فَصْـــل
وقد تنازع العلماء في التيمم: هل يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، أم الحدث قائم ولكنه تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع؟ وهذه مسألة نظرية.
وتنازعوا هل يقوم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء؟ على قولين مشهورين وهو نزاع عملي.
فمذهب أبي حنيفة أنه يتيمم قبل الوقت، ويبقي بعد الوقت، ويصلي به ما شاء كالماء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، والثوري، وغيرهم. وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل.
والقول الثاني: أنه لا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعد خروجه. ثم من هؤلاء من يقول: يتيمم لوقت كل صلاة، ومنهم من يقول: يتيمم لفعل كل فريضة، ولا يجمع به فرضين. وغلا بعضهم فقال: ويتيمم لكل نافلة، وهذا القول في الجملة هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وأحمد. قالوا: لأنه طهارة ضرورية، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها، فإذا تيمم في وقت يستغني عن التيمم فيه لم يصح تيممه، كما لو تيمم مع وجود الماء.
قالوا: ولأن الله أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد الماء تيمم، وكان ظاهر الخطاب يوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء والتيمم لكن لما ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. رواه مسلم في صحيحه، دلت السنة على جواز تقديم الوضوء قبل وقت وجوبه، وبقي التيمم على ظاهر الخطاب، وعلل ذلك بعضهم بأنه مأمور بطلب الماء عند كل صلاة، وذلك يبطل تيممه.
وورد عن علي، وعمرو بن العاص، وابن عمر، مثل قولهم. ولنا أنه قد ثبت بالكتاب والسنة: أن التراب طهور، كما أن الماء طهور. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك خير) فجعله مطهرًا عند عدم الماء مطلقًا. فدل على أنه مطهر للمتيمم. وإذا كان قد جعل المتيمم مطهرًا كما أن المتوضئ مطهر، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل أن خروج الوقت يبطل، كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء، دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول.
فإن التيمم بدل عن الماء، والبدل يقوم مقام المبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلاً له في صفته، كصيام الشهرين، فإنه بدل عن الاعتاق وصيام الثلاث والسبع فإنه بدل عن الهدي في التمتع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين فإنه بدل عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المبدل، وهذا لازم لمن يقيس التيمم على الماء في صفته، فيوجب المسح على المرفقين، وإن كانت آية التيمم مطلقة، كما قاس عمار لما تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة، فمسح جميع بدنه كما يغسل جميع بدنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فساد هذا القياس، وأنه يجزئك من الجنابة التيمم الذي يجزئك في الوضوء، وهو مسح الوجه واليدين؛ لأن البدل لا تكون صفته كصفة المبدل، بل حكمه حكمه، فإن التيمم مسح عضوين، وهما العضوان المغسولان في الوضوء، وسقط العضوان الممسوحان، والتيمم عن الجنابة يكون في هذين العضوين بخلاف الغسل.
والتيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق، بخلاف الوضوء، والتيمم لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث، بخلاف الوضوء، والتيمم يفارق صفة الوضوء من وجوه، ولكن حكمه حكم الوضوء؛ لأنه بدل منه، فيجب أن يقوم مقامه كسائر الأبدال، فهذا مقتضي النص والقياس.
فإن قيل: الوضوء يرفع الحدث، والتيمم لا يرفعه.
قيل: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه؛ فإن الشارع جعله طهورًا عند عدم الماء يقوم مقامه، فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما يثبت للماء، ما لم يقم دليل شرعي على خلاف ذلك.
الوجه الثاني: أن يقال:قول القائل: يرفع الحدث أو لا يرفعه ليس تحته نزاع عملي، وإنما هو نزاع اعتباري لفظي، وذلك أن الذين قالوا: لا يرفع الحدث، قالوا: لو رفعه لم يعد إذا قدر على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء.
والذين قالوا: يرفع الحدث، إنما قالوا برفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، فلم يتنازعوا في حكم عملي شرعي، ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة تخصيص العلة، وأن المناسبة هل تنخرم بالمعارضة، وأن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه مع بقاء ذاته ؟
وكشف الغطاء عن هيئة النزاع، أن لفظ العلة يراد به العلة التامة وهو مجموع ما يستلزم الحكم، بحيث إذا وجد وجد الحكم، ولا يتخلف عنه، فيدخل في لفظ العلة على هذا الاصطلاح جبر العلة وشروطها، وعدم المانع؛ إما لكون عدم المانع يستلزم وصفًا ثبوتيا على رأي، وإما لكون العدم قد يكون جبرًا من المقتضي على رأي، وهذه العلة متي تخصصت وانتقضت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها، كما لو علل معلل قصر الصلاة بمطلق العذر. قيل له: هذا باطل، فإن المريض ونحوه من أهل الأعذار لا يقصرون، وإنما يقصر المسافر خاصة، فالقصر دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، ودوران الحكم مع الوصف وجودًا وعدمًا دليل على المدار عليه للدائر، وكما لو علل وجوب الزكاة بمجرد ملك النصاب، قيل له: هذا ينتقض بالملك قبل الحول.
وقد يراد بلفظ العلة ما يقتضي الحكم، وإن توقف على ثبوت شروط وانتفاء موانع.
وقد يعبر عن ذلك بلفظ السبب، فيقال: الأسباب المثبتة للإرث ثلاثة: رحم، ونكاح، وولاء. وعند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين يثبت بعقد الموالاة وغيرها، فالعلة هنا قد يتخلف عنها الحكم المانع: كالرق، والقتل، واختلاف الدين.
فإذا أريد بالعلة هذا المعنى جاز تخصيصها لفوات شرط ووجود مانع. فأما إن لم يبين المعلل بين صورة النقض وبين غيرها فرقًا مؤثرًا بطل تعلىله، فإن الحكم اقترن بالوصف تارة كما في الأصل، وتخلف عنه تارة كما في الأصل، ويختلف عنه تارة كما في صورة النقض.
والمستدل إن لم ييبن أن الفرع مثل الأصل دون صورة النقض، فلم يكن إلحاقه بالأصل في ثبوت الحكم أولى من إلحاقه بصورة النقض في انتفائه؛ لأن الوصف موجود في الصور الثلاث، وقد اقترن به الحكم في الواحدة دون الأخرى، وشككنا في الصورة الثالثة.
وهذا كما لو اشترك ثلاثة في القتل: فقتل الأولىاء واحدًا، ولم يقتلوا آخر إما لبذل الدية، وإما لإحسان كان له عندهم، والثالث لم يعرف أهو كالمقتول أو كالمعفو عنه، فإنا لا نلحقه بأحدهما إلا بدليل يبين مساواته له دون مساواته للآخر.
إذا عرف هذا فالأصوليون والفقهاء متنازعون في استحلال الميتة عند الضرورة، فمنهم من يقول: قد استحل المحظور مع قيام السبب الحاظر، وهو ما فيها من حيث التغذية.
ومنهم من يقول: الضرورة ما أزالت حكم السبب وهو التحريم إزالة اقتضاء للحظر، فلم يبق في هذه الحال حاظر؛ إذ يمتنع زوال الحظر مع وجود مقتضيه التام.
وفصل النزاع: أنه إن أريد بالسبب الحاظر السبب التام، وهو ما يستلزم الحظر، فهذا يرتفع عند المخمصة، فإن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والحل ثابت في هذه الحال، فيمتنع وجود السبب المستلزم له. وإن أريد بالسبب المقتضي للحظر لولا المعارض الراجح، فلا ريب أن هذا موجود حال الحظر، لكن المعارض الراجح أزال اقتضاءه للحظر، فلم يبق في هذه الحال مقتضيا، فإذا قدر زوال المخمصة عمل السبب عمله لزوال المعارض له.
وهكذا القول في كون التيمم يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإنه فرع على قول من يقول: إنه يرفع الحدث، فصاحب هذا القول إذا تبين له أنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود هذا المعنى ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، والماء يكون طهورًا إذا أزال الحدث،وإلا مع وجود الجنابة يمتنع حصول الطهارة، فصاحب هذا القول إنما قال: إنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود، وهذا ممكن ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، وإنما يكون طهورًا إذا أزال الحدث، وإلا فمع بقاء الحدث لا يكون طهورًا.
ومن قال: إنه ليس برافع ولكنه مبيح، والحدث هو المانع للصلاة، وأراد بذلك أنه مانع تام، كما يكون مع وجود الماء، فهذا غالط، فإن المانع التام مستلزم للمنع، والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها، ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع. وإن أريد أن سبب المنع قائم ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه، فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال، فهذا صحيح.
وكذلك من قال: هو رافع للحدث.إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء، فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطًا، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع: أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله، وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية، بخلاف الماء.
وإن قال: أريد برفعه أنه رفع منع المانع فلم يبق مانعًا إلى حين وجود الماء، فقد أصاب، وليس بين القولين نزاع شرعي عملي.
وعلى هذا فيقال: على كل من القولين لم يبق الحدث مانعًا مع وجود طهارة التيمم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا، لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء، ولم يشترط في كونه مطهرًا شرطًا آخر، فالمتيمم قد صار طاهرًا وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء، فما لم يجد الماء فالمنع زائل، إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة، كما يوجب طهارة الماء، وحينئذ فيكون طهورًا قبل الوقت وبعد الوقت وفي الوقت، كما كان الماء طهورًا في هذه الأحوال الثلاثة، وليس بين هذا فرق مؤثرًا إلا إذا قدر على استعمال الماء، فمن أبطله بخروج الوقت فقد خالف موجب الدليل.
وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك رخصة عامة لأمته، ولم يفصل بين أن يقصد التيمم بفرض أو نفل، أو تلك الصلاة أو غيرها كما لو يفصل في ذلك في الوضوء، فيجب التسوية بينهما، والوضوء قبل الوقت فيه نزاع، لكن النزاع في التيمم أشهر.
وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر، كلاهما متطهر فعل ما أمر الله به؛ ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، كما فعل عمرو بن العاص وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما فعل ابن عباس حيث وطئ جارية له ثم صلى بأصحابه بالتيمم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ومذهب أبي يوسف، وغيره. لكن محمد بن الحسن لم يجوز ذلك؛ لنقص حال المتيمم.
وأيضًا، كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سببا حادثا لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة؛ إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواء. والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها، فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة، لا يبطل بالأزمنة، وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع.
فإن قيل: هذا ينتقض بطهارة الماسح على الخفين، وطهارة المستحاضة، وذوي الأحداث الدائمة.
قيل: أما طهارة المسح على الخفين فليست واجبة، بل هو مخير بين المسح وبين الخلع والغسل؛ ولهذا وقتها الشارع، ولم يوقتها بدخول وقت صلاة، ولا خروجها، ولكن لما كانت رخصة ليست بعزيمة حد لها وقتًا محدودًا في الزمن، ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم؛ ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى، ولهذا لما كانت طهارة المسح على الجبيرة عزيمة لم تتوقت بل يمسح عليها، إلى أن يحلها، ويمسح في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما يتيمم عن الحدثين الأصغر والأكبر، فإلحاق التيمم بالمسح على الجبيرة أولى من إلحاقه بالمسح على الخفين.
وأما ذوو الأحداث الدائمة: كالمستحاضة، فأولئك وجد في حقهم السبب الموجب للحدث، وهو خروج الخارج النجس من السبيلين، ولكن لأجل الضرورة رخص لهم الشارع في الصلاة معه، فجاز أن تكون الرخصة مؤقتة؛ ولهذا لو تطهرت المستحاضة ولم يخرج منها شيء لم تنتقض طهارتها بخروج الوقت، وإنما تنتقض إذا خرج الخارج في الوقت فإنها تصلي به إلى أن يخرج الوقت، ثم لا تصلي لوجود الناقض للطهارة بخلاف المتيمم، فإنه لم يوجد بعد تيممه ما ينقض طهارته.
والتيمم كالوضوء فلا يبطل تيممه إلا مايبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناء على قولنا، وقول من وافقنا على التوقيت في مسح الخفين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة، فإن هذا مذهب الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
وأما من لم ينقض الطهارة بهذا، أو لم يوقت هذا كمالك، فإنه لا يصلح لمن قال بهذا القول المعارضة بهذا وهذا؛ فإنه لا يتوقت عنده لا هذا ولا هذا، فالتيمم أولى أن لا يتوقت.
وقول القائل: إن القائم إلى الصلاة مأمور بإحدى الطهارتين.
قيل: نعم، يجب عليه، لكن إذا كان قد تطهر قبل ذلك فقد أحسن،وأتي بالواجب قبل هذا، كما لو توضأ قبل هذا، فإن كونه على طهارة قبل الوقت إلى حين الوقت أحسن من أن يبقي محدثًا، وكذلك المتيمم إذا كان قد أحسن بتقديم طهارته لكونه على طهارة قبل الوقت أحسن من كونه على غير طهارة، وقد ثبت بالكتاب والسنة أنها طهارة، حتى ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه السلام، وقال: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهر).
وإذا كان تطهر قبل الوقت كان قد أحسن، وأتي بأفضل مما وجب عليه، وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدي أكثر من الواجب في الزكاة، وغيرها، وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كله حسن، إذا لم يكن محظورًا، كزيادة ركعة خامسة في الصلاة. والتيمم مع عدم الماء حسن ليس بمحرم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة، ولمس المصحف، وقراءة القرآن، وما ذكر من الأثر عن بعض الصحابة فبعضه ضعيف، وبعضه معارض بقول غيره، ولا إجماع في المسألة. وقد قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
وقد تنازع العلماء في التيمم: هل يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، أم الحدث قائم ولكنه تصح الصلاة مع وجود الحدث المانع؟ وهذه مسألة نظرية.
وتنازعوا هل يقوم مقام الماء، فيتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويصلي به ما شاء من فروض ونوافل، كما يصلي بالماء، ولا يبطل بخروج الوقت، كما لا يبطل الوضوء؟ على قولين مشهورين وهو نزاع عملي.
فمذهب أبي حنيفة أنه يتيمم قبل الوقت، ويبقي بعد الوقت، ويصلي به ما شاء كالماء، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والزهري، والثوري، وغيرهم. وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل.
والقول الثاني: أنه لا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعد خروجه. ثم من هؤلاء من يقول: يتيمم لوقت كل صلاة، ومنهم من يقول: يتيمم لفعل كل فريضة، ولا يجمع به فرضين. وغلا بعضهم فقال: ويتيمم لكل نافلة، وهذا القول في الجملة هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي، وأحمد. قالوا: لأنه طهارة ضرورية، والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها، فإذا تيمم في وقت يستغني عن التيمم فيه لم يصح تيممه، كما لو تيمم مع وجود الماء.
قالوا: ولأن الله أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد الماء تيمم، وكان ظاهر الخطاب يوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء والتيمم لكن لما ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. رواه مسلم في صحيحه، دلت السنة على جواز تقديم الوضوء قبل وقت وجوبه، وبقي التيمم على ظاهر الخطاب، وعلل ذلك بعضهم بأنه مأمور بطلب الماء عند كل صلاة، وذلك يبطل تيممه.
وورد عن علي، وعمرو بن العاص، وابن عمر، مثل قولهم. ولنا أنه قد ثبت بالكتاب والسنة: أن التراب طهور، كما أن الماء طهور. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك خير) فجعله مطهرًا عند عدم الماء مطلقًا. فدل على أنه مطهر للمتيمم. وإذا كان قد جعل المتيمم مطهرًا كما أن المتوضئ مطهر، ولم يقيد ذلك بوقت، ولم يقل أن خروج الوقت يبطل، كما ذكر أنه يبطله القدرة على استعمال الماء، دل ذلك على أنه بمنزلة الماء عند عدم الماء، وهو موجب الأصول.
فإن التيمم بدل عن الماء، والبدل يقوم مقام المبدل في أحكامه، وإن لم يكن مماثلاً له في صفته، كصيام الشهرين، فإنه بدل عن الاعتاق وصيام الثلاث والسبع فإنه بدل عن الهدي في التمتع، وكصيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين فإنه بدل عن التكفير بالمال، والبدل يقوم مقام المبدل، وهذا لازم لمن يقيس التيمم على الماء في صفته، فيوجب المسح على المرفقين، وإن كانت آية التيمم مطلقة، كما قاس عمار لما تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة، فمسح جميع بدنه كما يغسل جميع بدنه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فساد هذا القياس، وأنه يجزئك من الجنابة التيمم الذي يجزئك في الوضوء، وهو مسح الوجه واليدين؛ لأن البدل لا تكون صفته كصفة المبدل، بل حكمه حكمه، فإن التيمم مسح عضوين، وهما العضوان المغسولان في الوضوء، وسقط العضوان الممسوحان، والتيمم عن الجنابة يكون في هذين العضوين بخلاف الغسل.
والتيمم ليس فيه مضمضة ولا استنشاق، بخلاف الوضوء، والتيمم لا يستحب فيه تثنية ولا تثليث، بخلاف الوضوء، والتيمم يفارق صفة الوضوء من وجوه، ولكن حكمه حكم الوضوء؛ لأنه بدل منه، فيجب أن يقوم مقامه كسائر الأبدال، فهذا مقتضي النص والقياس.
فإن قيل: الوضوء يرفع الحدث، والتيمم لا يرفعه.
قيل: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنه سواء كان يرفع الحدث أو لا يرفعه؛ فإن الشارع جعله طهورًا عند عدم الماء يقوم مقامه، فالواجب أن يثبت له من أحكام الطهارة ما يثبت للماء، ما لم يقم دليل شرعي على خلاف ذلك.
الوجه الثاني: أن يقال:قول القائل: يرفع الحدث أو لا يرفعه ليس تحته نزاع عملي، وإنما هو نزاع اعتباري لفظي، وذلك أن الذين قالوا: لا يرفع الحدث، قالوا: لو رفعه لم يعد إذا قدر على استعمال الماء، وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يبطل بالقدرة على استعمال الماء.
والذين قالوا: يرفع الحدث، إنما قالوا برفعه رفعًا مؤقتًا إلى حين القدرة على استعمال الماء، فلم يتنازعوا في حكم عملي شرعي، ولكن تنازعهم ينزع إلى قاعدة أصولية تتعلق بمسألة تخصيص العلة، وأن المناسبة هل تنخرم بالمعارضة، وأن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا يرفعه اقتضاؤه مع بقاء ذاته ؟
وكشف الغطاء عن هيئة النزاع، أن لفظ العلة يراد به العلة التامة وهو مجموع ما يستلزم الحكم، بحيث إذا وجد وجد الحكم، ولا يتخلف عنه، فيدخل في لفظ العلة على هذا الاصطلاح جبر العلة وشروطها، وعدم المانع؛ إما لكون عدم المانع يستلزم وصفًا ثبوتيا على رأي، وإما لكون العدم قد يكون جبرًا من المقتضي على رأي، وهذه العلة متي تخصصت وانتقضت فوجد الحكم بدونها دل على فسادها، كما لو علل معلل قصر الصلاة بمطلق العذر. قيل له: هذا باطل، فإن المريض ونحوه من أهل الأعذار لا يقصرون، وإنما يقصر المسافر خاصة، فالقصر دائر مع السفر وجودًا وعدمًا، ودوران الحكم مع الوصف وجودًا وعدمًا دليل على المدار عليه للدائر، وكما لو علل وجوب الزكاة بمجرد ملك النصاب، قيل له: هذا ينتقض بالملك قبل الحول.
وقد يراد بلفظ العلة ما يقتضي الحكم، وإن توقف على ثبوت شروط وانتفاء موانع.
وقد يعبر عن ذلك بلفظ السبب، فيقال: الأسباب المثبتة للإرث ثلاثة: رحم، ونكاح، وولاء. وعند أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين يثبت بعقد الموالاة وغيرها، فالعلة هنا قد يتخلف عنها الحكم المانع: كالرق، والقتل، واختلاف الدين.
فإذا أريد بالعلة هذا المعنى جاز تخصيصها لفوات شرط ووجود مانع. فأما إن لم يبين المعلل بين صورة النقض وبين غيرها فرقًا مؤثرًا بطل تعلىله، فإن الحكم اقترن بالوصف تارة كما في الأصل، وتخلف عنه تارة كما في الأصل، ويختلف عنه تارة كما في صورة النقض.
والمستدل إن لم ييبن أن الفرع مثل الأصل دون صورة النقض، فلم يكن إلحاقه بالأصل في ثبوت الحكم أولى من إلحاقه بصورة النقض في انتفائه؛ لأن الوصف موجود في الصور الثلاث، وقد اقترن به الحكم في الواحدة دون الأخرى، وشككنا في الصورة الثالثة.
وهذا كما لو اشترك ثلاثة في القتل: فقتل الأولىاء واحدًا، ولم يقتلوا آخر إما لبذل الدية، وإما لإحسان كان له عندهم، والثالث لم يعرف أهو كالمقتول أو كالمعفو عنه، فإنا لا نلحقه بأحدهما إلا بدليل يبين مساواته له دون مساواته للآخر.
إذا عرف هذا فالأصوليون والفقهاء متنازعون في استحلال الميتة عند الضرورة، فمنهم من يقول: قد استحل المحظور مع قيام السبب الحاظر، وهو ما فيها من حيث التغذية.
ومنهم من يقول: الضرورة ما أزالت حكم السبب وهو التحريم إزالة اقتضاء للحظر، فلم يبق في هذه الحال حاظر؛ إذ يمتنع زوال الحظر مع وجود مقتضيه التام.
وفصل النزاع: أنه إن أريد بالسبب الحاظر السبب التام، وهو ما يستلزم الحظر، فهذا يرتفع عند المخمصة، فإن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والحل ثابت في هذه الحال، فيمتنع وجود السبب المستلزم له. وإن أريد بالسبب المقتضي للحظر لولا المعارض الراجح، فلا ريب أن هذا موجود حال الحظر، لكن المعارض الراجح أزال اقتضاءه للحظر، فلم يبق في هذه الحال مقتضيا، فإذا قدر زوال المخمصة عمل السبب عمله لزوال المعارض له.
وهكذا القول في كون التيمم يرفع الحدث أو لا يرفعه، فإنه فرع على قول من يقول: إنه يرفع الحدث، فصاحب هذا القول إذا تبين له أنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود هذا المعنى ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، والماء يكون طهورًا إذا أزال الحدث،وإلا مع وجود الجنابة يمتنع حصول الطهارة، فصاحب هذا القول إنما قال: إنه يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا إلى أن يقدر على استعمال الماء ثم يعود، وهذا ممكن ليس بممتنع، والشرع قد دل عليه، فجعل التراب طهورًا، وإنما يكون طهورًا إذا أزال الحدث، وإلا فمع بقاء الحدث لا يكون طهورًا.
ومن قال: إنه ليس برافع ولكنه مبيح، والحدث هو المانع للصلاة، وأراد بذلك أنه مانع تام، كما يكون مع وجود الماء، فهذا غالط، فإن المانع التام مستلزم للمنع، والمتيمم يجوز له الصلاة ليس بممنوع منها، ووجود الملزوم بدون اللازم ممتنع. وإن أريد أن سبب المنع قائم ولكن لم يعمل عمله لوجود الطهارة الشرعية الرافعة لمنعه، فإذا حصلت القدرة على استعمال الماء حصل منعه في هذه الحال، فهذا صحيح.
وكذلك من قال: هو رافع للحدث.إن أراد بذلك أنه يرفعه كما يرفعه الماء، فلا يعود إلا بوجود سبب آخر كان غالطًا، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع: أنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله، وإن لم يتجدد بعد الجنابة الأولى جنابة ثانية، بخلاف الماء.
وإن قال: أريد برفعه أنه رفع منع المانع فلم يبق مانعًا إلى حين وجود الماء، فقد أصاب، وليس بين القولين نزاع شرعي عملي.
وعلى هذا فيقال: على كل من القولين لم يبق الحدث مانعًا مع وجود طهارة التيمم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا، لكن جعل طهارته مقيدة إلى أن يجد الماء، ولم يشترط في كونه مطهرًا شرطًا آخر، فالمتيمم قد صار طاهرًا وارتفع منع المانع للصلاة إلى أن يجد الماء، فما لم يجد الماء فالمنع زائل، إذا لم يتجدد سبب آخر يوجب الطهارة، كما يوجب طهارة الماء، وحينئذ فيكون طهورًا قبل الوقت وبعد الوقت وفي الوقت، كما كان الماء طهورًا في هذه الأحوال الثلاثة، وليس بين هذا فرق مؤثرًا إلا إذا قدر على استعمال الماء، فمن أبطله بخروج الوقت فقد خالف موجب الدليل.
وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك رخصة عامة لأمته، ولم يفصل بين أن يقصد التيمم بفرض أو نفل، أو تلك الصلاة أو غيرها كما لو يفصل في ذلك في الوضوء، فيجب التسوية بينهما، والوضوء قبل الوقت فيه نزاع، لكن النزاع في التيمم أشهر.
وإذا دلت السنة الصحيحة على جواز أحد الطهورين قبل الوقت، فكذلك الآخر، كلاهما متطهر فعل ما أمر الله به؛ ولهذا جاز عند عامة العلماء اقتداء المتوضئ والمغتسل بالمتيمم، كما فعل عمرو بن العاص وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما فعل ابن عباس حيث وطئ جارية له ثم صلى بأصحابه بالتيمم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ومذهب أبي يوسف، وغيره. لكن محمد بن الحسن لم يجوز ذلك؛ لنقص حال المتيمم.
وأيضًا، كان دخول الوقت وخروجه من غير تجدد سببا حادثا لا تأثير له في بطلان الطهارة الواجبة؛ إذ كان حال المتطهر قبل دخول الوقت وبعده سواء. والشارع حكيم إنما يثبت الأحكام ويبطلها بأسباب تناسبها، فكما لا يبطل الطهارة بالأمكنة، لا يبطل بالأزمنة، وغيرها من الأوصاف التي لا تأثير لها في الشرع.
فإن قيل: هذا ينتقض بطهارة الماسح على الخفين، وطهارة المستحاضة، وذوي الأحداث الدائمة.
قيل: أما طهارة المسح على الخفين فليست واجبة، بل هو مخير بين المسح وبين الخلع والغسل؛ ولهذا وقتها الشارع، ولم يوقتها بدخول وقت صلاة، ولا خروجها، ولكن لما كانت رخصة ليست بعزيمة حد لها وقتًا محدودًا في الزمن، ثلاثًا للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم؛ ولهذا لم يجز المسح في الطهارة الكبرى، ولهذا لما كانت طهارة المسح على الجبيرة عزيمة لم تتوقت بل يمسح عليها، إلى أن يحلها، ويمسح في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما يتيمم عن الحدثين الأصغر والأكبر، فإلحاق التيمم بالمسح على الجبيرة أولى من إلحاقه بالمسح على الخفين.
وأما ذوو الأحداث الدائمة: كالمستحاضة، فأولئك وجد في حقهم السبب الموجب للحدث، وهو خروج الخارج النجس من السبيلين، ولكن لأجل الضرورة رخص لهم الشارع في الصلاة معه، فجاز أن تكون الرخصة مؤقتة؛ ولهذا لو تطهرت المستحاضة ولم يخرج منها شيء لم تنتقض طهارتها بخروج الوقت، وإنما تنتقض إذا خرج الخارج في الوقت فإنها تصلي به إلى أن يخرج الوقت، ثم لا تصلي لوجود الناقض للطهارة بخلاف المتيمم، فإنه لم يوجد بعد تيممه ما ينقض طهارته.
والتيمم كالوضوء فلا يبطل تيممه إلا مايبطل الوضوء، ما لم يقدر على استعمال الماء، وهذا بناء على قولنا، وقول من وافقنا على التوقيت في مسح الخفين، وعلى انتقاض الوضوء بطهارة المستحاضة، فإن هذا مذهب الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
وأما من لم ينقض الطهارة بهذا، أو لم يوقت هذا كمالك، فإنه لا يصلح لمن قال بهذا القول المعارضة بهذا وهذا؛ فإنه لا يتوقت عنده لا هذا ولا هذا، فالتيمم أولى أن لا يتوقت.
وقول القائل: إن القائم إلى الصلاة مأمور بإحدى الطهارتين.
قيل: نعم، يجب عليه، لكن إذا كان قد تطهر قبل ذلك فقد أحسن،وأتي بالواجب قبل هذا، كما لو توضأ قبل هذا، فإن كونه على طهارة قبل الوقت إلى حين الوقت أحسن من أن يبقي محدثًا، وكذلك المتيمم إذا كان قد أحسن بتقديم طهارته لكونه على طهارة قبل الوقت أحسن من كونه على غير طهارة، وقد ثبت بالكتاب والسنة أنها طهارة، حتى ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه السلام، وقال: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهر).
وإذا كان تطهر قبل الوقت كان قد أحسن، وأتي بأفضل مما وجب عليه، وكان كالمتطهر للصلاة قبل وقتها، وكمن أدي أكثر من الواجب في الزكاة، وغيرها، وكمن زاد على الواجب في الركوع والسجود، وهذا كله حسن، إذا لم يكن محظورًا، كزيادة ركعة خامسة في الصلاة. والتيمم مع عدم الماء حسن ليس بمحرم، ولهذا يجوز قبل الوقت للنافلة، ولمس المصحف، وقراءة القرآن، وما ذكر من الأثر عن بعض الصحابة فبعضه ضعيف، وبعضه معارض بقول غيره، ولا إجماع في المسألة. وقد قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
عدد المشاهدات *:
481179
481179
عدد مرات التنزيل *:
265023
265023
حجم الخط :
* : عدد المشاهدات و التنزيل منذ 18/04/2013 ، هذا العدد لمجموع المواد المتعلقة بموضوع المادة
- تم تسجيل هذه المادة بالموقع بتاريخ : 18/04/2013