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي: الزمه ثم قال: (يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟) وفي رواية ابن ماجه: ثم مر بي آخر النهار، فقال: (ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟) وهذا هو الحبس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حبسًا معداً لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارًا، وجعلها سجنًا، وحبس فيها. ولقد / تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم هل يتخذ الإمام حبسًا؟ على قولين فمن قال: لا يتخذ حبسًا، قال: يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمي الترسيم.
ولهذا لما كان حضور مجلس الحاكم تعويقًا ومنعًا من جنس السجن والحبس تنازع العلماء هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوي أم لا يحضر إذا كان ممن يتبذل بالحضور حتي يبين لمدعي الدعوي أصل؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. والثاني: قول مالك. والأول: قول أبي حنيفة والشافعي.
ومن العلماء من قال: الحبس في التهمة إنما هو للوالى والى الحرب، دون القاضي، وقد ذكرها طائفة من أصحاب الشافعي ـ كأبي عبد الله الزبيري وأقضي القضاة الماوردي، وغيرهما. وطائفة من أصحاب أحمد المصنفين في أدب القضاة وغيرهم.
واختلفوا في مقدار الحبس في التهمة: هل هو مقدر؟ أو مرجعه الى اجتهاد الإمام؟ على قولين، ذكرهما القاضي أبو يعلى، والقاضي الماوردي، وغيرهما. وقيل هو مقدر بشهر، وهو قول أبي عبد الله الزبيري. وقيل: هو غير مقدر، وهو اختيار الماوردي.
/القسم الثالث: أن يكون المتهم معروفا بالفجور، مثل المتهم بالسرقة إذا كان معروفا بها
قبل ذلك، والمتهم بقطع طريق إذا كان معروفا به، والمتهم بالقتل، أو كان أحد هؤلاء معروفًا بما يقتضي ذلك. فإذا جاز حبس المجهول فحبس المعروف بالفجور أولي، وما علمت أحدًا من أئمة المسلمين المتبعين من قال: إن المدعي عليه في جميع هذه الدعاوي يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره من جميع ولاة الأمور، فليس هذا على إطلاقه مذهب أحد من الأئمة، ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع، فهـو غالط غلطًا فاحشًا مخالفًا لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة، وبمثل هذا الغلط الفاحش استجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن مجرد الشرع لا بسياسة العالم وبمصالح الأمة، واعتدوا حدود الله في ذلك. وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج الناس عنه إلي أنواع من البدع السياسية، فهذا القسم فيه مسائل القسامة والحكم فيها معروف، ولا يحتاج إلي ذكرها هاهنا. وأما التهمة في السرقة وقطع الطريق ونحوهما فقد تقدم ذكر الحبس فيهما.
وأما الامتحان بالضرب ونحوه فاختلف فيه: هل يشرع للقاضي والوالي، أم يشرع للوالي دون القاضي؟ أم يشرع الضرب لواحد منهما؟ على ثلاثة أقوال:
/أحدها: أنه يضرب فيها القاضي والوالي، وهذا قول طائفة من العلماء من أصحاب مالك وغيرهم ـ منهم أشهب قاضي مصر ـ قال أشهب: يمتحن بالسجن والأدب، ويضرب بالسوط مجردا.
والقول الثاني: لا يضرب بل يحبس كما تقدم، وهذا قول أصبغ من أصحاب مالك، وقول كثير من الحنفية والشافعية وغيرهم، لكن حبس المتهم عندهم أبلغ من حبس المجهول؛ فلذلك اختلفوا هل يحبس حتي يموت؟ فقال عمر بن عبد العزيز وجماعة من أصحاب مالك ـ كمطرف، وابن الماجشون وغيرهما: أنه يحبس حتي يموت. وهكذا روي عن الإمام أحمد فيمن لم ينته عن بدعته أنه يحبس حتي يموت، وقال مالك: لا يحبس حتي يموت.
والقول الثالث: أنه يضربه الوالي دون القاضي، وهذا القول ذكره طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد؛ كالقاضي أبي الحسن الماوردي، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما. وبسطوا القول في ذلك في كتب الأحكام السلطانية وقالوا: إن ولاة الحرب معتمد العقوبة على الجرائم والمنع من الفساد في الأرض،وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالإجرام، بخلاف ولاية الحكم فإن مقصودها يحصل بدون ذلك، وهذا القول هو قول بجواز ذلك في الشريعة،لكن كل ولي أمر يفعل ما فوض إليه فكما أن والي الصدقات لا يملك من القبض والصرف ما يملكه والي / الخراج،وإن كان كلاهما مالا شرعيا،وكذلك والي الحرب ووالي الحكم كل منهما يفعل ما اقتضته ولايته الشرعية، مع رعاية العدل وأصول الشريعة.
وأما عقوبة من عرف أن الحق عنده وقد جحده أو منعه، فمتفق عليها بين العلماء، ولا أعلم منازعاً في أن من وجب عليه حق من دين أو عين وهو قادر على وفائه، ويمتنع من أنه يعاقب حتي يؤديه، وقد نصوا على عقوبته بالضرب، وذكر ذلك المالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته). رواه أهل السنن مثل أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مطل الغني ظلم)، والظالم يستحق العقوبة.
واتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد. والمعصية نوعان: ترك واجب، أو فعل محرم. إن ترك الواجبات مع قدرته كقضاء الديون، وأداء الأمانات إلي أهلها من الوكالات والودائع وأموال اليتامي والوقوف والأموال السلطانية. أورد المغصوب والمظالم، فإنه يعاقب حتي يؤديها.
وكذلك من وجب عليه إحضار نفس؛ لاستيفاء حق وجب عليه، مثل أن يقطع رجل الطريق ويفر إلي بعض ذوي قدرة فيحول بينه وبين أخذ الحدود والحقوق منه، فهذا محرم بالاتفاق، وقد روي مسلم في صحيحه عن / على، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من أحدث حدثا أو آوي محدثا)، وروي أبو داود في سننه عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتي ينزع. ومن حالت شفاعته دون حد في حدود الله، فقد ضاد الله في أمره، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتي يخرج مما قال). فما وجب إحضاره من النفوس والأموال استحق الممتنع من فعل الواجب العقوبة حتي يفعله.
وأما إذا كان الإحضار إلي من يظلمه، أو إحضار المال إلي من يأخذه بغير حق. فهذا لا يجب، بل ولا يجوز، فإن الإعانة على الظلم ظلم، قال الله تعالي: {وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2]، وقال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَي} [المجادلة: 9].
وأما مواطن الاشتباه المشتملة على الظلم من الجانبين: مثل ولاة الأموال السلطانية إذا أخذوا ما لا يستحقونه، وكان المستخرج لها ظالمًا في صرفها أيضًا، فهذا ليس على أحد أن يعين الظالم القادر على إبقائها بيده، ولا يعين الظالم الطالب ـ أيضًا ـ في قبضها، بل إن ترجيح أحد الجانبين بنوع من الحق أعان على الحق، وإن كان كل منهما ظالم ولا يمكن صرفها إلي مستحق / عدل بين الظالمين في ذلك، فإن العدل مأمور به في جميع الأمور بحسب الإمكان، ومن العدل في ذلك ألا يمكن أحدهما من البغي على الآخر، بل يفعل أقرب الممكن إلي العدل.
واختلف العلماء إذا أقر حال الامتحان بالحبس أو الضرب: هل يسوغ ذلك؟ فمنهم من قال: يؤخذ بذلك الإقرار إذا ظهر صدقه: مثل أن يخرج السرقة بعينها، ولو رجع عن ذلك بعد الضرب لم يقبل، بل يؤخذ به، وهذا قول أشهب في القاضي والوالي، وهو الذي ذكره القاضيان الماوردي وأبو يعلى في الوالي. ومنهم من قال: لابد من إقرار آخر بعد الضرب وإذا رجع عن الإقرار لم يؤخذ به. وهذا قول ابن القاسم، وكثير من الشافعية والحنبلية وغيرهم.
وأما مقدار الضرب فإذا كان الضرب على ترك واجب: مثل أن يضرب حتي يؤدي الواجب، فهذا لا يتقدر، بل يضرب يوما فإن فعل الواجب وإلا ضرب يومًا آخر، لكن لا يزيد كل مرة على التعزير عند من يقدر أعلاه.
وقد تنازع العلماء في مقدار أعلا التعزير الذي يقام بفعل المحرمات على أقوال:
/أحدها ـ وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : أنه لا يبلغ في التعزير في كل جريمة الحد المقدر فيها، وإن زاد على حد مقدر في غيرها، فيجوز التعزير في المباشرة المحرمة، وفي السرقة من غير حرز بالضرب الذي يزيد على حد القذف، ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع.
القول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير أدني الحدود: إما أربعين، وإما ثمانين، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة.
والقول الثالث: ألا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره.
وعلى القول الأول: هل يجوز أن يبلغ بها القتل، مثل قتل الجاسوس المسلم؟ في ذلك قولان:
أحدهما: قد يبلغ بها القتل، فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة، وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كابن عقيل، وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعي وأحمد في قتل الداعية إلي البدع، ومن لا يزول فساده إلا بالقتل، وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلي البدع، كالقدرية ونحوهم.
والقول الثاني: أنه لا يقتل الجاسوس، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقاضي أبي يعلى من أصحاب أحمد / والمنصوص عن أحمد التوقف في المسألة.
وممن يجوز التعزير بالقتل في الذنوب الكبار: أصحاب أبي حنيفة في مواضع يسمون القتل فيها سياسة، كقتل من تكرر لواطه، أو قتله بالمثقل، فإنهم يجوزون قتله سياسة وتعزيرًا، وإن كان أبو حنيفة لا يوجب ذلك بل ولا يجوزه فيمن فعله مرة واحدة، وأما صاحباه فمع سائر الأئمة فيخالفون في أنه يجب القود في القتل، وفي وجوب قتل اللوطي إما مطلقا سواء كان محصنا أو غير محصن كمذهب مالك وأحمد في أشهر روايتيه والشافعي في أحد قوليه. وإما أن يكون حده مثل حد الزاني كقول صاحبي أبي حنيفة والشافعي في أشهر قوليه وأحمد في أحد روايتيه.
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يوافق القول الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الذي أحلت امرأته له جاريتها مائة، وجلد أبو بكر وعمر رجلا وجد مع امرأة في فراش مائة، وعمر بن الخطاب ضرب الذي زور عليه خاتمه فأخذ من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني، والثالث مائة مائة. وليس هذا موضع بسط أصناف التعزير فإنها كثيرة الشعب.
فأما ضرب المتهم إذا عرف أن المال عنده وقد كتمه وأنكره ليقر بمكانه فهذا لا ريب فيه، فإنه ضرب ليؤدي الواجب من التعريف بمكانه، كما يضرب / ليؤدي ما عليه من المال الذي يقدر على وفائه، وقد جاء في ذلك حديث ابن عمر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء سأل زيد بن سعية عم حيي بن أخطب، فقال: (أين كنز حيي بن أخطب؟) فقال: يا محمد، أذهبته الحروب، فقال للزبير: (دونك هذا)، فمسه الزبير بشيء من العذاب فدلهم عليه في خربة، وكان حليا في مسك ثور، فهذا أصل في ضرب المتهم الذي علم أنه ترك واجبا أو فعل محرما، والله أعلم.
عدد المشاهدات *:
464881
464881
عدد مرات التنزيل *:
263397
263397
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013