اختر السورة


برنامج تلاوة القرآن الكريم
برنامج مراجعة القرآن الكريم
برنامج استظهار القرآن الكريم
يوم الخميس 10 شوال 1445 هجرية
? ?? ?????? ?????? ???? ????? ?????????? ??????????????????? ??????????????????? ??????

مواقع إسلامية

جمعية خيركم
منتدى الأصدقاء
مدونة إبراهيم
مدونة المهاجر

بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
اللهم صل و سلم على نبيك محمد و على آله و صحبه أجمعين

العلم

لحظة من فضلك



المواد المختارة

المدرسة العلمية :


Safha Test

بسم الله الرحمن الرحيم     السلام عليكم و رحمة الله و بركاته    مرحبا بك أخي الكريم مجددا في موقعك المفضل     المحجة البيضاء     موقع الحبر الترجمان الزاهد الورع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما    
مجموع فتاوى ابن تيمية
المجلد الثامن عشر
علوم الحديث
شرح حديث حديث عمران بن حصين
فصل: شرح حديث حديث عمران بن حصين ـ تتمة ـ
مجموع فتاوى ابن تيمية

وبعضهم يظن أن من خالف ذلك فقد قال‏:‏ بقِدَم العالم، ووافق الفلاسفة الدهرية؛ لأنه نظر في كثير من كتب الكلام فلم يجد فيها إلا قولين‏:‏ قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم؛ إما صورته وإما مادته، سواء قيل‏:‏ هو موجود بنفسه، أو معلول لغيره‏.‏ وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام؛ الجهمية، والمعتزلة، والكرامية، الذين يقولون‏:‏ إن/الرب لم يزل لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بشيء، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب أصلاً‏.‏
وطائفة أخرى كالكلابية ـ ومن وافقهم ـ يقولون‏:‏ بل الكلام قديم العين؛ إما معني واحد، وإما أحرف وأصوات قديمة أزلية قديمة الأعيان، ويقول هؤلاء‏:‏ إن الرب لم يزل لا يفعل شيئًا، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم حدث ما يحدث بقدرته ومشيئته؛ إما قائمًا بذاته، أو منفصلا عنه عند من يجوز ذلك، وإما منفصلا عنه عند من لم يجوز قيام ذلك بذاته‏.‏
ومعلوم أن هذا القول أشبه بما أخبرت به الرسل من أن اللّه خالق كل شيء، وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام‏.‏ فمن ظن أنه ليس للناس إلا هذان القولان ـ وكان مؤمنًا بأن الرسل لا يقولون إلا حقًا ـ يظن أن هذا قول الرسل ومن اتبعهم‏.‏ ثم إذا طولب بنقل هذا القول عن الرسل لم يمكنه ذلك، ولم يمكن لأحد أن يأتي بآية ولا حديث يدل على ذلك، لا نصًا ولا ظاهرًا، بل ولا يمكنه أن ينقل ذلك عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان‏.‏
وقد جعلوا ذلك معني حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول/ الدين عندهم‏.‏ فيبقي أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم، ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول قاله، ولا في العقل ما يدل عليه، بل العقل والسمع يدل على خلافه‏.‏ ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين اللّه ورسوله لا يعلم أن الرسول جاء به كان من أضل الناس في دينه‏.‏
الوجه الثاني عشر‏:‏ أنهم لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتًا لحدوث الأجسام، فلزمهم ـ على ذلك ـ نفي صفات الرب ـ عز وجل ـ ،وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بل كلامه مخلوق منفصل عنه، وكذلك رضاه وغضبه، والتزموا على ذلك أن اللّه لا يُرَي في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، إلى غير ذلك من اللوازم التي نفوا بها ما أثبته اللّه ورسوله، وكان حقيقة قولهم تكذيبًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتَسَلّط أهل العقول على تلك الحجج التي لهم، فبينوا فسادها‏.‏
وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم ونسوا فساده‏.‏ ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه باطل، قالوا‏:‏ إن الرسول لم يبين /الحقائق سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به‏.‏ فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان‏:‏ قول أولئك المتكلمين وقولهم‏.‏ وقد رأوا أن قول أولئك باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلا، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث اللّه به رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
الوجه الثالث عشر‏:‏ أن الغلط في معني هذا الحديث هو من عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل والمعقول الصريح؛ فإنه أوقع كثيرًا من النظار وأتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين‏:‏ قول الدهرية القائلين بالقدم، وقول الجهمية القائلين بأنه لم يزل معطلا عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصي منهم، ومنهم من صرح بذلك عن نفسه كما صرح به الرازي وغيره‏.‏
ومن أعظم أسباب ذلك أنهم نظروا في حقيقة قول الفلاسفة فوجدوا أنه لم يزل المفعول المعين مقارنًا للفاعل أزلا وأبدًا، وصريح/العقل يقتضي بأنه لابد أن يتقدم الفاعل على فعله، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارنًا له لم يتقدم الفاعل عليه، بل هو معه أزلا وأبدًا ـ أمر يناقض صريح العقل‏.‏ وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقا يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن‏.‏ ولهذا كان ما أخبر اللّه به في كتابه من أنه خلق السموات والأرض مما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم تكونا، وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر، ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية كابن سينا وأمثاله‏.‏
وأما جمهور الفلاسفة الدهرية ـ كأرسطو وأتباعه ـ فلا يقولون‏:‏ إن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء، بل قولهم، وإن كان أشد فسادًا من قول متأخريهم، فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء، وإن كانوا خالفوه من جهات أخري، ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم، فوجدوا أن الفاعل صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلا، ورأوا صريح العقل يقتضي بأنه إذا صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا، فلابد من حدوث شيء، وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكنا بعد أن كان ممتنعًا بلا حدوث، وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث،وأن حدوث جنس الوقت ممتنع، فصاروا/يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل، وأنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن فيكون الفعل معه، فيكون الفعل مقارنًا غير مقارن بأن كان بعد أن لم يكن حادثًا مسبوقًا بالعدم، فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقا بالعدم، ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقا بالعدم، ووجدوا عقولهم تقصر عما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي، والجمع بين النقيضين ممتنع، فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك‏.‏
ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل، فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة، ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات؛ وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلما بشيء بعد شيء دائمًا، وكون الفاعل يفعل شيئًا بعد شيء دائمًا، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول‏:‏ كل واحد من أفعاله لابد أن يكون مسبوقا بالفاعل وأن يكون مسبوقا بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلا وأبدًا وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلا بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حيًا، وقيل‏:‏ إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث، كالبخاري والدارمي، وغيرهما، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء وبما شاء، ونحو ذلك، كما قاله ابن المبارك وأحمد، وغيرهما/من أئمة أهل الحديث والسنة ـ كان كونه متكلما أو فاعلا من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلما فعالا، مع العلم بأن الحي يتكلم ويفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سـواه محدث مخلوق، ولا نقول‏:‏ إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق له قـدرة والذي ليس له قـدرة هو عاجز، ولكن نقول‏:‏ لم يزل اللّه عالمًا قادرًا مالكا، لا شبه له ولا كيف‏.‏
فليس مع اللّه شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدر أنه لم يزل خالقًا فعالا‏.‏
وإذا قيل‏:‏إن الخلق صفة كمال؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ ، أمكن أن تكون خالقيته دائمة وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع اللّه شيء قديم‏.‏ وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلا غير قادر على الفعل ثم يصير قادرًا، والفعل ممكنًا له بلا سبب‏.‏ وأما جعل المفعول المعين مقارنًا له أزلًا وأبدًا فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارنًا لمفعوله أزلا وأبدًا مخالف لصريح المعقول‏.‏
/فهؤلاء الفلاسفة الدهرية،وإن ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعلية،فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية، وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى، ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1ـ 5‏]‏ فأطلق الخلق، ثم خص الإنسان، وأطلق التعليم ثم خص التعليم بالقلم، والخلق يتضمن فعله، والتعليم يتضمن قوله، فإنه يعلم بتكليمه وتكليمه بالإيحاء، وبالتكلم من وراء حجاب، وبإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إليكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ ، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1 ـ 5‏]‏ ‏.‏
وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم، فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارنًا له أزلًا وأبدًا، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولا له، فإن الفاعل لابد أن يتقدم على فعله، وعندهم أنه لا يعلم شيئًا من جزئيات العلم، والتعليم فرع العلم، فمن لم يعلم الجزئيات يمتنع/ أن يعلمها غيره، وكل موجود فهو جزئي لا كلي، كذا الكليات إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان، فإذا لم يعلم شيئًا من الجزئيات لم يعلم شيئًا من الموجودات، فامتنع أن يعلم غيره شيئًا، من العلم بالموجودات المعينة‏.‏
ومن قال منهم‏:‏ لا يعلم لا كليًا ولا جزئيًا فقوله أقبح‏.‏ ومن قال‏:‏ يعلم الكليات الثابتة دون المتغيرة فهو عندهم لا يعلم شيئًا من الحوادث، ولا يعلمها لأحد من خلقه، كما يقتضي قولهم أنه لم يخلقها، فعلى قولهم لا خلق ولا علم ـ وهذا حقيقة قول مقدمهم أرسطو، فإنه لم يثبت أن الرب مبدع للعالم، ولا جعله علة فاعلة، بل الذي أثبته أنه علة غائية يتحرك الفلك لتشبهه به كتحريك المعشوق للعاشق، وصرح بأنه لا يعلم الأشياء، فعنده لا خلق ولا علم‏.‏ وأول ما أنزل اللّه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1 ـ 5‏]‏ ‏.‏
الوجه الرابع عشر‏:‏ أن اللّه تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته، وهي المخلوقات المشهودة الموجودة من السموات والأرض وما بينهما، فأخبر في الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب/أهدي منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش‏.‏
وشرع لأهل الإيمان أن يجتمعوا كل أسبوع يومًا يعبدون اللّه فيه ويحتفلون بذلك، ويكون ذلك آية على الأسبوع الأول الذي خلق اللّه فيه السموات والأرض‏.‏ ولما لم يعرف الأسبوع إلا بخبر الأنبياء فقد جاء في لغتهم عليهم السلام أسماء أيام الأسبوع، فإن التسمية تتبع النصوص، فالاسم يعبر عما تصوره، فلما كان تصور اليوم والشهر والحول معروفًا بالعقل تصورت ذلك الاسم وعبرت عن ذلك، وأما الأسبوع، فلما لم يكن في مجرد العقل ما يوجب معرفته، فإنما عرف بالسمع صارت معرفته عند أهل السمع المتلقين عن الأنبياء دون غيرهم، وحينئذ فأخبروا الناس بخلق هذا العالم الموجود المشهود وابتداء خلقه، وأنه خلقه في ستة أيام، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئًا بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما‏.‏ وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلا‏.‏
ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ‏:‏ قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم‏.‏ رواه البخاري‏.‏ فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم ببدء الخلق إلى دخول أهل الجنة والنار منازلهما‏.‏
/وقوله ‏:‏ ‏(‏بدأ الخلق‏)‏ مثل قوله في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏قدر اللّه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏)‏ فإن الخلائق ـ هنا ـ المراد بها الخلائق المعروفة المخلوقة بعد خلق العرش وكونه على الماء؛ ولهذا كان التقدير للمخلوقات هو التقدير لخلق هذا العالم، كما في حديث القلم‏:‏‏(‏إن اللّه لما خلقه قال‏:‏ اكتب قال‏:‏ وماذا أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏
وكذلك في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء‏)‏ وقوله في الحديث الآخر الصحيح‏:‏‏(‏كان اللّه ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض‏)‏، يراد به أنه كتب كل ما أراد خلقه من ذلك؛ فإن لفظ كل شيء يعم في كل موضع بحسب ما سِيقَت له، كما في قوله‏:‏ ‏{‏بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ ، و‏{‏على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏ و ‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏ ، ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ ، و‏{‏فَتَحْنَا عليهمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ ، ‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏ وأخبرت الرسل بتقدم أسمائه وصفاته كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 158‏]‏ ، ‏{‏سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ ، ‏{‏غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ ، وأمثال ذلك‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ ‏[‏كان ولا يزال‏]‏ ‏.‏ ولم يقيد كونه بوقت دون وقت/ ويمتنع أن يحدث له غيره صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره سبحانه، فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك‏.‏ فلا يتوقف شيء من كماله ولوازم كماله على غيره، بل نفسه المقدسة، وهو المحمود على ذلك أزلا وأبدًا، وهو الذي يحمد نفسه ويثني عليها بما يستحقه‏.‏ وأما غيره فلا يحصي ثناء عليه، بل هو نفسه كما أثني على نفسه، كما قال سيد ولد آدم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏‏.‏
وإذا قيل‏:‏ لم يكن متكلما ثم تكلم، أو قيل‏:‏ كان الكلام ممتنعًا ثم صار ممكنًا له، كان هذا ـ مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال، ومع تشبيهه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال ـ ممتنعًا من جهة أن الممتنع لا يصير ممكنًا بلا سبب، والعدم المحض لا شيء فيه‏.‏ فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكنًا بلا سبب حادث‏.‏
وكذلك إذا قيل‏:‏ كلامه كله معني واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا في الحقيقة تعطيلا للكلام، وجمعًا بين المتناقضين؛ إذ هو إثبات لموجود لا حقيقة له، بل يمتنع أن يكون موجودًا مع أنه لا مدح فيه ولا كمال‏.‏
/وكذلك إذا قيل‏:‏ كلامه كله قديم العين، وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده في المعقول لا كمال فيه؛ إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه‏.‏
أما قول من يقول‏:‏ ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره، فهذا تعطيل للكلام من كل وجه، وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية، وهو سَلْب للصفات؛ إذ فيه من التناقض والفساد ـ حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه ـ ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهى، ويخبر ويبشر، وينذر وينادي، من غير أن يقوم به شيء من ذلك، كما قالوا‏:‏ إنه يريد ويحب ويبغض ويغضب، من غير أن يقوم به شيء من ذلك، وفي هذا من مخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ماهو مذكور في غير هذا الموضع‏.‏
وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف؛ ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره، ولم يكن كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس‏.‏ من المعقولات والمتخيلات، وهذا معني تكليمه لموسي ـ عليه السلام ـ عندهم، فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم‏.‏ ثم إذا قالوا مع ذلك‏:‏ إنه لا يعلم الجزئيات، فلا علم ولا إعلام، وهذا غاية التعطيل والنقص، وهم ليس لهم دليل قط/ على قدم شيء من العالم، بل حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل، وأنه لم يزل الفاعل فاعلا أو لم يزل لفعله مدة، أو أنه لم يزل للمادة مادة‏.‏ وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك، ولا قدم شيء من حركاته، ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك‏.‏ والرسل أخبرت بخلق الأفلاك، وخلق الزمان الذي هو مقدار حركتها، مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك، وفي زمان قبل هذا الزمان، فإنه ـ سبحانه ـ أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وسواء قيل‏:‏ إن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها، أو قيل‏:‏ إنها أكبر منها، كما قال بعضهم‏:‏ إن كل يوم قدره ألف سنة، فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك‏.‏ وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السموات والأرض‏.‏
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه‏:‏‏{‏اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ ، فخلقت من الدخان، وقد جاءت الآثار عن السلف أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ على الْمَاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ ، فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في مدة ومن مادة،ولم يذكر القرآن خلق شيء/من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئا، كما قال‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 9‏]‏ ، مع إخباره أنه خلقه من نطفة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 53‏]‏ فيها قولان‏.‏
فالأكثرون على أن المراد أم خلقوا من غير خالق بل من العدم المحض‏؟‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏ ، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏ ‏.‏
وقيل‏:‏ أم خلقوا من غير مادة‏؟‏ وهذا ضعيف؛ لقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏أّمً هٍمٍ بًخّالٌقٍونّ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 53‏]‏ ، فدل ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق، أم هم الخالقون‏؟‏ ولو كان المراد من غير مادة لقال‏:‏ أم خلقوا من غير شيء، أم من ماء مهين‏؟‏ فدل على أن المراد أنا خالقهم لا مادتهم‏.‏
ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في إيمانهم بالخالق بل دل على جهلهم، ولأنهم لم يظنوا ذلك ولا يوسوس الشيطان لابن آدم بذلك، بل كلهم يعرفون/ أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم، ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم، ولا يمنع كفرهم‏.‏ والاستفهام استفهام إنكار، مقصوده تقريرهم أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقًا خلقهم نفعهم ذلك، وأما إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغن ذلك عنهم من اللّه شيئًا‏.‏
الوجه الخامس عشر‏:‏ أن الإقرار بأن اللّه لم يزل يفعل ما يشاء، ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به، وما سوي ذلك نقص يجب نفيه عنه، فإن كونه لم يكن قادرًا ثم صار قادرًا على الكلام أو الفعل مع أنه وصف له، فإنه يقتضي أنه كان ناقصًا عن صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته، والتي هي من أظهر صفات الكمال، فهو ممتنع في العقل بالبرهان اليقيني، فإنه إذا لم يكن قادرًا ثم صار قادرًا فلابد من أمر جعله قادرًا بعد أن لم يكن، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادرًا بعد أن لم يكن، وكذلك يمتنع أن يصير عالما بعد أن لم يكن قبل هذا، بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم ولا قادر، ثم جعله غيره عالمًا قادرًا، وكذلك إذا قالوا‏:‏ كان غير متكلم ثم صار متكلما‏.‏
وهذا مما أورده الإمام أحمد على الجهمية؛ إذ جعلوه كان غير متكلم ثم صار متكلما‏.‏ قالوا‏:‏ كالإنسان ، قال‏:‏ فقد جمعتم بين تشبيه وكفر‏.‏ وقد حكيت ألفاظه في غير هذا الموضع‏.‏
/وإذا قال القائل‏:‏ كان في الأزل قادرًا على أن يخلق فيما لا يزال، كان هذا كلاما متناقضًا؛ لأنه في الأزل عندهم لم يكن يمكنه أن يفعل، ومن لم يمكنه الفعل في الأزل امتنع أن يكون قادرًا في الأزل؛ فإن الجمع بين كونه قادرًا وبين كون المقدور ممتنعًا جمع بين الضدين، فإنه في حال امتناع الفعل لم يكن قادرًا‏.‏
وأيضًا، يكون الفعل ينتقل من كونه ممتنعًا إلى كونه ممكنًا بغير سبب موجب يحدد ذلك وعدم ممتنع‏.‏
وأيضًا، فما من حال يقدرها العقل إلا والفعل فيها ممكن وهو قادر، وإذا قدر قبل ذلك شيئًا شاءه اللّه فالأمر كذلك، فلم يزل قادرًا والفعل ممكن، وليس لقدرته وتمكنه من الفعل أول، فلم يزل قادرًا يمكنه أن يفعل، فلم يكن الفعل ممتنعًا عليه قط‏.‏
وأيضًا، فإنهم يزعمون أنه يمتنع في الأزل، والأزل ليس شيئًا محدودًا يقف عنده العقل، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة، حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها، وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة فني الخردل كله والأزل لم ينته، ولو قدر أضعاف ذلك أضعافا لا ينتهي‏.‏ فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل/ ذلك‏.‏ وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكنًا‏.‏ وإذا كان ممكنًا، فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهي‏؟‏
وأيضًا، فالأزل معناه‏:‏ عدم الأولية، ليس الأزل شيئًا محدودًا، فقولنا‏:‏ لم يزل قادرًا بمنزلة قولنا‏:‏ هو قادر دائمًا، وكونه قادرًا وصف دائم لا ابتداء له، فكذلك إذا قيل‏:‏ لم يزل متكلما إذا شاء، ولم يزل يفعل ماشاء، يقتضي دوام كونه متكلما وفاعلا بمشيئته وقدرته، وإذا ظن الظَّانُّ أن هذا يقتضي قدم شيء معه كان من فساد تصوره، فإنه إذا كان خالق كل شيء فكل ما سواه مخلوق مسبوق بالعدم، فليس معه شيء قديم بقدمه‏.‏ وإذا قيل‏:‏ لم يزل يخلق، كان معناه لم يزل يخلق مخلوقا بعد مخلوق، كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقا بعد مخلوق، ننفي ما ننفيه من الحوادث والحركات شيئًا بعد شيء وليس في ذلك إلا وصفه بدوام الفعل، لا بأن معه مفعولا من المفعولات بعينه‏.‏
وإن قدر أن نوعها لم يزل معه، فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من كماله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ ، والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، وبين الأزل في المستقبل مع أنه في الماضي حدث بعد أن لم يكن؛ إذ كان كل مخلوق فله ابتداء، ولا نجزم أن يكون له انتهاء‏.‏
/وهذا فرق في أعيان المخلوقات، وهو فرق صحيح، لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين، كما اشتبه ذلك على كثير من الناس في الكلام، فلم يفرقوا بين كون كلامه قديمًا بمعني أنه لم يزل متكلما إذا شاء، وبين كون الكلام المعين قديمًا‏.‏
وكذلك لم يفرقوا بين كون الفعل المعين قديمًا، وبين كون نوع الفعل المعين قديمًا، كالفلك محدث مخلوق مسبوق بالعدم، وكذلك كل ما سواه، وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة والآثار، وهو الذي تدل عليه المعقولات الصريحة الخالصة من الشبه، كما قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع،وبينا مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح‏.‏
وإن غلط أهل الفسلفة والكلام، أو غيرهم فيهما، أو في أحدهما ، وإلا فالقول الصدق المعلوم بعقل أو سمع يصدق بعضه بعضًا، لا يكذب بعضه بعضًا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏ ، بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَي على اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 68‏]‏ ، وإنما مدح من جاء بالصدق وصدق بالحق الذي جاءه‏.‏ وهذه حال من لم يقبل إلا الصدق، ولم يرد ما يجيئه به غيره من الصدق، بل قبله ولم يعارض بينهما ولم يدفع أحدهما بالآخر،/وحال من كذب على اللّه ونسب إليه بالسمع أو العقل ما لا يصح نسبته إليه، أو كذب بالحق لما جاءه، فكذب من جاء بحق معلوم من سمع أو عقل، وقال تعالى عن أهل النار‏:‏ ‏{‏لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏ ، فأخبر أنه لو حصل لهم سمع أو عقل ما دخلوا النار، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَي الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَي الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏ ، أي ‏:‏ أن القرآن حق، فأخبر أنه سَيُرِي عباده الآيات المشهودة المخلوقة، حتى يَتَبَّين أن الآيات المتْلُوَّة المسموعة حق‏.‏ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك‏.‏
فطائفة ـ كأرسطو وأتباعه ـ قالت‏:‏ لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثا، وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلا لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثا بعد أن لم يكن حادثا، مع أن قبل وبعد لا يكون إلا في زمان، وهذه القضايا كلها إنما تصدق كلية لا تصدق معينة، ثم ظنوا أن الحركة المعينة ـ وهي حركة الفلك ـ هي /القديمة الأزلية وزمانها قديم، فضلوا ضلالا مبينًا مخالفًا لصحيح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، مع مخالفته لصريح المعقول الذي عليه جمهور العقلاء من الأولين والآخرين‏.‏
وطائفة طنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون فاعل الجميع لم يزل معطلا، ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلا، وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادرًا بعد أن لم يكن بلا سبب، وكان الشيء بعد مالم يكن في غير زمان، وأمثال ذلك مما يخالف صريح العقل‏.‏
وهم يظنون ـ مع ذلك ـ أن هذا قول أهل الملل من المسلمين وإليهود والنصاري، وليس هذا القول منقولا عن موسي، ولا عيسي، ولا محمد صلوات اللّه عليهم وسلامه، ولا عن أحد من أصحابهم، إنما هو مما أحدثه بعض أهل البدع، وانتشر عند الجهال بحقيقة أقوال الرسل وأصحابهم، فظنوا أن هذا قول الرسل صلى الله عليهم وسلم ، وصار نسبة هذا القول إلى الرسل وأتباعهم يوجب القدح فيهم؛ إما بعدم المعرفة بالحق في هذه المطالب العالية، وإما بعدم بيان الحق‏.‏ وكل منهما يوجب عند هؤلاء أن يعزلوا الكتاب والسنة وآثار السلف عن الاهتداء‏.‏
/وإنما ضلوا لعدم علمهم بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضي اللّه عنهم ـ والتابعون لهم بإحسان‏.‏ فإن اللّه ـ تعالى ـ أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي باللّه شهيدًا‏.‏

عدد المشاهدات *:
355832
عدد مرات التنزيل *:
249926
حجم الخط :

* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة

- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013

مجموع فتاوى ابن تيمية

روابط تنزيل : فصل: شرح حديث حديث عمران بن حصين ـ تتمة ـ
 هذا رابط   لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
أرسل إلى صديق
. بريدك الإلكتروني :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
. بريد صديقك :   أدخل بريد إلكتروني صحيح من فضلك
اضغط هنا لتنزيل البرنامج / المادةاضغط هنا لتنزيل  فصل: شرح حديث حديث عمران بن حصين ـ تتمة ـ
اضغط هنا للطباعة طباعة
 هذا رابط  فصل: شرح حديث حديث عمران بن حصين ـ تتمة ـ لمن يريد استعماله في المواقع و المنتديات
يمكنكم استخدام جميع روابط المحجة البيضاء في مواقعكم بالمجان
مجموع فتاوى ابن تيمية


@designer
1